يقول هاينريش هاينه في مسرحيته “المنصور”: “أينما أحرِقت الكتب، أحرِق الناس أيضًا في النهاية”(1)، وقد أحرقت هذه المسرحية مع الكثير من الكتب الأخرى على يد النازيين الألمان عام 1933. مقولة هاينه ليست نبوءة فقط، بل قراءة متبصّرة لتاريخ الرقابة على الكتب والحريّات في التاريخ البشري.
رافقت الرقابة الكتاب منذ لحظة نشوئه، سواء أكان حجرًا، رقًا، ورقةً، أم ملفًا إلكترونيًّا. وتغذّي الرقابة وجودها من الفضائل التي يمتاز بها الكتاب، فالعقائد، والفلسفة، والأخلاق، والعلوم، والحرّيات، لم تجد أفضل من الكتاب حاملًا لها، ومع ذلك كانت هذه الفضائل الأسس الشرعية لكلّ رقابة في التاريخ.
تعدّ محاورات أفلاطون، وخاصّة في كتابه “السياسة/ الجمهورية”، الرحم الفلسفي لنشأة الرقابة، على الرغم من أنّ ربط الرقابة بالفلسفة غير منطقيٍّ، فالفلسفة التي تعني حبّ المعرفة لا يمكن أن تتقيّد بقيدٍ، ولو كان من صنعها، إلّا أنّ بويضة الفلسفة الرقابية الأفلاطونية قد أُخصبت من الحتمية العلائقية بين أفراد المجتمع البشري، وإن كان لنا أن نقول الأمر بدقّة إمبريقية، فهو يتأتّى من حتمية التنظيم للكائن البشري، حتّى ولو كان فردًا مفردًا على جزيرة، كما في رواية دانييل ديفو “روبنسون كروزو”، الذي أعاد إنتاج تقاليد العيش الإنكليزية ورقابتها، لأنّ الرقابة قبل أن تكون معنى أخلاقيًّا، هي مسنّنٌ مهمٌ في ماكينة بقاء الكائن البشري.
قدّم هوميروس الشجاعة والجبن والإقدام والتخاذل، وصوّر الجنود والقادة في كافة حالاتهم الإنسانية، وهذا الأمر لم يكن يخدم رؤية أفلاطون بتنشئة جيل من الجنود مقدام لا يهاب الموت، لذلك شطب أسماء الحياة الآخرة المخيفة والمرعبة، من مثل: “الأشباح تحت الأرض ـ الظلال الواهنة”، التي توهن نفسية الجنود، كذلك محا من قصائد هوميروس أفعال القادة المشينة، كحال أخيل عندما أهان الإله أبولو، وفعل ذات الأمر مع الأوصاف التي تناولت أخيل بعد موته: “وسنستعطف هوميروس، وبقية الشعراء، أن لا يصوّروا أخيل الذي هو ابن الآلهة، مبحرًا في سُعرٍ على طول الشاطئ المجدب، آخذًا بكلتا يديه الرماد السخامي وذاريه فوق رأسه باكيًا ومنتحبًا”.
أراد أفلاطون أن يخفّف من وطأة الموت على الجنود والقادة في الحرب، لذلك صوّر حياة آخرة ينعم فيها الأبرار بالعيشة الطيّبة، فها هو يقول بغضب: “لنطمس المقاطع الذميمة مبتدئين بالآتية: أفضّل أن أكون عبدًا على أرضٍ لفقير ورجلًا لا ملكية له على أن أحكم كل الموتى الذين ذهبوا للعدم”.
