بشير البكر: اسطنبول السحر الذي لا شفاء منه

0

اسطنبول تأكل الوقت أكثر من لندن وباريس. مدينة مترامية الأطراف، ورغم أن المواصلات متوافرة ومتنوعة بين المترو والمتروباص والترامواي والباص والباص المتوسط والتاكسي، فإن الازدحام يبقى قائماً في اتجاه مناطق بعينها، إلى حد تسقط معه الرغبة بزيارة بعض الأماكن، إذا لم يكن الأمر لقضاء حاجة ضرورية. وما هي الحاجة الضرورية، إن لم تكن الكشف والذهاب إلى ما وراء الغموض، الذي تختفي خلفه أسماء الشوارع والحارات والأحياء، تلك التي تجعل الزائر يسافر في التاريخ بعيداً؟

هنا تزدحم الأسماء حتى يظن المرء نفسه يتنقل بين أرجاء الامبراطوريات التي عبرت على هذه الأرض، يونانية، رومانية، بيزنطية، وعثمانية. لا يفرغ الكائن من زحمة الأسماء، وهو يعبر بين مدن وقرى اتصلت ببعضها البعض من طريق العمران والتجارة والدم، وبقيت مختلفة في التفاصيل التي لا يدركها إلا من عاش وسكن بين هذه الأمم والأقوام متعددة الأعراق واللغات والملامح، عشائر متنوعة من الساحل والداخل، يتناقلون العادات والتقاليد من جيل لآخر. إنهم يقتربون من البحر ويبتعدون عنه، يتسلقون الجبال، ينحدرون إلى الوديان مغيرين الأفق أو المنظور تبعاً لتنقلاته. سحر لا يليق إلا بالمدن الامبراطورية التي لها خاصية صهر البشر والأمكنة والتواريخ. ورغم أن اسطنبول تقع على ثلاثة بحار، مرمرة، الأسود، وإيجة الذي ينفتح على البحر المتوسط، فإن الكثير من القراءات تصنفها مدينة متوسطية لأنها أقرب إلى تاريخ المتوسط الأوروبي وثقافته وطقوسه من البحر الأسود، ذلك أنها تعتبر المعادل الجغرافي لما فعله التاريخ، الذي يلعب عادة دوراً أساسياً في تشكيل شخصية المكان وتحولاته في مسار رحلة الإنسان مع البحر. والمتوسطية في حالة اسطنبول ليست جغرافيا، بل هي قدر تاريخي وإنساني وثقافي.

البحر يحدها من الجهات كافة، ويطوقها من كل صوب، ما بين بحر مرمرة والبحر الأسود وأيجه تتحرك كل مخلوقات البحر المفتوحة وتعبر السفن من مضيق البوسفور كي تؤرخ دائماً لما يشهد على أزمنة الامبراطوريات، ورحلة الملح في هذه البحار المفتوحة، ويبقى البحر البعيد أجمل من البحور القريبة. البحر الأبيض المتوسط، بحرنا الذي أضعناه، عندما طمرناه بالنفايات.

بعد عامين أمضيتها في هذه المدينة، اكتشفتُ حين غادرتها أني لم أتعرف على الأتراك إلا من بعيد، وهذا يعني اني لم أسلك سوى الطريق بين البيت والوظيفة. لم أدرك شيئاً من الأسرار والتجارب التي تتيحها مدينة تمتد على مساحة تقارب لبنان، ويعيش فيها من السكان ما يتجاوز عدد سكان لبنان بأربع مرات. وحين جاءت الفرصة كي أتفرغ للكشف، وجدت نفسي لا أستطيع تحديد نقطة البداية. هناك أحياء بأكملها لم يسبق لي أن دخلتها، مثل حي “لالالي” الذي شكل مفاجأة كبيرة لي حين تجولت فيه مؤخراً، وكان ذلك لغرض زيارة صديق قادم من بلد آخر، فوجدت نفسي أمام كشوفات جديدة، غير تلك التي نجدها في طريق السياح. هنا نتجول في مكان عميق من المدينة بعدما أضعنا زمناً طويلاً، ونحن ندور قرب الواجهة التي يعرض السياح فيها أنفسهم مثل البضائع المزوقة الفارغة من الداخل والمحشوة بالريش. لالالي، حيث قوس الامبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول الملقب بالعظيم، أول من فرض المسيحية على روما. هنا بقايا قوس الامبراطور، .. ما الذي جاء به إلى هنا؟ هنا بيزنطة إذن. تسير وتسمع صدى صوت العربات الحربية الرومانية وحمحمة خيول الرومان التي عبرت تلك البحار باتجاه سوريا التي كانت مهبط هوى الرومان.

