لروسية كانت اللغة الرسمية في أوكرانيا حتى انفصالها عن الاتحاد السوفياتي العام 1991. ومنذ ذلك التاريخ حلت محلها اللغة الأوكرانية في صورة رسمية لتصبح لغة الدولة والإدارة، إلا أن الوقت استغرق عشر سنوات لتصبح العام 2001 لغة التعليم والامتحانات المدرسية واحدة في جميع أنحاء البلاد. ورغم سيادة اللغة الروسية لأكثر من قرنين واستخدامها كلغة رسمية في أوكرانيا، فإن الدولة الأوكرانية الجديدة أسقطتها من التعامل، ولم تنل حتى صفة اللغة الثانية، وفق ما هو معمول به في بعض الدول ذات التاريخ المتشابك والتركيبة السكانية التعددية. أما على مستوى الحديث فهناك ما يشبه الفوضى اللغوية ما بين الشرق والغرب والعاصمة، ويتكلم الكثير من السكان الناطقين بالأوكرانية لهجات محلية تتكون من مزيج الروسية بالأوكرانية، وينتشر هذا الخليط اللغوي بشكل خاص في شرق وجنوب البلاد، بينما تحتوي اللهجات المحلية في غرب أوكرانيا على عناصر من اللغة البولندية.
واستخدمت موسكو الموقف من اللغة الروسية، لتصوير حكومة كييف على أنها “فاشية” وعنصرية تمارس الاستبداد على السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا. ووفر القانون الأوكراني الذي يهدف إلى زيادة استخدام اللغة الأوكرانية، مزيدًا من الذرائع للحملة الدعائية الروسية، حيث يهدف قانون اللغة الأوكراني، الذي تم تمريره في عهد سلف الرئيس الحالي فلوديمر زيلينسكي، بيترو بوروشنكو، إلى ترسيخ اللغة الأوكرانية باعتبارها وسيلة الاتصال المهيمنة في البلاد في الأعمال التجارية والمدارس ووسائل الإعلام. ويتوجب على العاملين في مجال الخدمات، على سبيل المثال، التحدث إلى الزبائن باللغة الأوكرانية، ما لم يُطلب منهم على وجه التحديد التحدث باللغة الروسية، وتقوم محطات التلفزيون بث جميع الأفلام والمسلسلات باللغة الأوكرانية.
وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ادعى بأن اللغة الروسية يتم قمعها، وأن المتحدثين بها أصبحوا مهمشين في أوكرانيا، على الرغم من أن نسبة كبيرة من السكان تستمر في استخدام اللغة الروسية في المحادثة، وتشير استطلاعات مختلفة إلى أن حوالي نصف السكان يتحدثون في الغالب الأوكرانية في المنزل وحوالي 30 في المائة يتحدثون الروسية في منازلهم، بينما يتحدث الباقون لغة سورجيك.
وفي الأشهر الأخيرة، عاد المسؤولون الروس إلى التشهير بسياسات اللغة الأوكرانية. وقال بوتين في مؤتمره الصحفي السنوي في موسكو في كانون الأول الماضي “إنهم ببساطة يطردون الروس والسكان الناطقين بالروسية من أراضيهم التاريخية”، ونسي أن مزاعم الحصار اللغوي لعبت دورًا رئيسيًا في تبرير موسكو لضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام 2014، باعتبار أن غالبية السكان في القرم يتحدثون اللغة الروسية.
