فايز الدويري أحد الوجوه التي باتت جزءاً من مشهد حرب روسيا على أوكرانيا، يجتهد كل يوم، من موقع الخبير العسكري، في تبسيط المعارك للمشاهدين الذين يتابعونها على شاشة “الجزيرة”. ويبدو أن القناة تعاقدت معه ليعمل معها حصرياً خلال هذه الفترة، ولذلك لا يظهر في قنوات أخرى كما جرت العادة في حروب أقل أهمية وتعقيداً، مما هو عليه الوضع الحالي في أوكرانيا، والذي حظي بمتابعة إعلامية لا نظير لها حتى الآن. ربما لأن الحرب في هذا البلد تهدد بانفجار حرب عالمية ثالثة قد تكون نووية، ومن هنا صار التسابق على الخبراء العسكريين الشاغل لوسائل الإعلام عبر العالم لمدة شهر، وفي شهرها الثاني استمرت أوكرانيا تحظى بالأولوية، رغم أن غالبية قنوات التلفزة أخذت تعطي مساحة للأخبار العالمية الأخرى. وبعضها ساخن كما هو الحال في فلسطين، واليمن، وسوريا، والعراق.
هذه هي الحرب الأولى الكبيرة في العقود الأخيرة، التي حظيت بتغطية واسعة من الجبهة الأوكرانية، فما تعذر على الصحافيين في سوريا من تسهيلات، توافر لهم في أوكرانيا، ولذا نقلت بعض المحطات الأجنبية فريقاً كاملاً للعمل من كييف، كما هو حال محطة “سي إن إن” الأميركية التي يتكون طاقمها من 75 شخصاً، ولديه سبعة أنظمة اتصالات احتياطية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه أول حرب كبيرة تغطيها المحطات الأميركية، ولا تخضع فيها إلى تلقي المعلومات عن كثب من قبل البنتاغون، كما حصل في حروب أميركا في العراق وأفغانستان، حيث كان يتم تزويد القنوات بمعلومات كل يوم من المسؤولين العسكريين، وكان وصول الصحافيين إلى ساحات القتال محدودًا، وجرى دمجهم مع القوات ولم يُسمح لهم بالوصول للأخبار بأنفسهم. ولذا اختلفت طريقة عمل المراسلين والخبراء العسكريين جذرياً هذه المرة.
الدويري ليس الخبير العسكري الوحيد الذي ظهر على شاشة “الجزيرة” خلال الحرب على أوكرانيا، بل استضافت القناة كثيرين غيره، مثل العميد الياس حنا، والعميد هشام جابر واللواء مأمون أبو نوار وآخرين، لكنها اعتمدت على الدويري أكثر من غيره، وبدا من خلال مداخلاته أنه جاهز للحديث، والإجابة، على كل الأسئلة. وكلما تطورت الحرب، صارت قراءة الدويري أكثر شمولاً لمجرياتها. فمن معلومات أولية ومتابعة حذرة جداً في الأسبوع الأول، إلى إلمام بالجغرافيا وموازين القوى والأسلحة.
لا يمكن للمشاهد غير المتخصص أن يفهم الحرب من دون خبراء في الشؤون العسكرية، يقومون بتغطية موازية لعمل المراسلين الميدانيين. لذا، تلجأ قنوات التلفزة إلى هؤلاء من أجل تفكيك المشهد وشرحه من زواياه العسكرية قبل كل شيء. ومع استمرار الحروب وتكاثرها في العالم، زاد عدد الخبراء العسكريين، الذين تأتي غالبيتهم من أوساط المؤسسة العسكرية. وقديماً، برز خبراء عرب متخصصون، مثل الهيثم الأيوبي الذي تعرف عليه المتابعون في تحليل مجريات حرب تشرين الأول العام 1973 عسكرياً، في صفحات مجلة “الأسبوع العربي” الأسبوعية واسعة الانتشار حينذاك، لكنهم كانوا أكثر على الطرف الإسرائيلي، وبرز منهم أمنون كابليوك، زئيف شيف، أيهود يعاري.