لاسطنبول سحر امرأة لا تدركه ولا تتعرف عليه إلا اذا سمعت صوتها، وتعرفت على لغتها وجلست اليها وتكلمت معها، وغير ذلك يبقى الصمت والنظرات التي تذهب في اتجاه واحد وترتد إلى الداخل. سحر يصيب المتأمل في مكان ما من ذاتك. إنه سحر الفتنة التي تميزها عن غيرها. البحر والسماء والهواء. هذه مواصفات أخرى تجعل من هذه المدينة تسكن في مسام الكائن، وتأخذه في رحلة على متن سفن الماضي لا سفن اليوم فقط.

المدينة التي لا تأخذك إلى مدن أخرى ليست مدينة، المدينة التي لا تتعدد وجوهها ليست مدينة. اسطنبول مدينة امبراطورية في وسع الزائر أن يرى فيها المدن الكبرى كلها، ويمكن له أن يكتشف أن الخلافة العثمانية حاضرة دائماً في تاريخ، وللعربي أن يجد فيها مدناً عربية عديدة في وقت واحد، من المغرب حتى المشرق. فيها القاهرة، دمشق، بغداد، تونس، فاس، بيروت، وحلب..الخ. تلتقي مع المدن العربية بالمزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، وتفترق عنها في أنها كانت عاصمة امبراطورية مرات، وفي ظل الامبراطورية العثمانية كانت تحكم جزءاً كبيراً من العالم، وهذا ما يفسر وجود بعض الشعوب التي لا تزال مطبوعة بطابع تلك الثقافات، وهو ينطبق بقوة على منطقة البلقان، ويختلف عن تلك البلدان الناطقة بالتركية مثل اذربيجان، وهذه بلدان لا تزال شريكة ثقافية، وإن كانت مستقلة سياسياً واقتصادياً. وهذا ما يفسر معاملة تركيا لها، حيث تعتبرها جزءاً من أمنها القومي، ولهذا السبب لم تتردد في تقديم الدعم لاذربيجان ضد أرمينيا. ولا يبدو خارجاً عن السياق أن يجد المرء وسط اسطنبول مدينة كاملة باسم “البوسنة الجديدة”، وهي عبارة عن منطقة بدأت تستقبل مهجري البوسنة اثناء حرب التطهير العرقية التي ارتكبها الصرب ضد البوسنياك في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومن غير المستبعد أن نجد بعد وقت سوريا الجديدة إذا طال مقام السوريين في تركيا. هناك حوالى 20% من سكان سوريا يعيشون على الأرض التركية، ومنهم من أصبح تركياً بالتجنيس، والبعض الآخر صار أليف المكان ولا يرغب في أن يغيره، وقطع الأمل من العودة إلى سوريا. وكلما أوغل السوريون في تركيا، زمانياً ومكانياً، كلما أصبحت خيوطهم مع سوريا واهية. ويعود توزع السوريين في اسطنبول إلى المستوى الطبقي، ففي المناطق التجارية نسمع اللهجتين الشامية والحلبية، وفي المناطق السكنية تتردد كل اللهجات السورية.

اسطنبول من المدن التي لا يحس زائرها بحاجة إلى زيارة المتحف، وقد يقضي سنوات كي يكتشف ما هو متاح من الخارج، قبل أن يدلف إلى الداخل لمعرفة التفاصيل الجوانية للعمارة وأسرارها الداخلية التي تغيرت مرات عديدة ما بين أمبراطورية وأخرى، وعصر وآخر، وحتى السلاطين العثمانيين الذين طبع كل منهم القصر بطابعه الخاص حسب نمط حياته وعلاقته بالثقافة والفن. وهناك ملاحظة مهمة جداً، وهي أن جميع سلاطين بني عثمان كانوا يتابعون ما يحدث من تقدم في البلدان الأخرى، خصوصاً أوروبا، ولذلك ازدهرت في مرحلة معينة الحِرَف التي استقدم السلاطين العاملين فيها وعاملوهم معاملة خاصة، ونلاحظ الانفتاح أكثر خلال الطور الأخير من الأمبرطورية في عصر التنظيمات في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكان السلطان عبد الحميد الثاني هو صاحب الانفتاح على أوروبا من خلال بناء خط قطار الشرق السريع الذي ربط اسطنبول بأوروبا وسوريا الكبرى والحجاز.

مدينة آسيوية وأوروبية جغرافياً، لكنها ذات هوية واحدة ضاربة في الماضي بقوة، ومقبلة على الحداثة بانفتاح شديد مع مسحة قوية من التعصب القومي، الذي يجد جذوره في الماضي الامبراطوري، والمسافة التي اجتازتها تركيا نحو التجديد والتعددية السياسية، متجاوزة جيرانها من العرب والإيرانيين الذين فشلوا في خياري التنمية وبناء الدولة الحديثة، والسير على درب الديموقراطية.

*المدن