منذ وصل عبسي إلى عنبرنا خاف منه الجميع، فأعطوه طاعتهم وسجائرهم، وكرهوه. أنا كرهته وأعطيته سجائري، ثمّ أحببته حين فهمته. لكنّي لم أتوقّف عن الخوف منه لحظة. وقد فهمته حين سقط رابع قتيل بيننا.
سجّينا جثّة السجين الملقّب بالساهي، بعد أن حفرنا قبره في باحة الشمس -الباحة الضيّقة التي نُحشر داخلها في “ساعة الشمس”. اختارني عبسي لأصلّي على الجثمان. رأيت على وجه الراحل خيال ابتسامة رضا وراحة أبدية، فابتسمت لها على خفر.
حين استعادت ذاكرتي جثث المفكّ ومظفّر ومحمّد العيّار، قرّرت ألّا أعدّ موتى العنبر بعد اليوم، وألّا أحزن، بل أن أبتسم. من رأى الصور التي التقطها مصوّر الرئيس السفّاح وهرّبها للعالم سيعرف كم أنّ الابتسامات كانت مستحيلة هنا.
ولأنّنا تمنّينا الموت واشتهيناه، أمعن السجّان في حرماننا منه. أمّا الموت المُرسَل من الله، فكان يحصد المساجين المسنّين حين تجفّ جلودهم وأدمغتهم، فيحرمهم الخرفُ من التمتّع بالاحتضار والرحيل عن جهنّم الأرض هذه. لذا آمنت أنّ عبسي عبقريّ ورحيم. بعد أسابيع من قدومه، بدأ يوغر صدور بعض المساجين على بعضهم الآخر. احتدمت المعارك، وتوالت الوفيات، أو بالأحرى الجرائم.
قضت شريعة السجن أن ندفن رفاقنا، وقد فعلنا عن طيب خاطر. صرنا جميعًا نرى ابتساماتهم المتحلّقة بسلام حول شفاههم الرمادية. لم يكدّرنا تمدّد الجثث الباسمة تحت تراب المساحة القليلة التي يُسمح لنا برؤية الشمس فيها. كانت الشمس فوقنا وصارت الجنّة تحتنا.
تابعنا تجفيف أعواد ما تنبته الباحة، وادّعاء أنّها سجائر نشربها حتى أعقابها. كانت اللعبة تخدّرنا قليلًا. حتّى أنّ عبسي قال لي مرّة: “سأكون سعيدًا إن متّ بسرطان الرئة. هذا يعني أنّني شربت بالفعل كلّ هذه السجائر التي أوهم نفسي أنّني أشربها”.تمتمت بأنّني أتمنّى مثله. فضحك بيأس وهو يستدرك: “السرطان الوحيد الذي قد ينظر إليك هو سرطان البحر”. أعطاني أعواده مواسيًا، وراح يتصيّد بعينيه الثاقبتين هدفًا جديدًا.
*استلذّ عبسي اللعبة بداية. ثمّ بلغ به الحسد حدًّا عجيبًا. كلّما دفنّا جثّة، يأسى لنفسه، ويؤلمه صدره كمن يعاني ذبحة صدرية. ثمّ قضت شريعة عبسي أن نقتله. وكان علينا أن نفعل.إنّه الرجل الذي أراح كثيرين منّا، فلماذا لا نريحه؟”اخترتك أنت”، قال لي وهو يداعب لحيتي. “ولكنّني يا عبسي واهن مريض. كما أنّني لم أقتل يومًا دجاجة. كانت زوجتي تحلق ذقني لأنّي أخشى أن أدمي نفسي. أنا أخاف من الدماء”. شدّ لحيتي حتى نزع بعض شعراتها، وقال: “جيّد أنّك لم تعد بحاجة إلى أيّ حلاقة”.
*يعرف عبسي أنّي أحبّه، لذا لم يختر غيري لهذه المهمّة، أو لعلّه رأى أبعد ممّا رأيت ورأى الجميع. لعلّه تنبّأ بمستقبلي. رغم قدوم سجين جديد قويّ وميّت القلب، لقبه الباشا، إلّا أنّ عبسي لم يُعفِني من المهمّة. صرت أعطي سجائري وسجائر عبسي للباشا. ومع ذلك لم أُعفَ من المهمّة الأصعب.توالت الأيام ثقيلةً بائسةً، وأنا لا أجرؤ على تنفيذ أمنية عبسي.
حتى بدأ لطفه بي يتحوّل نقمة. بينما كنت أرتعد خوفًا من خطّة بدأت أحوكها للتهرّب من طلب عبسي، قبض على رقبتي ورماني فوق دلاء البراز، ثمّ راح يلكمني ويلبطني، أو لعلّه لبطني ودعسني… لا أذكر فعلًا سوى ملوحة دمي وطعم الدلاء بين أضراسي وفي عمق حلقي.
*حرمتني آلامي النوم، فسمعت تلك الليلة سجينًا يهذي باسم امرأته، وبشامة تشبه توتة تحت سرّتها. كان يهمس في سرير قريب. عرفته من أنفاسه الصاخبة. إنّه الباشا. إنّه الحلّ للورطة التي أنا فيها.عبسي لن يقتلني. سيتابع ضربي وتعذيبي، ولن يسمح لأحد بقتلي وإراحتي. لذا لا حلّ لي سوى هذا الرجل الشرير الضخم الذي أرسلته المصادفة وأحلامه الشبقة الثرثارة.
* بعد أسبوع فقط من تلك الليلة، انتشر في عنبرنا الحديث عن علاقة عبسي بامرأة الباشا، وعن شرحه لرفاقه تفاصيل خلواتهما قبل سنوات والشامة التي تشبه توتة تحت سرّتها. وصل هذا بطبيعة الحال إلى صاحب الشأن، المنتَهَك العرض. أقبل الرجل الضخم نحو عبسي، وحمله من شعر رأسه، ثمّ غرز الخنجر بيده القويّة في صدره وشقّه نزولًا حتى سرّته. صرخ عبسي من بعد موته. وكأنّه يعرف أنّ السكّين ستتابع انتقامها إلى ما تحت السرّة الميّتة. تحلّقنا حول جثّة زعيمنا السابق المبقورة، وحدّقنا إلى ابتسامته الراضية الممتنّة.
*منذ دفنّاه، تسارعت وتيرة الجرائم، حتّى حدث ما خفت دومًا منه. أنا وحدي هنا الآن، ليس ثمّة من يمكنه قتلي وإرسالي إلى الرحمن.كل الباحة لي وحدي، وكلّ السجائر، وساعة الشمس، كذلك التنكيل كلّه لي وحدي. لا تسلية لي في هذا الجحيم سوى مطاردة أشباح ابتسامات الموتى الهانئة، وانتظار أيّ سرطان كان، حتّى سرطان البحر.
(**) بسمة الخطيب، كاتبة وروائية لبنانية من اعمالها “برتقال مرّ”(2015)، “في بلاد الله الواسعة” (رواية للناشئة- 2017)النتاجات الأخرى:• “دانتيل” (قصص قصيرة)، 2005• “شرفة بعيدة تنتظر” (قصص قصيرة)، 2009
*** المدن