ولم تتحول المسألة إلى مهنة في القنوات التلفزية العربية إلا في السنوات الأخيرة، بسبب الحروب والنزاعات في الساحة العربية منذ أكثر من نصف قرن، بداية من حرب حزيران العام 1967 بين العرب وإسرائيل، وبعدها حرب تشرين العام 1973، والحرب العراقية الإيرانية 1980، والاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، حرب الخليج الأولى 1991، الحرب الأميركية على العراق 2003، وبعدها الحروب على تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، ومن ثم الحروب في سوريا خلال العقد الأخير وهي متعددة الأطراف، الحرب في اليمن 2015، والحرب في ليبيا 2014. وكل هذه الحروب ساهمت في ظهور عشرت الخبراء العسكريين المحليين وعلى المستوى العربي، لكن عدد الذين ظلوا في الساحة قليل جداً، بسبب عدم تلبية الشروط اللازمة للنجاح في هذه المهنة، والتي تتطلب أن يمتلك الخبير ثقافة عسكرية عالية قائمة على دراسة أكاديمية للعلوم العسكرية، بالإضافة إلى إحاطة سياسية بالحدث الذي يتابعه، وإذا توافر فيه هذان الشرطان، بقي عليه أن يقوم بتحديث معلوماته على مدار الساعة ومتابعة وسائل الإعلام التي تنقل مجريات الحرب وتوفر معلومات حول تطوراتها. ومن بين الخبراء العسكريين الذين يجتهدون لتحقيق هذه الشروط، اللواء الدويري، الذي تفرغ كلياً للقيام بهذه المهمة، وتعدت خبرته الظهور التلفزيوني إلى الكتابة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية التي تتخطى حدود العالم العربي، وتتجاوز النزاعات والحروب في المنطقة العربية إلى الشؤون الاستراتيجية، مثل مستقبل حلف شمال الأطلسي “ناتو”، العودة الروسية إلى العالم العربي، صفقات السلاح، سباق التسلح النووي وصواريخ كروز الروسية بين الفشل والنجاح.
ومن بين أسباب تميز الدويري أنه لا يكرر نفسه، ولا يحار جواباً عن سؤال يتم توجيهه إليه، وقد تتصل به قناة “الجزيرة” في منتصف الليل أو بعد ذلك، فتجده ساهراً في صالون بيته في وضعية لم يغيرها منذ بداية الحرب الأوكرانية، لتطرح عليه سؤالاً حول قيام الجانب الأوكراني بهجوم مضاد على القوات الروسية التي تقدمت إلى محيط العاصمة كييف، فيقدم شرحاً تفصيلياً لمعنى هذه الخطوة يطرد النعاس ويعيد المشاهد إلى التركيز. فالهجوم المضاد بالنسبة إليه يعني أولاً أن القوات الأوكرانية احتوت الهجوم الروسي على العاصمة. ثانياً، أن سبب الهجوم المضاد منع القوات الروسية من تنظيم نفسها والتمركز في المواقع التي تراجعت إليها، لأنه ساعتها تصبح عملية طردها من هناك أكثر كلفة وتحتاج إلى 3 مقابل واحد، وفي حالة عدم التوازن 1-1 يكفي لطرد الروس. وفي حديثه هذا، يتجاوز الخبير الذي يتحدث عبر شاشة تلفزيون إلى متخصص في العلوم العسكرية والحروب، ويستخلص درساً مهماً مفاده أن الروس اعتمدوا في الأسبوع الأول المناورة العميقة، لكنهم أجبروا على العودة إلى الحرب التقليدية، وقد يبقى هذا الاستنتاج المهم بلا شرح لأن المذيع يداهمه الوقت، وينتقل إلى المراسل الميداني ليعود الدويري إلى الانتظار، ربما إلى اليوم الثاني بعد أن يكون قد أجرى تحديث معلوماته، وتقييم المشهد العام وتحديد العناصر الجديدة كي لا يضجر المشاهد، ويغادر الجزيرة إلى قنوات أخرى.
جاء الدويري إلى هذه المهنة من العمل العسكري، وصار يمارسها بعدما تقاعد من الجيش الأردني برتبة لواء، وفي البحث عن سيرته المنشورة في الأنترنت ليس هناك سوى معلومات عامة وشحيحة رغم أنه صار من ضيوف القنوات الفضائيات منذ حوالى عقد. وربما يدل الاقتصاد في المعلومات على سيرة عسكرية بعيدة من الإعلام، وبالتالي يكون الدويري قد اقتحم الشاشة من دون مقدمات، ووجد لنفسه مكاناً متميزاً بين جيش المحللين والخبراء العسكريين الكبير، الذين يتعاملون مع الحرب من وراء الشاشة في حين أن الصورة الفعلية للحرب بعيدة جداً. وفي ذلك تبقى العلاقة معقدة بين الخبير العسكري والصحافي الميداني. الصحافيون يقولون إن الحرب أخطر من أن تترك للخبراء في الاستديو، بينما يقول الخبراء العكس، الحرب أخطر من أن تترك للصحافيين.
*المدن