كتب فولتير مقالًا ساخرًا حول المخاطر المرعبة للقراءة: “الكتب تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية”. الرقابة رديفة للحكم، وإن كان لنا أن نحلّل كيف نشأت الرقابة على الكتاب، فلن نجدها إلّا في الأهمية المتعاظمة للكتابة من لحظة ولادتها. أعدم سقراط الذي لم يحب الكتابة يومًا، لكنّه كان يكتب عبر صوته على أسماع شبيبة اليونان، ومن هنا كان يجب إسكاته. إنّ أفلاطون الذي هاله إعدام معلمه ردّ له الدين بأن جعله الشخصية الأبرز في محاوراته، وقد ورث منه كرهه للكتابة والكتب التي تجعل المعرفة والذاكرة خارج الإنسان(2)، لكن أفلاطون لم يستطع تجاوز الكتابة، بل عبّر من خلالها عن رؤياه الوجودية(3)، ومن خلال فهمه لأهمية الكتابة التي تشبه الفارماكوس اليوناني.
يذكر لنا ديوجين أنّ كتب بورتاغوراس قد أحرقت في الأغورا/ الساحة العامة في أثينا، بعد اتهامه بالهرطقة. إنّ الخِطاب سلطة، وهذا ما أدركه حكّام أثينا عندما أرادوا إسكات سقراط، وقبلًا كانت البلاغة وسيلة للدفاع عن الحقوق. تستطيع السلطة إخراس الصوت عبر قتل صاحبه، أو نفيه، وهذا ما حدث مع بروتاغوراس، لكن مع الكتاب لا بدّ من إحراقه، فهو يبقى بعد ذهاب صاحبه، قادرًا على فتنة قرّاء جدد. كان أفلاطون يعلم ذلك، لذلك أراد من الشعراء أن يتوقّفوا عن ترديد عبارات هوميروس المسيئة للأبطال والآلهة، وزاد في الأمر حتى أنّه لم يسمح للشعراء بالدفاع عن أنفسهم إلّا نثرًا كي يوقف أثر سحر البيان في الإقناع.
كان الإمبراطور الصيني(4)، تشين شي هوانغ، في نهايات القرن الثالث قبل الميلاد، مدركًا لسطوة الكتاب، ولكي يحقّق أحلامه في إعادة كتابة تاريخ الصين، وتخليص هذا التاريخ من الأفكار المريضة، أمر بإحراق كلّ الكتب، بدءًا بمؤلفات كونفوشيوس، ولم يستثن إلّا المؤلفات المرتبطة بالصيدلة والزراعة. وفي جحيمه الذي أوقده بالكتب أحرق 470 كاتبًا كانوا قد خطّوا مؤلفات تعارضه، لكنّ هذا الإمبراطور الماكر كان قد استبقى نسخة واحدة من كلّ كتاب أتلفه بالنار في مكتبة القصر، ولولا ذلك لاندثر الكثير من تاريخ الصين.
تطالعنا في الهند(5) نسخة أخرى من الرقابة تتعلّق بمجتمع الطبقات الاجتماعية، حيث كانت الطبقات العليا تضنّ بمعارفها على الطبقات الدنيا، لذلك لم تكن تدوّن معارفها كي تبقى سرّية.
تجاوزًا، نستطيع أن نعتبر إحراق كتب بروتاغوراس الحركة الأولى في العنف الموجّه نحو الكتاب، وفي تحليل الأسباب التي أدّت إلى ذلك، نجد أن حرب البيلوبنيز الإغريقية كانت سببًا مهمًا، فالتشكيك في زمن الأزمات بمصادر وجود السلطات يعتبر بمثابة الحرب عليها. هذا الأمر نلقاه في روما، فعندما تسلّم الأمبراطور أغسطس الحكم، لم يدر الكاتب تيتيوس لابينوس أنّ الزمن الجمهوري قد انتهى إلى غير رجعة. كان تيتيوس من مناصري الحاكم بومبي، وهذا لم يرق لأغسطس، ولا لمجلس شيوخه الذي أمر بإحراق كتب تيتيوس، ممّا أدى لانتحاره في ما بعد جرّاء ذلك.
