بالمصادفة كانت محافظة إدلب

0

خطيب بدلة، قاص وروائي سوري.

مجلة أوراق- العدد 15

أوراق الملف

في سنة 1960 أصدر جمال عبد الناصر (الرئيسُ المصري الأسمر الذي أُهديت إليه سورية، في سنة 1958، ليحكمها بوصفه قائد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج) مرسوماً بإحداث محافظة إدلب، وقد أشير إلى إدلب، في نص المرسوم، على أنها الأقضية الغربية من حلب.

هذا صحيح بالطبع، فإدلب لم تكن، يومئذ، تمتلك مقومات المحافظة، وما هي إلا بلدة كبيرة نسبياً، تبعد عن حلب، غرباً، حوالي 60 كيلومتراً، ريفية، زراعية، رعوية، وفيها صناعات يدوية تقليدية مثل صناعة الزنابيل والقواديس والحصر، إضافة إلى صناعة الألبان والأجبان ومشتقات الزيتون. وهي ليست ذات تاريخ عمراني طويل.

لم أقل هذا الكلام لكي أسيء إلى مدينة إدلب، كلا وحاشا أن أفعل ذلك وقد ولدت فيها، وعشت فيها، وأحببتها، وياما كتبتُ عنها وعن أهلها بحب، وما يزال لي فيها أصدقاء وأهلون، إنما أردت أن أقدم توصيفاً دقيقاً للواقع.. وأزيد على ما قلت أن أهل إدلب وأريافها، ظلوا، نحواً من أربعين سنة بعد مرسوم عبد الناصر، مرتبطين اقتصادياً واجتماعياً وعاطفياً ووجدانياً بحلب، فأثناء جلسات الخطوبة (فَصل حَقّ رقبة البنت)، مثلاً، كان أهل العروس، في كثير من الحالات، يشترطون على أهل العريس أن يكون شراء “الجهاز” والعفش من حلب، وإذا مرض أحدٌ من أهل إدلب وأريافها، وكان مرضه حرجاً، يذهب إلى طبيب مختص أو أكثر في حلب، وحتى الصور الشخصية كان الشباب الأدالبة يذهبون إلى حلب للحصول عليها من ستوديو ديكران، حيث تطلعُ صورة الإنسان فيها حلوة، وتبدو عيناه كاشفتين، وليس كمصوري إدلب الذين كانالزلمة يطلع من تحت أيديهم (بيخوِّف)، أو – كما يقول أهل سراقب – (بيوَخِّف)، وكذلك يذهبون إلى حلب ليتمشوا في الحديقة العامة “المشتل”، أو شارع بغداد، ويتفرجوا على الصبايا المتحررات الجميلات، أو ليحضروا فيلماً في سينما فؤاد، أو سينما الزهراء، أو سينما حلب، أو ليأخذوا مدقّة عرق في خمارة هب الريح، أو عند حنا كعدة، لأن شرب العرق في إدلب فضيحة (جرصة)، وبعضهم كان يتسلل، بعد شرب المدقة باتجاه شارع 242، شرقي باب الفرج (هذا المكان الذي أغلق سنة 1974).. إلخ.

المهم بقى سيدي، صارت إدلب محافظة قبل الأوان، ومشيت أمور تطورها في البداية ببطْء شديد، ثم أخذت بالتسارع ابتداء من عقدي الثمانينات والتسعينات، فصرنا نقرأ، في الصحافة، دراسات نقدية، تتحدث، مثلاً، عن الشعر في محافظة إدلب، القصة القصيرة في محافظة إدلب، الرواية في محافظة إدلب، المسرح في محافظة إدلب.. وهذه التصنيفات، برأيي المتواضع، كانت تنطوي على كثير من الخطابة، والنوايا الحسنة، سيما حينما يُرفق معدُّ الملف كلمةَ إدلب بـ “الخضراء”..

أتوقع أن يسألني مَن يصل إلى هنا، بنبرة احتجاج: أأنت تستخف بهذه الدراسات؟ أم تريد أن تقلل من شأن كتاب إدلب؟

الجواب: لا طبعاً. أنا لا أستخف بأحد، لا في إدلب ولا في مقديشو، ولكنني أستغرب اللجوء إلى هذا النوع من التصنيفات التي تفضح الطبخة.. تصور، يا رعاك الله، أن معرة النعمان أصبحت، بعد سنة 1960، تابعة لإدلب، وبعض الدراسات الصحفية كانت تأتي على ذكر أبي العلاء المعري بوصفه شاعراً من محافظة إدلب! مع أن أبا العلاء، إذا توخينا الدقة، محسوب على الثقافة الإنسانية، يمنح متنوريها الذين يحترمون العقل شعوراً بالزهو، ويسبب للأغبياء استفزازاً يدفعهم لقطع رأس تمثاله أينما وجد.ن معرة الننالنعمان

الآن.. لو أن صحفياً مصرياً أراد أن يتحدث عن الرواية في محافظة الاسكندرية، مثلاً، لاستطاع أن يعثر على خمسين تجربة روائية اسكندرانية، بينما الروائي الوحيد الذي أنجبته محافظة إدلب هو الراحل عبد العزيز الموسى، من مدينة كفرنبل. وإن كان أستاذنا حسيب كيالي قد كتب ثلاث روايات هي: مكاتيب الغرام، وأجراس البنفسج الصغيرة، وحكايات ابن العم (سيرة روائية)، فلأن حسيب كان أديباً شاملاً، أبدع في الشعر، والمسرح، والرواية، والمقامات، بالإضافة إلى هوايته الأساسية، القصة القصيرة..

