كان شعاره “أن تكون مترجماً مُهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً”. واستهدى إلى هذا الشعار مبكراً، حين قرر أن يمزق روايته الأولى، ويتفرغ للترجمة من الأسبانية للعربية بعدما فشل في دراسة الطب في أسبانيا العام 1970. وصار شائعاً كيف ذهب علماني في طريق الترجمة، فقد روى مرات عديدة أمام أصدقائه وفي بعض الندوات، أنه بعدما درس الطب لعام واحد، قرر أن يتركه عندما قرأ رواية “مائة عام من العزلة”، ليعمل في مرفأ برشلونة.
صديق له دلّه على رواية “مائة عام من العزلة” التي كانت قد صدرت في العام 1967، وشكلت الرواية صدمة له بلُغتها وعوالمها، وقرر أن يترجمها إلى العربية، فترجم منها فصلين ثم تركها، ونسيها حين عاد إلى سوريا، لكن ماركيز بقي يشده، وترجم له قصصاً عديدة، وكان أول عمل روائي يترجمه لهذا الكاتب الذي كان في أوج صعوده هو “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”، وكان ذلك في العام 1979، ولأنها لقيت أصداء إيجابية، قرر أن يتوقف عن كتابة الرواية، ومزق روايته الأولى، واحترف الترجمة.
صدمة ماركيز أخذت علماني من الطب إلى الترجمة، وجعلته يعزف عن كتابة الرواية، وحسناً فعل لأنه خدم الثقافتين العربية، والأميركية اللاتينية الناطقة بالاسبانية، كما لم تخدمها وزارات ثقافة بأكملها. وهناك حادثة تروى عن الروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا (جائزة نوبل 2010)، الذي كان يتعاقد على إصدار كتبه لتصدر الطبعة الفرنسية والأسبانية في وقت واحد، لكن في زيارة له إلى أحد البلدان العربية فوجئ بقارئ يطلب منه توقيعاً على إحدى رواياته المترجمة إلى العربية، وهي لم تكن قد صدرت بالأسبانية والفرنسية، وكان علماني عن طريق علاقاته مع دور النشر الأسبانية قد حصل على الرواية ونقلها للعربية بسرعة وجرى نشرها، وكان ذلك سبقاً. وهنا يشار إلى أن يوسا أشاد بترجمات علماني، ونُقل عنه قوله: “أسهم صالح علماني بعمله كمترجم في نشر الأدب الأميركي اللاتيني في العالم العربي، وبفضله صار عدد كبير منا، نحن الكتّاب الأميركيين اللاتينيين، مقروءًا ومعروفًا في الشرق”. والدليل على المكانة التي حازتها ترجماته، تدخُّل العديد من كتّاب أميركا اللاتينية الكبار من أجل حصوله مع عائلته على الإقامة الدائمة، ووجهوا رسالة إلى وزارة الثقافة الأسبانية تشيد بترجماته “نقلِ إبداعات اللغة الإسبانية إلى العربية”، وهذا ما حصل عندما غادر دمشق بعد قيام الثورة رغم أنه اختار صف النظام، وكان ذلك مبعث صدمة كبيرة من قبل معجبيه وأصدقائه.
لم يركز على ماركيز ويوسا وايزابيل الليندي، بل ترجم عشرات الكتّاب، وكل هؤلاء قامات عالية وبعضهم مترجم إلى لغات أخرى وحائز على جائزة نوبل، وبالتالي فإن فضل علماني على قرّاء العربية كبير، وذلك لأنه اختار كتّاب الصفوة، ونقل الأعمال من الأسبانية وليس عبر لغة وسيطة، إضافة إلى السرعة في الترجمة التي كانت تصل في الفترة الوسيطة من عمره إلى عشرين صفحة في اليوم، وهذا يعني أنه كان يترجم رواية في الشهر، الأمر الذي يفسر أنه ترجم أكثر من مائة كتاب. ولم تكن السرعة من أجل الربحية التي تنشدها دور النشر أو على حساب النوعية، ومستوى اللغة الخاصة في الترجمة التي تمكن من نحت قاموس به. ومع علماني، ندرك أن الترجمة الجيدة ليست نقلًا للنص فحسب، بل هي إعادة خلقه من جديد بلغة أخرى، وهو ما يحتاج من المترجم معرفة ودراية بالعربية وجمالياتها، ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجَم عنها وهذه مسألة لم يبرع فيها إلا قلة. ولذلك تبدو الأعمال التي ترجمها علماني وكأنها مكتوبة باللغة العربية، وهذا أمر يعاكس منطق الترجمة الحرفية التي تقتل روح النص، ويرى علماني إن المترجم موجود في أعماله، وهو شريك للكاتب في العمل، ويدلل على ذلك برأي الهيئات القانونية في إسبانيا، التي تعتبر المترجم “مؤلّفاً للترجمة”.
