هل كانت عبلة تحبّ عنترة بالفعل؟ لا شيء يثبت ذلك لا في التاريخ ولا في المخزون الشعري الذي وصلنا. ثمّ هل كانت النساء بالفعل متيّمات بعمر بن أبي ربيعة؟ هل كان وسيماً حقاً؟ إنها أيضاً مسألة لا يمكن إثباتها. فكل ما وصل إلينا من مرويات وشعر، كان يحمل صوت الذكر في حكايات الحب والعفّة وحكايات الحرب وحكايات الشهامة والبطولة، ذلك أن الرواة كانوا أيضاً ذكوراً واهتمّوا بنقل ما كتبه أولاد جنسهم. أما الصوت الأنثوي فلم يصلنا منه سوى القليل الذي يتطلّب العثور عليه الكثير من التبحّر والبحث، ويتم عرضه كخط ثانوي هامشي جداً، وغير مهم ولا يستحق الدرس أو نقله لطلاب الجامعات والمدارس.
لا نعرف شيئاً عن رأي النساء في الغزوات ولا عن رأيهنّ في “شهامة” سبيهنّ بعد كل معركة، وكأنهنّ ملكية يتم نقلها من قبيلة إلى أخرى. لا نعرف إن كانت عبلة ترى في عنترة رجل أحلامها بالفعل، أم كانت هذه مجرد أوهام في رأسه. ولا نعرف إن كان حباً عفيفاً أعذر كما تغنّى به عنترة، أم أن عنترة كذب علينا أو على نفسه، أو حاول حماية الفتاة التي أحبّها، أو ساير موضة الحب العذري. لكن ما يمكن تأكيده أن الشعر العربي القديم الذي كتبه الكثير من الذكور كان غالباً شعراً عن الكبت وعدم التحقق والإيروتيك الخفي عن علاقة لا تحدُث وقبلات ممنوعة ولقاءات مرصودة بالتهديد والمنع. وهو المنع الذي لاحق الصوت الأنثوي كلعنة، من أجل إخفائه إلى الأبد.
معظم ما وصل إلينا قصائد تسير بلحن منظّم ورتيب، وتفوح منها الذكورية والجريمة التي تسمّى شهامة وثأراً مشروعاً، وأحياناً هياماً. إنما يتم تقديمها للنشء وللعالم على أساس أنها إرث عظيم لا يمكن حتى التشكيك به. وحين حاول طه حسين التشكيك بالشعر الجاهلي، حوكم وواجه خطر التصفية. وكذلك حورب المستشرقون وأبرزهم مرجليوث، حين اعتبروا أن ما نُقل إلينا على أنه شعر الجاهليين، في الحقيقة لا يمثّل حياتهم الدينية ولا الاجتماعية ولا الاقتصادية، وقد كُتب في العصر الإسلامي.
المرأة في الشعر القديم صُوّرت كأيقونة، كإلهة، تزيّن مطالع القصائد، حتى إذا لم تكن القصيدة في الحقيقة غزلية أو غرامية. لكنّ تلك المرأة كانت أشبه بخيال لا يُمَسّ، وحلم لا يتحقق. وهي نظرية غريبة ما زالت تحكم معظم العلاقات العاطفية في مجتمعاتنا العربية التي لم تُشفَ على ما يبدو من أمراضها القديمة. المقصود أن كثيرين ما زالوا ينظرون إلى المرأة ككائن محنّط، لا ينفعل، لا يرفض، ويعتبرون أنّ أفضل امرأة هي تلك التي لا تُطال، والتي تحافظ على التحنيط المجتمعي والديني والقانوني المحكم على جسدها وعقلها.
ميسون بنت بحدل الكلبية، شاعرة قديمة لا يعرفها أحد. حين يبحث المرء عن شعرها، يتم التعريف عنها على أنها زوجة معاوية، وقليلة هي المراجع التي تتبحّر في شعرها الرقيق، الذي قد يفوق شاعرية معاوية نفسه.
بموازاة تبجيل شعر الغزوات والبطولات القتالية (صَحِبْتُ فِي الفَلَواتِ الوَحشَ منفَـرِداً/ حتى تَعَجّبَ منـي القُـورُ وَالأكَـمُ- المتنبي)، كان هناك تهميش واضح لما سمّي بشعر الجواري (ضحايا تلك الذكورية والمعارك الضارية وأولئك الرجال الذين يعرفهم الليل والخيل والبيداء)، والجرأة التي تميزت بها كتابات كثيرات ولغة التحدي والتهتك التي نظمن بها قصائدهن. كتبت ضاحية الهلالية مثلاً: “ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه/ سلافاً ولا مزناً من الماء صافيا. ولو أنني خيّرت بين عناقه/ وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا”.
تقول ولادة بنت المستكفي بالله، صاحبة أحد أبرز الصالونات الشعرية في زمن الأندلس، السيدة التي عُرفت بجرأتها: “أمكن عاشقي من صحن خدي/ وأعطي قبلتي من يشتهيها”.
لماذا العودة إلى أزمان غابرة في يوم المرأة العالمي؟ لأن تهميش النساء أسلوب قديم جداً، شفيت بعض المجتمعات منه، فيما ما زالت مجتمعات أخرى تسبر أغواره في السياسة وعالم الاقتصاد والمجتمع وداخل البيوت المقفلة على العنف والمنع والتكبيل، حتى يبقى الصوت الأنثوي هامشياً، ويظهر في أحسن الأحوال كحبة فراولة صغيرة قد نضيفها على حلوى لا يضنعها سوى رجال، أو “كوتا” يتم التقاتل عليها، حتى إذا حصلت عليها النساء ذات مرّة في بلد ما، اعتُبر ذلك رفاهية وشهامة كبيرة من رجال الأمة، يستحقون من أجلها الشكر والتنازل والقبول والتبخير.
*الشبكة المتوسطية للاعلام النسوي