وبدءا من نهايات القرن الثامن عشر وفي العهد السوفياتي، كان استخدام اللغة الأوكرانية يتناقص تدريجياً، لا سيما في الأوقات التي تكثفت فيها سياسات “الترويس” في ثلاثينيات وأواخر السبعينيات إلى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنها لم تندثر، وبقيت حية تتحدث وتكتب بها أوساط واسعة خارج الفضاء الرسمي، وفرضت الظروف الاستثنائية ولادة لغة أخرى للتفاهم تحمل اسم “سورجيك” يتحدث بها ربع سكان أوكرانيا البالغ عددهم 40 مليون نسمة. ولقيت هذه اللغة رواجًا عندما أصبحت اللغة الروسية هي اللغة المشتركة للمدن الصناعية في قلب أوكرانيا، وكانت البداية من عند الفلاحين، الذين شرعوا في مزج الكلمات الروسية في حديثهم للتواصل مع سكان المدن، ما ولّد شكلا من أشكال اللهجة الأوكرانية. ولا يعود ذلك إلى جهل بالروسية، بل إن القسم الأكبر من الأوكرانيين على معرفة أفضل باللغة الروسية الرسمية منه باللغة الأوكرانية الرسمية، ولكن غالبية هؤلاء لا يخفون نفورهم من اللغة الروسية. حتى أن أسلوب التعامل من قبل الأوكرانيين مع الآخرين يتغير تبعا للغة المستخدمة روسية أم أوكرانية، بمن في ذلك الأجانب الذين يعيشون في كييف.
تعني مفردة “سورجيك” في الأصل الدقيق المصنوع من حبوب منخفضة الجودة، وباتت مصطلحا أوكرانيا يعني “لغة مختلطة غير نقية”، وتفيد الدراسات الخاصة بها أن هذه اللغة تطورت في القرى والبلدات الصغيرة الناطقة بالأوكرانية، حيث كان المتحدثون يفتقرون إلى تعليم رسمي. وحتى اليوم، لا تزال هي اللغة المستخدمة في العديد من البلدات المحيطة بكييف، بما في ذلك بوريسبول، التي تحتضن مطار المدينة الدولي. ويعتقد الدارسون لها أن اللغة الهجينة ستموت موتًا طبيعيًا، طالما أن هناك سياسات تقوم على إحياء اللغة الأوكرانية في حقبة ما بعد الشيوعية. ومع ذلك، وبعيدًا عن التلاشي، فإن هذه اللغة تشهد رواجًا في أعقاب انتعاش اللغة الأوكرانية في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. نظرًا لأن المزيد من المتحدثين باللغة الروسية في المدن يحاولون التحدث باللغة الأوكرانية للتوافق مع الأوضاع المستجدة، ومن ثم ينتهي بهم الأمر عن غير قصد إلى التحدث بشكل معكوس باللغة الهجينة. وهناك ظاهرة ملفتة في كييف تحدثت عنها الصحافة، وتخص الروس الذين يعيشون في العاصمة الأوكرانية ويعملون في مؤسسات خاصة، وقد فرضت الدولة على هؤلاء التحدث بالأوكرانية، والبعض وجد طريقة للتهرب من ذلك من خلال التحدث بلغة السورجيك. وبات مصطلح سورجيك يستخدم بشكل متكرر في الخطاب العام ووسائل الإعلام منذ أن تم رفع اللغة الأوكرانية إلى مرتبة اللغة الرسمية للدولة وأعلنت أوكرانيا استقلالها، وأدت الأيديولوجية الوطنية المتنامية إلى استخدام واسع للمصطلح، والذي يميل إلى أن يكون له دلالات ازدراء للغة الروسية. وجاء في مقال نُشر مؤخرًا في الصحيفة المعروفة في أوكرانيا، Korrespondent، أن الغالبية العظمى من الأوكرانيين يتحدثون الآن سورجيك. حتى أنها ادعت أنه مع خلط الكثير من الأوكرانيين بين اللغتين، فإن حوالي 20 بالمائة فقط من السكان يتحدثون الآن إما الأوكرانية “النقية” أو الروسية “النقية”.
وكانت كييف حتى وقت قريب مدينة ناطقة بالروسية، يتحدث معظم سكانها هذه اللغة. والآن نادرا ما يتم الحديث بالروسية النقية، وحتى المتحدثين بالروسية يطعمون حوارهم بالكلمات الأوكرانية، وهو أمر يشبهه البعض بالمزيج اليومي بين اللغتين الإنكليزية والهندية في دلهي أو مومباي، حيث يتواصل العمال بلغة Hinglish. وغير ذلك تتم التضحية باللغة الروسية لصالح الأوكرانية، في محاولة للظهور بمظهر وطني.
