تشهد فرنسا، منذ التاسع من نيسان الماضي، سلسلة من الفعاليات الاحتفالية بالمئوية الثانية لولادة أحد أكبر شعرائها، شارل بودلير(1821-1867)، الذي يعد أباً للحداثة الشعرية. وأحد هذه الاحتفالات ذو اصفة رمزية في بلدة ألنسون، غربي باريس في منطقة النورماندي، والتي شهدت العام 1857 نشر مجموعة بودلير الشعرية “أزهار الشر”. ورغم أن هذا الكاتب لم يعمّر طويلاً، فإنه سار على طريق الدعوة التي أطلقها ذات يوم “قضاء الوقت بشكل مثمر من أجل خلق شيء من الجمال، لأنه سيجعله أكثر قيمة”. ولم يكن ذلك سهلاً في فرنسا القرن التاسع عشر، وتحديداً خلال حكم نابليون الثالث الذي شهد معارضة ثقافية بارزة كان على رأسها الروائي والشاعر فيكتور هوغو الذي وقف إلى جانب بودلير، حين واجه محاكمة بسبب ديوان “أزهار الشر” تحت بند انتهاك الأخلاق العامة والأخلاق الدينية، وفي 20 آب ترافع المدعي العام ضدّ الكتاب أمام المحكمة التي حكمت بحذف عدد من قصائده وتغريم الشاعر مبلغ 300 فرنك، بتهمة انتهاك الأخلاق العامة.
ونُشر الديوان في خضم إعادة تصميم المهندس والسياسي “هوسمان” لوسط باريس، ما أدى إلى إزالة شوارع المدينة الضيقة والأزقة لصالح الشوارع الواسعة المخططة بشكل متماثل في المدينة التي نعرفها اليوم، والتي لم يعد بودلير يتعرف عليها، وشعَر باغتراب متزايد عنها. بالنسبة إليه، كانت روح باريس في الغرباء والمشردين وبائعات الهوى. طبقة كاملة من المجتمع اختفت لصالح نسخة جديدة ونظيفة من الحياة الحضرية، أصبحت محترمة بشكل مصطنع. وكانت هذه المدينة الجديدة هي التي اعترضت على “أزهار الشر”، واتهمت بودلير وناشره بالإساءة إلى الآداب العامة. والمفارقة هي أنه تأخر رفع الحظر عن القصائد المحذوفة من الديوان حتى العام 1949.
المئوية الثانية للشاعر حاضرة إعلامياً على مستوى عالمي، ذلك أن تأثير بودلير تجاوز حدود فرنسا، إذ يواصل إلهام الشعرية العالمية حتى اليوم، ولما كان له من فضل في كسر القوالب في القصيدة الكلاسيكية التي كتبها، قبل أن يتحول عنها إلى القصيدة النثرية، ويدشّن الطريق للتجريب الشعري المفتوح وللبحث عن أساليب وأشكال جديدة وقواميس ومفردات شعرية ذات صلة بالحياة الجديدة. ويوصف الشاعر بـ”رسام الحياة الحديثة”، بفضل تنظيره الذي تجاوز الشعر إلى الفن التشكيلي. وفي ما يخص الشعر، فإن أهم من أثر فيهم من شعراء فرنسا الكبار، آرتور رامبو، بول فيرلين، وستيفان مالارميه، ولاحقاً غالبية شعراء فرنسا في القرن العشرين، بمن فيهم السرياليون.
غالبية القراءات التي تستعيد بودلير، منذ أكثر من نصف قرن، تركز على نقطة رئيسية وهي حداثة هذا الشاعر. ماذا تعني، وكيف استمرت حتى اليوم رغم عمره القصير ونتاجه القليل؟
تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى بحث طويل، وهناك الكثير من الدراسات بلغات مختلفة تناولت هذه المسألة، والشاعر نفسه كتب ونظّر حول هذا الموضوع في كتابه الذي نقله إلى العربية الشاعر العراقي كاظم جهاد “ما وراء الرومنطيقية.. كتابات في الفن”. وهناك إجماع على أن حداثة بودلير تكمن في أنه تجاوز الشكل والمضمون الدارج في عصره، واهتم قبل كل شيء بالصورة والمجاز الذي يذهب نحو معان متعددة، وهذا أحد أسباب شعرية قصيدة النثر.