ملاحظة: طبعاً، في وقت لاحق، كتبت ابتسام تريسي مجموعة من الأعمال الروائية، وكذلك عبد الرحمن حلاق. 

وإذا أردتَ أنت أن تتحدث عن القصة القصيرة في إدلب، ستلاحظ، بلا شك، أن حسيب كيالي، وشقيقه الأكبر مواهب، عاشا في إدلب إلى ما قبل ظهور علامات النبوغ عليهما، فوقتها كانا يعيشان في دمشق، محسوبين على القصة القصيرة السورية التي بدأت ملامحُها تتشكل في الأربعينات والخمسينات، وكان عدد القصاصين السوريين، ابتداء من علي خلقي وفؤاد الشايب حتى وليد إخلاصي وزكريا تامر، لا يتجاوز أصابع يدين اثنتين، أو ثلاث، وإن كان حسيب قد استدعى، في الكثير من أعماله، الواقعَ الاجتماعي الإدلبي، إلا أنه لم يكن يأتي إلى إدلب، ولا حتى زائراً، فقد عاش في دمشق وباريس ودبي (ومات ودفن فيها، تموز 1993).. ومواهب كيالي عاش في دمشق مدة قصيرة، وأصدر مجموعة قصصية واحدة هي “المناديل البيض”، وكان أحد مؤسسي رابطة الكتاب السورية 1951، وانتُخب رئيساً لها، وحينما أصدرت الرابطة مجموعة قصصية مشتركة، كتب لها قصتين إحداهما بعنوان درب إلى القمة، وبعدها سافر إلى موسكو، وبقي فيها إلى حين وفاته 1977.  

طيب؛ إذا فرضنا، جدلاً، أن القاصين مواهب وحسيب كيالي محسوبين على القصة الإدلبية.. بماذا نفسر عدم ظهور قاص واحد، حتى ولو كان وجهُه – على حد تعبير حسيب – بعرض إصبعين، إلى أواسط الثمانينات حيث بدأنا، بدأنا، نجم الدين سمان وأنا، نكتب القصة القصيرة؟ والحقيقة أن نجم كان يعيش في حلب، ويأتي إلى إدلب حينما يشتاق لوالديه وإخوته.

الجواب عندي أن البيئة الإدلبية، زراعية فلاحية على وجه العموم، ومن ثم هي غير منتجة للأدباء، ويمكننا اعتبار كل الذين ظهروا منها استثناءات من تلك القاعدة، والدليل أنه مرت عشر سنوات أخرى حتى ظهر كل من الراحل تاج الدين الموسى..

يمكن الحديث عن نجيب كيالي بوصفه كاتباً متميزاً في مجال أدب الأطفال، وقدم تاج الدين الموسى تجربة قصصية لافتة، تجلت برصده تفاصيل الحياة اليومية في قرية “المركونة”، وهو يقصد بها نموذجاً يمثل القسم الأكبر من القرى التابعة لمنطقة معرة النعمان.. وكان تاج قاصاً مهماً بحد ذاته، ولكن أهميته تضاعفت عندما مشى ابنه مصطفى على خطاه، واستمر يكتب حتى تجاوز المحلية الإدلبية، والسورية، وصار يُعرف في نطاق عالمي، وترجمت أعماله إلى لغات حية.

وفي وقت متأخر ظهر القاص عماد كركص بمجموعة قصصية ساخرة، ثم عمار الأمير بمجموعتين.

لا شك أن الراحل محمد الشيخ علي كان علامة فارقة في كتابة الشعر الحديث، وأنا سأغامر وأقول إنه كان مدرسة، وأعلل هذا الزعمَ بأن معظم الشعراء الذين جاؤوا بعده تأثروا به في بداياتهم، ثم حاول كل منهم، كياسر الأطرش وعبد الرحمن الإبراهيم وحكمت جمعة ومحمد شيخ إسماعيل، أن يحفر لنفسه مجرى خاصاً..    

ملاحظات:

1- كان بإمكان عبد العزيز الموسى أن يكون أفضل مما كان عليه. وأظن أن السبب هو إصراره على البقاء في محافظة إدلب.

2- كان بإمكان محمد الشيخ علي أن يكون أفضل مما كان عليه. وأظن أن السبب هو إصراره على البقاء في محافظة إدلب.

3- كان يمكن لرياض نعسان آغا أن يكون أديباً كبيراً لو لم ينشغل بالسياسة والمناصب، فهو ذو موهبة كبيرة. (اقرأ بشكل خاص كتابه: سارح في الزمان)..

4- عند الحديث عن المسرح لا يمكننا إلا أن نشير إلى التجربة الغنية للأستاذ مروان فنري التي استمرت منذ الخمسينات.

5- أعتقد أن أهمية إدلب الكبرى، الآن، تأتي من خلال مأساتها الإنسانية الكبيرة، بعدما تآمر عليها نظام الأسد، وهجر قسماً كبيراً من أهلها، وهجر قسماً كبيراً من إخوتنا السوريين من جنوب سورية.