وهناك إجماع على أن السورجي لهجة أوكرانية يفهمها الجميع، ولكن القليل منهم يعترف بها. ثم إن نفور المتشددين الأوكرانيين منها، لا يسقط عنها خاصية أنها مزيج ساحر من الروسية والأوكرانية، وباتت لغة القرى والمدن الأصغر. وفي حين أن غالبية الأوكرانيين تتحدث الأوكرانية والروسية بطلاقة في الأماكن العامة، فإن السورجيك هي الشفرة المتمردة التي يستخدمونها في المنزل. وأصبحت غالبية الأجانب الذين يعيشون في كييف، عن غير قصد، من المتحدثين الخبراء بها، نتيجة حتمية لمخالطة السكان المحليين، الذين ينتقلون بسهولة من الأوكرانية إلى الروسية. ويمكن تبرير ذلك بأن حدود اللغة الأوكرانية للغة الروسية غير مرسومة بوضوح حتى الآن، الأمر الذي استدعى وجود لهجة وسيطة بينهما، تتطور في أوكرانيا تحديدا، ووفقًا للبيانات التي قدمها معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع في عام 2003، وجد أن 11٪ إلى 18٪ من سكان أوكرانيا يتواصلون عن طريقها، في حين تشير معطيات السنوات الأخيرة أن هذه النسبة تضاعفت عدة مرات. ومع وجود نسبة كبيرة من سكان كييف لا يزالون يتحدثون الروسية في المنزل، كما يفعل الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، فإن بعض الخبراء يرى بأن هذا التحول نحو اللغة الأوكرانية لن يكون بدون مفاجآت، نظرًا لأن المتحدثين الروس يتحولون إلى التحدث باللغة الأوكرانية، فإنهم ملزمون بمزج اللغة وتقديم الكلمات الجديدة الخاصة بهم. من المؤكد أن يحصل تطور بشكل معاكس من لغة سورجيك، ومن المحتمل أن تعتنق أوكرانيا هويه ثنائية اللغة، وقد لا يشعر المتحدثون بالروسية بأنهم مضطرون للتبديل من أجل التحدث باللغة الأوكرانية، وعلى ذلك يتوقع البعض أن تظل سورجيك هي اللغة المشتركة غير الرسمية لأوكرانيا لجيل آخر على الأقل.
ولم يتفق البحاثة وعلماء اللغة على تصنيف هذه اللغة التي تتمتع بالتنوع، وتعد مراوغة إلى حد كبير، وتمتلك قدرة على الاستعارة من اللغتين الروسية والأوكرانية، فهي تأخذ من الأوكرانية البلاغة، وتعتمد معجميا على الأوكرانية والروسية. وكظاهرة محددة للحياة اللغوية في أوكرانيا، لا يُنظر إلى لغة سورجيك في الجانب اللغوي فحسب، ولكن أيضًا في المجالات الاجتماعية الثقافية والنفسية اللغوية. وفي ما يخص استخداماتها الكتابية، فإن بعض المؤلفين الأوكرانيين يكتبون بها من أجل خلق تأثير هزلي، بوصفها لغة تجتذب المهمشين. وكانت تستخدم في الرسوم الساخرة الكاركتيرية، حتى خلال الحقبة السوفياتية. وهناك من يعتبر أن الروس استخدموها لتشويه سمعة اللغة الأوكرانية بشكل عام. ويشار هنا إلى فيلم كوميدي شهير في خمسينيات وستينيات القرن الماضي “تارابونكا وشتيبسيل”، وهما عبارة عن نسخة من الثنائي الشهير لوريل وهاردي، ويقدم شتيبسيل الذكي الناطق بالروسية الذي يتفوق باستمرار على شريكه البدائي الغبي الناطق بلغة السورجيك تارابونكا.
*المدن