اللغة الإسبانية شبيهة بالعربية من حيث اللهجات، وهذا يصعّب من مهمة المترجم، وتغلب علماني على هذه العقبة التي شكا منها، لكن الأصعب هو أن أدب أميركا اللاتينية غني بالمحلية التي تعتمد الفولكلور والأساطير والخرافات، وهذه قضايا تختلف من منطقة إلى أخرى، ومع ذلك تمكن المترجم من تجاوز هذه المسألة، ويعود الفضل إلى تعمقه في ثقافات شعوب تلك المنطقة، ومتابعة تطوراتها وتحولاتها الديموغرافية والثقافية. ومسألة المعاجم من الأسبانية إلى العربية والعكس، لم تعد هي المشكلة في العقد الأخير، لكن المشكلة تكمن في اختلاف الكلمات الإسبانية من بلد إلى آخر. فالكثير من الكلمات له دلالة مختلفة من بلد إلى آخر، وعلى المترجم أن يبحث وراء الدلالة من أجل أن تكون ترجمته دقيقة. وقال علماني في سياق حوار أنه درس في كوبا (عمل مترجماً في السفارة الكوبية في دمشق) تاريخ أميركا اللاتينية حتى يستطيع فهم السياق الذي يترجم عنه. وأكثر من ذلك، فهو تعمق في أساليب الكتّاب وصار متخصصاً جداً في هذه المسألة، وهو اعتبر أن ماركيز يمكن أن يوصف بالشاعر، في الوقت الذي يوصف فيه يوسا بالمهندس المعماري. وأن ماركيز يكتب الرواية وكأنه يكتب الشعر، فيما يكتب يوسا الرواية وكأنه يبني عمارة. لذلك، إذا أراد أحد تعلم البناء الروائي فعليه بقراءة يوسا، أكثر من ماركيز.
وفي احصاءات غير رسمية يأتي أدب أميركا اللاتينية في الصدارة لدى القراء العرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولا مكتبة عربية في أي بيت تخلو من كتابات ماركيز، ونادراً ما نجد قارئاً عربياً لم يقرأ “مائة عام من العزلة” أو “الحب في زمن الكوليرا”، وبالتالي فإن ذائقة أجيال عربية كاملة تأثرت بهذا الأدب، في وقت كانت الكتابات الغربية هي التي تشكل مصدر ثقافة القارئ العربي، ويعود الفضل في ذلك إلى علماني المترجم البارع الذي تفرّد بذائقة انتقائية، واطلاع واسع ومعرفة في جماليات الأدب. فضل ترجمات علماني من الأدب الاسباني والأميركي اللاتيني، لا ينتهي عند تعريف الكتّاب والقراء العرب الى تيار “الواقعية السحرية” الذي وسم الحركة الروائية في أميركا اللاتينية، بل كان لترجماته أثر في تطور الرواية العربية وفتح آفاقها على ابعاد سردية وتقنيات وجماليات غير مألوفة.
كرّس علماني وقته للرواية ولم يقترب كثيراً من الشعر رغم حبه له، وأظن أنه فعل ذلك بدافع الحب لأن الشعر برأيه عصي على الترجمة، وفي المرات القليلة التي قام بالمحاولة كانت النتيجة ممتازة، فقد ترجم مختارات إسبانية للشاعر رفائيل البرتي، بطلب من محمود درويش من أجل مجلة “شؤون فلسطينية” التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت. ويروي الشاعر الراحل أحمد دحبور، أنه هو الذي قام بتكليف صالح الذي أنجز الترجمة وأرسلها، فما كان من درويش إلا أن اتصل بدحبور ليسأله عن هذا المترجم المبدع، ويصفه بإعجاب كبير: “هذا الرجل ثروة وطنية يجب تأميمها”.
رحل علماني عن عمر ناهز سبعين عاماً قبل أن يضع الكتاب عن تجربته، والذي أجّله كما أجّل فكرة كتابة رواية بعدما قرأ وترجم “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”، وفي الحالين الخسارة كبيرة، خصوصاً تسجيل تجربته مع الترجمة وهي من بين أهم التجارب العربية.
*المدن