على الرغم من أنّ أغسطس(6) كان من محبي الثقافة والكتاب، إلّا أنه كان يرى بعض الكتب تفسد عقل الشبيبة الرومانية، فأصدر أمرًا بسحب الكتب اللاأخلاقية من المكتبات، ونفى الكاتب أوفيد. كان الأباطرة الرومان حسّاسين تجاه الكتب السياسية، وخاصة الكتب التي تتعرّض للإمبراطور وعائلته، فالمسامحة ممنوعة مع هذه الكتب. دارت في الإمبراطورية الرومانية حرب كتب دينية، فعندما كانت روما وثنية كانت تحرق الكتب المسيحية، ولما أصبحت مسيحية أحرقت الكتب الوثنية، إلّا أن الثقافة اليونانية المتغلغلة بين مثقفي روما المسيحيين أنقذت الكثير من الكتب، وخاصة التي لا تتعلّق بالجدال الديني، فكتب فورفوريوس، التي جادل فيها القديس بولس، أحرقت عن بكرة أبيها.
لنا أن نتخيّل أنّ الأميركيتين نجتا من اكتشاف كولومبوس، فكيف كان سيكون وجه العالم اليوم! دمر الإسبان بطريقة ممنهجة تراث الهنود، ولم ينجوا منهم البشر أيضًا، لكن على ما يبدو أنّ السلطات في كلّ مكان تملك ذات الجينات الرقابية، فها هو الإمبراطور أتزاكواتل الأزتيكي يأمر بإحراق الكثير من الكتب، لأنّها لم تصوّر تاريخ الأزتيك بشكل صحيح.
الكتاب يقاوم
علّق الفيلسوف سينيكا على ما حدث مع تيتيوس لابينوس بغضب وتشفّى من مصير مماثل للذي تسبب بموت تيتيوس. أمّا الكاتب تاسييت، فقال: “حين يصدر أمر بإحراق كتاب، فإنّ هذا الكتاب يصبح مرغوبًا، مطلوبًا خلال فترة منعه، بينما قد يسقط في النسيان بعد أن يسمح بقراءته”. إنّ ملاحظة تاسييت عبقرية.
إنّ الخوف من الرقابة المجتمعية متمثّلة بالسياسي والديني دفعت كثيرًا من كتّاب الماضي العربي إلى أن يضمّنوا مقدمات كتبهم بما يدفع عنها الرقابة، فنجد ابن حزم الذي أحرقت كتبه، يدبج في مقدمة كتابه “طوق الحمامة” الذي كتبه بناء على طلب الأمير عبيدالله بن عبدالرحمن بن المغيرة، ما يبرر، كشفه أحوال العشاق، بالقول: “وكلَّفتني ـ أعزّك الله ـ أن أصنف لك رسالة في صفة الحبّ ومعانيه… ولولا الإيجاب لكَ لما تكلّفته، فهذا من الفقر، والأولى بنا مع قِصر أعمارنا ألّا نصرفها إلّا في ما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدًا”. إنّ ما فعله ابن حزم نجد له أمثلة كثيرة، فها هو السرّاج في “مصارع العشّاق” يقول شعرًا يبرّر سبب تأليفه: كتاب مصارع العشاق/ من عرب وعجم
ليعتبر الخليُّ بما/ لقوا شكرًا على النعم
مصنّفُهُ عفيف الهوى/ مصونٌ غير متهم.
أمّا ابن قتيبة، فيشن هجومًا على الرقابة: “وسينتهي بك ـ أي المتزمّت ـ كتابنا هذا إلى باب المزح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيها، فإذا مرّ بك ـ أيّها المتزمّت ـ حديث تستخفّه أو تستحسنه، أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرفِ المذهب فيه وما أردنا به، واعلمْ أنّك إن كنت مستغنيًا عنه بتنسّكك، فإنّ غيرك ممّن يترخّص في ما تشدّدتَ فيه محتاج إليه، وإنّ الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقّي المتزمتين، لذهب شطر بهائه، وشطر مائه، ولأعرض عنه مَن أحببنا أن يُقبِلَ إليه معك”.
ذكر مسكويه أنّه عندما قتل الحلاج، أحضر الوراقون، وحُلِّفوا ألا يبيعوا شيئًا من كتب الحلاج، أو يشتروها. كذلك كان الأمر في ما يخصّ كتب الفلسفة والكلام.
