حين يعود المرء بعد زمن طويل نسبياً إلى مدينة عاش فيها سنوات، تلاقيه التفاصيل في كل مكان. تلك التفاصيل لا تحضر على سبيل استعادة أحداث بعينها فقط، وإنما تأتي على نحو مُلحّ في سياق تركيبها من جديد بمقياس اللحظة الراهنة، وهذا ما يبعث حياة أخرى في المكان والزمان. حياة تبقى ناقصة حتى لو بدا أنها اكتملت ذات يوم، لأن مجرد رجوعها من جديد يعني أن ثمة أشياء لم تأخذ حقها من الوقت كي تنمو وتذهب نحو النهايات. ويختلف الأمر من مدينة لأخرى. وعلى العموم، فإن هذه الاستعادة هي التي تبني العلاقة مع المكان، وتعيد تعريفه وتحدد درجة ارتباطنا به. ويبدو أن بعض الأمكنة تشبه الكائنات، فمنها ما ينجذب المرء إليه بسرعة، ومنها ما يحتاج إلى وقت، وثمة بعض آخر لا ندرك أثره إلا حين نقيم مسافة معه، ويصبح في حساب الزمن المفقود عند مارسيل بروست، حيث تبدو الذكريات واقعية أكثر من الأحداث نفسها، وهنا يجري التداخل بين زمن الكائن وأزمنة كائنات أخرى، ويقوم التداعي الحر لصور الماضي بتشكيل زمن ذاتي جديد.
لقاء التفاصيل من جديد ليس نزهة في تفقد المكان، بل هو أشبه ما يكون بمراجعة لكل ما علق بالذاكرة، وما عاشه الإنسان من أحداث، بحلوها ومرها. وأنت تعبر الشارع العام في مركز المدينة ستداهمك صور لم تكن تظن أن ذاكرتك احتفظت بها أو حتى توقفت أمامها، وستحضرك وجوه ومواقف مرت أمامك او عبرت بها مسرعاً، ولم تكن ذات قيمة في حينه، لكنك تكتشف اليوم بأنها لم تكن بلا مغزى. إلا أن ما يلحّ على المرء ويحفر نفسه في الذاكرة هو الجانب الحميم من المسألة. وهنا يبدو الامتحان، وسنكتشف أن يوميات أسقطناها من حسابنا، ولم نكترث بها، كانت تستحق وقفات مختلفة، ويحدث العكس أيضاً، فتبدو الذاكرة في كثير من الأحيان أنها حملت ما لا قيمة، ولا معنى له. ومن هنا تغربل العودة إلى المكان بعد غياب طويل، ما اختزنه الكائن من مواقف وأفكار، وحتى المشاعر تجاه المكان تتبدل وتتطور إيجاباً وسلباً.
وحين أتحدث عن المشاعر فإنها تأتي في الصدارة. وعندما يرجع الانسان الى المكان من زمن بعيد نسبياً، فإن مشاعره هي التي تتحكم به، وتتدخل في تكوين أفكاره وصياغة مواقفه، وهذا أمر يختلف من شخص لآخر، إلا ان صفة المكان تفرض نفسها. البحر غير الصحراء، وأوروبا تثير انطباعات مختلفة عن افريقيا وأميركا اللاتينية، ومكان الولادة ليس بمنزلة المواقع التي نزورها للسياحة والترفيه، وتخلق لدينا نوعاً من الانطباعات الجميلة والموحية. وثمة إجماع عام على أن بعض الأمكنة تخلّف أثراً قوياً لدى كل من يرتادها، وهذا ينطبق على مدن ومعالم تاريخية مثل باريس، لندن، روما، فاس، دمشق، الأهرامات، وبابل..إلخ، وهذا ما يقع في خانة عبقرية المكان التي لها نصيب كبير في تشكيل وعي السكان، وتحديد خياراتهم الحياتية.
المكان المفقود في داخل الإنسان أولاً. ثابت وغير متحول، ولا يتأثر بالأمكنة الأخرى التي يألفها المرء أو يسكن إليها، لأنه على صلة بالهوية. لكل مكان هوية، وكل مكان هوية، وحين يمتلك البشر حرية الاختيار، فإن الهوية تسبق أي خيار آخر.
التفاصيل تحفر في المشاعر مثل نهر ينحدر سريعاً، وتبقى في تلافيف الذات التي قد تنكمش على ذاتها بفعل الزمن. وقد ينزاح بعضها درجة إلى الخلف، بفعل وقائع جديدة تفرض نفسها، إلا أن الجديد لا يستطيع طرد القديم وقد يجاوره أو يختفي في ثناياه. التفاصيل جزء من حالة الكائن وتحولاتها، وهي التي تشكل مبنى ومعمار القصيدة.
صباح الخير
لأشجار الكرز
تلك التي تداري زهورها
في برد أول الربيع.
هنا في هذه الساحة
ذات ظهيرة دافئة
سقطت كرزة بيضاء في قلبي
بينما كنت ثملاً
برائحة خزامى الشام.
أسير مثل من يعود بالزمن
كل خطوة
هنا رجوع
وكل رجوع سفر
وما من عزاء أيها الوقت.
(المدن)