قبل 114 عاماً وصلت ما ستصبح لاحقاً السينما، إلى البلاد التي سيصبح اسمها سوريا بعد ذلك بست سنوات، وبوصولها دخل إلى البلاد مجس يعكس نبض المجتمع، وتوجهات تطوره الاجتماعي والسياسي.
ففي عام 1908 عُرضت في حلب صور متحركة، من قبل مجموعة من الأجانب، بواسطة آلة متنقلة تتحرك فيها الصور أفقيا، ما أذهل الجمهور الذي شاهد لأول مرة صوراً تحوي أشخاصاً يتحركون على الصور، مثلما يتحرك البشر على أرض الواقع.
سينما سوريا.. مقهى في ساحة المرجة
وبعد 4 سنوات، أي في عام 1912، تطور الأمر، فلم يعد عرض الصور متنقلاً في الشوارع، بل بات له مكان ثابت، سيصبح لاحقاً دار عرض السينما، وباتت الصور مضيئة وأكثر قرباً من الحركة البشرية الطبيعية. يقول “جان ألكسان” في موسوعة السينما العربية: “بداية السينما في سوريا كانت في مقهى بساحة المرجة بدمشق يمتلكه حبيب الشماس، حيث عرض صوراً متحركة بآلة كانت تدار باليد يتولد فيها ضوء من مصباح يعمل بغاز الإستيلين. كان ذلك عام 1912، أي نفس العام الذي شهد فيه العالم أول عرض سينمائي في باريس”.
وبسرعة استقطبت الصور المتحركة جمهور مهنة الحكواتي، الشخص الذي يسرد القصص للناس في المنازل أو المقاهي الشعبية، وساهمت لاحقاً في القضاء على مهنته التي كانت تعاني من تكرار القصص، وفقدها عنصرَي الجاذبية والإثارة.
وفي عام 1919 بنيت صالة “جناق قلعة” في حي الصالحية بدمشق من قبل الحاكم العثماني جمال باشا وعُرض فيها فيلم لاستعراض الجيش الألماني في برلين، فكان مدهشاً للناس ونال إقبالاً كبيراً، وشكل استخداماً مبكراً للسينما لترويج سياسات الدول، واستعراض قوتها العسكرية.
بعد صالة “جناق قلعة” افتتحت في دمشق ثلاث صالات سينما هي صالة “زهرة دمشق”و صالة “الإصلاح خانة” وصالة “سينما النصر”، حيث كانت تعرض أفلام أميركية وفرنسية. وتوالى افتتاح صالات أخرى في دمشق. أما في مدينة حلب فافتتحت في الفترة ذاتها دور للعرض السينمائي وهي “كوزموغراف” و”الاتحاد والترقي” و”باتيه” و”رويال”.
وانتشرت صالات السينما في كل المدن السورية، وبلغ عدد الصالات في دمشق وحدها بداية السبعينات 25صالة وفي حلب 24 صالة، مع نسبة حضور جماهيري عالية.
المتهم البريء وانقلاب حافظ الأسد
وإلى جانب الصالات، تحمس سوريون لإنتاج الأفلام، ففي العشرينيات من القرن الماضي تم إنتاج أول فيلم سينمائي في سوريا، حيث قام كل من أيوب بدري وأحمد تللو ومحمد المرادي مع المخرج رشيد جلال بإنتاج فيلم صامت سموه “المتهم البريء” مستخدمين في تصويره آلة سينمائية ألمانية من طراز “كينامو” وصوروا الفيلم على شريط طوله 800 متر واستغرق التصوير 8 أشهر. وصورت مشاهد الفيلم الخارجية أمام كهوف جبل قاسيون، ومشاهده الداخلية في منزل المخرج رشيد جلال في حي المهاجرين. واجتذب الفيلم كثيرا من المشاهدين، لدرجة حصول ازدحام أمام السينما.
وفي الثلاثينيات أُنتج فيلم صامت آخر اسمه “تحت سماء دمشق” للمخرج إسماعيل أنزور، ثم دخلت السينما الناطقة إلى سوق الإنتاج، على يد نزيه الشهبندر، الذي أخرج وأنتج أول فيلم سوري ناطق بعنوان “نور وظلام” عام 1947، من بطولة المطرب السوري رفيق شكري والممثلة اللبنانية إيفيت فغالي.
