باسم النبريص: حتى بحر غزّة

0

كلُّ مدينة ترغب بكتابتها، عليك أن تبدأ معها من “لحظة الصفر”. لا تُغنيك قراءاتك عنها، وما تعرفه مسبَقاً من معلومات. لحظة الصفر هي الأنسب لكتابة أيّ رحلة وأي سفر. أعطِ حواسّك الخمس للمكان الجديد، واستسلم لبكارة النظرة، ودهشة التلقّي. فالمدن كالنساء: كل امرأة ولها طعم وحضور ومُقتَرَب مختلف.

هنا، كان من حظي أنني زرت المكان قبل ربع قرن، فنسيت كل شيء عنه.
أمشي الآن بعيون بكر وأحاسيس بكر، وعلى الله أن أكتب بالعيون والأحاسيس ذاتها.
وعلى كلٍّ، فمهما قلنا: تظلّ لحظة الكتابة هي الامتحان الحقيقي.


■■■


السفر، في وجه من وجوهه، بمثابة كَسْر للدائرة. أحياناً عليك أن تسافر، لكي تجد نفسك. ويحدث أن يمنحك السفرُ أشياء كثيرة. لكن يكفي السفر ميزةً أنه يُحرّركَ من بعض أوهامك: وهم أنّكَ مركز الدائرة مثلاً. في السفر نحن ذوات في مهبّ الريح. وهذا جيدٌ لِنموّنا كبشر.

في عصورنا الحديثة، الحدّ الأقصى لمكوثكَ في أرض واحدة هو عامان. سبعمئة يوماً تقريباً تكفي كي تصل إلى حافّة الخطر: حافة التأَسُّن. أكثر من ذلك، يعني أنك بدأت بالفعل تأسَنُ. حذار. في عصورنا الحديثة على الإنسان (وخصوصاً من يعمل في حقل الثقافة) أن يسافر مرةً كلّ عامين – كحد أقصى. وحبذا لو كانت المرّةُ مرّات.
كعبور فانتازيا قصيرة الأجَل – أعبرُ حياتي. هكذا علّمتني الثقافةُ، وهكذا علّمني السفرُ أيضاً.


■■■


الفرق بين القدس وغزّة التالي: القدس هي القدس، غزّة: اجتماع عائلات! الفرق بين القدس وغزّة التالي: القدس جنينُ مدينة، غزّة: بطنٌ تلد أجنّة عائلات! لا فروق بين القدس وغزّة في محبتي كلتيهما. و… في ضجري منهما أحياناً.
ألاحظ: هواء الجبل أفضل للصحة بكثير من هواء السهل. وحتى بحر غزّة، لا يغيّر هذه الحقيقة.


■■■


أنزل للحي المحيط بنا من ناحية الجنوب. أتمشّى وأنحدر مع شوارعه وزنقاته ودروبه الضيقة البدائية. اسمه “حيّ الشيّاح”، وواضحٌ فقر سكانه وسوءُ حالهم. إنّ أغلبهم من “ملح الأرض”، أي “المساتير”. أنزل وأنزل حتى أصل قريباً من جدار فصلهم العنصري. وإذ أرجع، ينتابني الندم لهذه المغامرة المنهكة: فالطلوع غير النزول. وركبتاي توجعانني، ونفسي مقطوع. ما أصعب صعود أكتاف الجبال هنا. ومع هذا، حين أتذكّر ماضي هذا الجبل، أشدّ من أزري وأصعد بهمّة كالشباب! هنا صعدت وهبطت رابعة العدوية فاتنة عصرها، صلاح الدين الأيوبي ورجاله، وقبلهم: المسيح وتلامذته القليلون. فاشدد حيلك يا عزيزي ولا تهن!

(العربي الجديد)