بشير البكر: “الدون الهادئ”.. الحرب الطويلة بين روسيا وأوكرانيا

0

الكاتب ميخائيل شولوخوف، صاحب رواية “الدون الهادئ” الحائزة على جائزة نوبل 1965، يتحدر من أب روسي من منطقة “روستوف” على حدود ما بات يعرف بجمهورية لوغانسك الإنفصالية، ومن أمّ قوقازية أوكرانية أمّية، لم تتعلم القراءة إلا في سن الأربعين كي تتواصل مع ابنها. وتدور أحداث الرواية في منطقة شرق أوكرانيا، وهي كناية عن ملحمة حول تاريخ شعب “القوازق” (السلاف الشرقيين) في أوكرانيا، الذين كتب عنهم تولستوي رواية “القوازق” والكاتب نيكولاي غوغول رواية “تاراس بولبا”. ويعيش هذا الشعب تاريخياً على ضفاف الأنهار في هذه المناطق، ومنها نهر “الدون” الذي ينبع بالقرب من مدينة  نوفوموسكوفيك ويصب في بحر آزوف. وتعتبر منطقة المصب وضفاف نهر الدنيبر من أغنى المناطق المشهورة بمزارع القوازق، الذين يربون الخيول ويزرعون الأرض ويعيشون حياة قبلية، ودخلوا في حروب مع روسيا منذ بطرس الأول، حينما مالوا إلى جانب شارل الثاني ملك السويد في معركة العام 1709، لكن ملكة روسيا كاترين الثانية عقدت معهم هدنة طويلة بعدما واجهت في 1773 حرب الفلاحين أو تمرد القوازق، وهذا ما منعهم خلال الثورة الروسية أن يقفوا إلى جانب البلاشفة والجيش الأحمر، وقاتلوا إلى جانب الجيش الأبيض.
“الدون الهادئ” واحدة من الروايات العالمية، التي أخذت نصيباً كبيراً من الجدل في القرن العشرين. عمل أدبي كبير من حيث الحجم، بأربعة أجزاء، صدر الجزء الأول منها، حينما كان شولوخوف في الثالثة والعشرين من عمره، لذلك شكك كثيرون في أن يكون قد كتب هذا العمل بمفرده، وأنه لا بد من فريق وقف وراء هذا الإنجاز. وكان أحد أبرز المشككين، الكاتب الروسي من أصل أوكراني، الكسندر سولجينتسين، حائز نوبل للآداب العام 1970، والذي جردته السلطات السوفياتية من جنسيته، وطردته إلى خارج البلد العام 1974، بعدما فضح في أعماله معسكرات الاتحاد السوفياتي للعمل القسري “الغولاغ”. واعتبر صاحب “أرخبيل الغولاغ” أن العمل “غير مسبوق في تاريخ الأدب، حيث ابتكر مبتدئ يبلغ من العمر 23 عامًا عملاً من مادة تجاوزت خبرته في الحياة ومستوى تعليمه”. وفي العام 1991، أذهل الصحافي ليف كولودني، عالم الأدب الروسي، بإعلانه أنه عثر على مخطوطات المجلدين الأول والثاني الأكثر إثارة للجدل  في منزل في موسكو. وفي العام 1995 نشر تقريرًا مثيرًا عن بحثه عنها ووصفًا للمخطوطات. لقد كانت مكتوبة بيد شولوخوف بلا منازع، مع عمليات الحذف والتعديلات التي قام بها المؤلف، وتزامنت تواريخها تمامًا مع الحقائق المعروفة عن حياة شولوخوف الأدبية المبكرة.

والأمر الثاني هو أن الرواية التي صدر الجزء الأول منها في العام 1928، وكتبت المجلدات الأربعة منها على مدار 14 عامًا، بدءًا من العام 1926، أثارت عاصفة سياسية حول مضمونها في فترة حالكة من تاريخ الاتحاد السوفياتي، كان جوزيف ستالين يحكم خلالها قبضته الأمنية على كل شيء، فتعرض الكاتب للملاحقة والمطاردة والاعتقال العام 1932، لكنه هرب من السجن، ولم ينقذه من الموت إلا اللقاء مع ستالين مباشرة، والذي عفا عنه في بادرة غير معهودة عنه. وحصل شولوخوف على رقم هاتف الديكتاتور الشخصي، وكُلف بتنفيذ رؤية ستالين للأدب الروسي. والسبب الذي أثار للكاتب المتاعب هو أن الرواية تتناول الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية الروسية وسيطرة الحكم السوفياتي على منطقة “الدون” أو “دون القوازق” حسب التسمية الدارجة، وتصف الرواية التي حازت على جائزة نوبل العام 1965 حياة شعب القوازق أنصار “الجيش الأبيض”، وتتطرق بالتفصيل إلى الصراع الذي كان دائرًا آنذاك بين أنصار الجيشين الأحمر والأبيض.