قوائم الكتب الممنوعة
لربما كان قرار مجمع نيقيه الكنسي سنة 325 ميلادية من أول الإرهاصات التي تعنى بالمنع الآني والمستقبلي للكتاب، فقد منع هذا المجمع مؤلفات الأسقف آريوس، وبعدها كرّت السبحة. ففي سنة 494، صدر في روما مرسوم إمبراطوريّ يحدّد فيه الكتب الممنوع قراءتها. حمل هذا المرسوم عنوان: “الكتب المرغوبة والكتب غير المرغوبة”.
كان لاختراع المطبعة العامل الحاسم في معركة الكتاب مع الرقابة، سواء كانت دينية، أم سياسية، أم أخلاقية، وقد رافق اختراع المطبعة تنامي قوائم الكتب الممنوعة من الطباعة والنشر. أصدر ملك بريطانيا هنري الثامن قائمة بذلك، كذلك حدث في إيطاليا، إلّا أنّ هذا الأمر كان في صالح الكتاب، فقد شاع مثل بأنّ ما تمنعه روما من كتب صالح للقراءة.
لم تتوقّف القصة عند منع وطباعة الكتب، بل تعدّى الأمر إلى منع دخول الكتب المطبوعة خارج البلاد إلى داخلها، لكن الكتّاب والمطبعات اخترعوا أساليب عديدة لتجاوز هذه المعوّقات، ومن أجل ذلك ظهرت فكرة تطهير الأعمال الببليوغرافية من ذكر الكتب الممنوعة.
إنّ النظر خلفًا إلى تاريخ الرقابة على الكتب يكاد أن يكون كالنظر إلى حاضر الرقابة ومستقبلها.
PDF وخوارزميات السوشيال ميديا
حرّر الكتاب الإلكتروني رديفه الورقي من الرقابة، فأصبح التندّر مألوفًا على الرقابة، عندما تطالعنا معارض الكتاب، وخاصة في البلاد العربية المشهورة برقابتها القراقوشية. وكان يُؤمل من النشر الإلكتروني أن يكون فاتحة عهد جديد في تجاوز الرقابة، إلّا أنّ الرقابة، كالقطط، بسبعة أرواح. نقرأ في شروط التسجيل في منصات اجتماعية، كفيسبوك، وتويتر، أنّها مجانية، وستبقى مجانية، لكنّ المراقب لِما حدث في الحرب على غزة، يكتشف كم أنّ كلمة المجانية مكلّفة. لقد قامت هذه المنصات بمحاربة وحجب كلّ ما يتعلّق بالكشف عن المجازر، والتدمير الممنهج الذي قام به الاحتلال الإسرائيلي، عبر خوارزميات تعمل على منع نشر كلّ ما يرتبط بالعدوان.
مهما كان شكل السلطة، فهي ترهب من الكتاب، كما ذكر فولتير، إلّا أنّ الكتاب أقوى، ولا بدّ أن تنتصر الكلمة على الصمت. لقد حاولت أثينا أن تُسكت سقراط، لكنّ سقراط أصبح خالدًا. وكان الأولى بأثينا، في ذلك الزمن، أن تلتقط حكمة دلفي التي نطق بها سقراط، وأن تعرف نفسها لا أن تقمعها.
مصادر:
(1) الحيوان الحكّاء ـ جونثان غوتشل، ترجمة بثينة الإبراهيم (2018).
(2) محاورات أفلاطون (2007).
(3) الشفاهية والكتابة ـ والتر ج. أونج، ترجمة: د. حسن البنا عز الدين (1994).
(4) تاريخ القراءة ـ ألبرتو مانغويل، ترجمة: سامي شمعون (2001).
(5) تاريخ الكتاب ـ ألكسندر ستيبتشفيتش، ترجمة د. محمد الأرناؤوط (1993).
(6) الجنس والفزع ـ باسكال كينيار، ترجمة: روز مخلوف (2011).
(ضفة ثالثة)