وفي عام 1956 نظمت إدارة معرض دمشق الدولي أول مهرجان سينمائي عربي على هامش فعاليات المعرض.وبعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 أُسست دائرة السينما والتصوير. ومع وصول حزب البعث للسلطة في عام 1963 أُسست المؤسسة العامة للسينما، وسيطرت على عملية تمويل وإنتاج الأفلام السورية وتوزيعها، إضافة إلى الرقابة على الأفلام العربية والأجنبية المستوردة. وبعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970 حصلت انتكاسة في عدد دور السينما، وفي إنتاج الأفلام، وفي نوعية الأفلام المعروضة، وفي نوعية المرتادين.
فمن مرحلة البدايات إلى ما قبل عهد الأسد، انتقل عرض الأفلام من الشوارع إلى المقاهي، ثم إلى صالات السينما، فتغير جمهورها من المراهقين، إلى مرتادي المقاهي من الرجال، إلى الأسر المنفتحة على الثقافات الغربية، إلى عامة الأسر السورية. ومن عرض الأفلام الصامتة، انتقلت دور السينما إلى عرض الأفلام الناطقة، ومن الأفلام بالأبيض والأسود انتقلت إلى عرض الأفلام الملونة. أما من حيث الموضوع فحصل تطور كبير في نوعية الأفلام من أفلام التسلية والكوميديا الساذجة، إلى الأفلام ذات القيمة الأدبية والتاريخية، والأفلام ذات المضمون الناقد الاجتماعي والسياسي.
معتقلات مؤقتة
تطورت دور السينما ولعبت دورا هاما في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم وبلغت العروض السينمائية ازدهاراً ملحوظاً ولم تقتصر على العاصمة دمشق بل تجاوزتها إلى عدة محافظات سورية، حيث كانت المكان المفضل للكثير من الأسر السورية، وكان الإقبال كبيراً، ويفوق قدرة الصالات على الاستيعاب، وكانت الأفلام موضوع حديث الناس، ومحل النقد والمتابعة في الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزة، لا بل وفي الندوات والمؤتمرات، وصفحات الكتب.
وكانت دور السينما في دمشق تقدم أحدث الأفلام العالمية والعربية وخاصة المصرية، وكانت تتسابق لاختيار أقوى الأفلام الأجنبية والعربية لنخبة نجوم السينما في العالم.
أما مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة فحصل احتكار وتأميم للسينما، فتغيرت آلية عمل المؤسسة العامة للسينما، وفرضت على المخرجين قيود لتقديم أفلام متوافقة مع أيديولوجية النظام الرسمية، كما فرضت المؤسسة رقابتها على الفيلم خلال جميع مراحل الإنتاج، وحصرت التمويل بمخرجين محددين معظمهم ممن تعلموا الإخراج في الخارج، لكونه لا يوجد حتى اليوم مدرسة للإخراج في سوريا.
وتراجع الإقبال على دور السينما، وأفلس بعضها وتحول إلى صالات أفراح، أو صالات بيع الأثاث المنزلي، وانحدر مستوى معظم الصلات الباقية، وباتت تجتذب المراهقين من الذكور، وتعرض أفلام الكاراتيه والإثارة الرخيصة، وابتعدت الأسر عنها، وبات دخولها يعتبر عيباً، أو فعلاً مشيناً.
ومع تولي بشار الأسد للحكم، وإعلانه أنه “إصلاحي ومتحرر”، نشأ أمل بتغير حال السينما في سوريا، وكسر سيطرة المؤسسة العامة للسينما، وشهدت المنتديات الثقافية والسياسية نقاشات ودعوات لعرض أفلام كانت ممنوعة في عهد حافظ الأسد، لكن سرعان ما انتهى ربيع دمشق، وتم اعتقال ناشطيه وتقييد الفنانين والمخرجين المطالبين بالتغيير.
وبسبب رد النظام الدموي على الثورة السورية عام 2011، دمرت العديد من دور السينما، وتوقفت دور أخرى كلياً عن العمل، فيما تخضع دور العرض القليلة الباقية لرقابة حديدية تجعل ارتيادها عملاً غير مجد، خاصة مع انتشار الفضائيات والإنترنت، وقدرة الناس على مشاهدة ما يشاؤون من أفلام في بيوتهم.
وأصبح معظم دور السينما مكاناً لإضاعة الوقت، أو النوم، أو البحث عن مأوى مؤقت لأشخاص ينتظرون نهاية معاملة، أو مشردين يبحثون عن مكان لأخذ قيلولة، أو مكانا آمناً لشبان يجتمعون للتدخين بعيداً عن أنظار أولياء أمورهم، أو مراهقين مازالت تجذبهم الملصقات الإباحية الرخيصة المعلقة على مداخل السينما. أما دور السينما الأسوأ حظاً فهي التي حولها النظام إلى معتقلات مؤقتة للمتظاهرين المطالبين بالحرية.
*تلفزيون سوريا