وتعرض المجلد الأخير من الرواية الذي نشر في العام 1940، وخصوصًا النهاية، إلى هجوم كبير من النقاد والقراء. وركزت الدراسات خصوصًا على شخصية بطل الرواية، غريغوري ميليخوف، التي تمر خلال فصول الرواية بالكثير من الأهوال، ويلحق به أذى عاطفي كبير نتيجة الحرب ومآسيها. وكان قراء الرواية في ذلك الزمن، لا سيما من أنصار الشيوعيين، راغبين في أن يختتم شولوخوف روايته بانضمام ميليخوف إلى صفوف الجيش الأحمر، غير أن نهايتها خالفت توقعاتهم؛ فقد بقي إلى جانب عائلته وأرضه في الريف الروسي الأوكراني. فهو رجل معتاد على العمل الفلاحي السلمي. “تصلح قدما غريغوري للدوس على الأرض”. تكمل هذه الجملة سيرة البطل، وترسم صورة لرجل مُعد للعمل والحياة الأسرية.

ويعتبر الكثير من النقاد الروس أن ذاكرة شولوخوف وخزانه الأدبي الحكائي، يأتي من ناحية الأم القوقازية الأوكرانية التي غذت ابنها بقصص وأساطير حياة شعبها وحروبهم ضد الروس وأبطالهم الشعبيين مثل تاراس بولبا. لذلك جاء عمله شديد الالتصاق ومفعم بالحميمية والتعاطف مع هذا الشعب، الذي رفض أن ينكس الراية للجيش الأحمر، وقاتل لسنوات قبل أن يقف إلى جانب روسيا في الحرب العالمية الثانية، وبرع مقاتلوه الفرسان بصورة أثارت إعجاب الأدب والموسيقى والسينما في روسيا.

وقدم شولوخوف، غريغوري، في الجزء الأول من الرواية، الذي ركز على عائلة والده المعروفة في قريتهم باسم الأتراك، لأن والدته كانت امرأة تركية أحضرها والده البطريرك إلى المنزل كغنيمة حرب، واتُهمت في ما بعد بالسحر وضربها القرويون الآخرون حتى الموت. ويظهر غريغوري في الرواية أفضل ممثل للقوزاق. يجسد براعة هذا الشعب في القتال والشجاعة التي يتحلى بها. فخور بأصله ولديه شعور كرامة نبيل، بينما يحترمه الرفاق وينظرون إليه كقائد.

ساءت الأوضاع في روسيا في الثلاثينيات، عندما انقلبت الحكومة الشيوعية على صغار المزارعين الناجحين. في ذلك الوقت، بدا هذا الموقف بالنسبة لقطاع واسع، بمن فيهم شولوخوف، بمثابة تجاوزات أو اعتداءات. وتبين لاحقًا أن العنف كان برنامجًا متعمدًا، أقره ستالين، من أجل إجبار الناس على المزارع الجماعية. والمأساة التاريخية تلك معروفة جيداً. وتختلف الأرقام، لكن ما لا يقل عن أربعة ملايين شخص ماتوا جوعاً في أوكرانيا خلال العامين 1932 و1933 نتيجة لهذه السياسات المدمرة. وفي غضون ذلك، وضع شولوخوف نفسه في خطر سياسي لمساعدة الناس، وكان قادرًا شخصيًا على تأمين المساعدة لمنطقته. وبعد ذلك كلفه ستالين بكتابة رواية خيالية عن الجماعية، والتي نتج عنها المجلد الأول من رواية “الأرض البكر”، التي نُشرت في العام 1935. إن إجبار كاتب على تخيل محرقة بشكل إيجابي يبدو، وكأنه عقاب ألف ضعف على خطايا أي كاتب. ويبدو أن شولوخوف شعر بذلك عندما أصبح مدمنًا على الكحول بشكل خطير، لكن في روسيا في ذلك الوقت، لم يكن هذا نادرًا.

أصبح موضوع رواية “الدون الهادئ” مجالاً للبحث الأدبي والدراسات النقدية وللعديد من المؤرخين البارزين. مراجعات حول الرواية، وبعضها يدور حول الشخصية الرئيسية للعمل وفكرة الشخصية النموذجية. ووفقًا لغالبية النقاد، فإن غريغوري هو رمز للشعب الأوكراني كله، وليس للقوقازي فقط، صورة جماعية لكل من نجا من المأساة في سنوات الثورة، وكان هناك الملايين، لا سيما أن مصائر الناس العاديين في الرواية تحضر في المقدمة. وفي وقت لاحق، أصبح هذا النمط من الكتابة هو السائد لدى الكتّاب السوفيات، وغيرهم من الواقعيين الاشتراكيين، لكن شولوخوف لم يتقصد ذلك، هو الذي ابتكر أيضاً صور البطلات، ما أصبح، في ما بعد، الأكثر لفتًا للانتباه في تاريخ الأدب. أكسينيا المتحمسة، ناتاليا المحبة الهادئة، وداريا التافهة. ومع ذلك، هناك دائمًاً حرب تجلب المشقة والموت، ولا شيء أقوى منها. والمفارقة أن الرواية التي تضج بأهوال الحرب تدور على ضفاف نهر “الدون” الهادئ. واعتبر شولوخوف، إن تلك المهمة لم تكن سهلة.

*المدن