الصورة لدى بودلير مشحونة بحمولة رمزية تأخذ القارئ إلى اكتشاف السر والمعنى الكامن وراء الكلمات. وحرص بودلير في كتاباته على السحر الإيحائي في هذا الجنس الأدبي الجديد الذي يعتبر رائده الأول، والذي أراد أن تبقى القصيدة مفتوحة على التجريب، ويغدو الشكل الشعري متعدد الأشكال. ويبدو بودلير كلاسيكيًا جدًا بالنسبة إلى البعض، وأحيانًا يكون خطابيًا وثقيلًا. لكن كل شيء يصبح عنده موضوعًا شعريًا وهنا أحد مصادر قوته وحداثته.
الصورة الأشهر لبودلير التقطها المصور الباريسي إتيان كارجات، العام 1863، وكانت ضمن سلسلة حملت اسم “غاليري معاصرة”، وضمت قرابة 240 صورة لشخصيات بارزة سياسية وثقافية وفنية في الامبراطورية الفرنسية الثانية. واليوم، مع الاحتفال بالمئوية الثانية للشاعر، تبقى صورته هذه هي الأكثر حضوراً وانتشاراً في فرنسا، من بين كل صور تلك السلسلة. كان في أوائل الأربعينيات من عمره في ذلك الوقت، ولم يكن لديه وقت طويل ليعيشه، لكنه هنا تمكن من أن يبدو كبيرًا وصغيرًا، متعبًا من الحياة، ومع ذلك يتمتع بحماس ملموس. وربما كان الانطباع الأكثر لفتًا للانتباه الذي خلقته الصورة، هو حداثتها. ورغم الملابس الفخمة، فهذه صورة لرجل عصري، يعيش خارج عصره. وعلى حد وصف الشاعر بول فيرلين: “إن الأصالة العميقة لبودلير هي تمثيل الإنسان المعاصر بقوة وفي جوهره.. الرجل المعاصر، بحواسه الحادة والنابضة بالحياة، وعقله اللطيف المؤلم، ودماغه مشبع بالتبغ، ودمه محترق بالكحول”. ولأن بودلير أول شاعر رئيسي يتأثر بالتوسع الحضري المتزايد في أوروبا في القرن التاسع عشر، فإن هذا الجانب من عمله هو الذي يساهم بشكل كبير في إبقائه وثيق الصلة بعصرنا، ما جعله في رأي صاحب قصيدة “الأرض الخراب” الشاعر تي.إس.إليوت “أعظم نموذج في الشعر الحديث في أي لغة”. بينما يعارض الناقد البنيوي الفرنسي، رولان بارت، في كتابه “الدرجة صفر في الكتابة” الآراء كلها، ويرى أن الحداثة الشعرية بدأت من عند أرتور رامبو وليس مع بودلير. ومن خلال كافة المعايير المعروفة في التصنيف، لا تصح هذه الأطروحة. وحتى رامبو نفسه، فهو يعتبر بودلير “الإله الحقيقي”، وهو “أهم الشعراء” بالنسبة إلى بول فاليري، بينما يرى فيه أندريه بريتون “أول سوريالي”.
بودلير حي في الأغنية والسينما أيضاً، وطافت قصائده العالم بعدما غناها فنانون فرنسيون وعالميون مثل سيرج غينسبورغ، ليونار كوهين، وبوب ديلان. وقال شاعر الأداء جون كوبر كلارك “بودلير وشكسبير هما الشخصان الوحيدان اللذان أعتقد أنهما أفضل مني”.
*المدن