انطوان جوكي: “بائع الحليب” يطارد الفتاة القارئة في شوارع دبلن العنيفة

0

“بائع الحليب” للكاتبة الإيرلندية آنا بورنس، التي حازت جائزة بوكر البريطانية عام 2019، صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار “جويل لوسفيلد” الباريسية، وسرعان ما حظيت باهتمام القراء الفرنسيين الذين يتابعون روايات البوكر. مبدئياً، بائع الحليب شخص متواضع ومسالم لا يهابه أحد، لكن الأمر  يختلف في الرواية هذه كلياً. أولاً لأن هذا الرجل الذي يطوف في شوارع المدينة خلف مقود شاحنة بيضاء صغيرة ليس بائع حليب حقيقياً. ثانياً، لأنه يملك سلطة في محيطه لا حدود لها، ومَن ينتقده أو يقاوم سلطته يصبح فوراً شخصاً مشبوهاً، لا بل خائناً. رجل لا يتردد في تهديد أي فتاة يتحرش بها بقتل حبيبها إن تجرأت على صده، كما يحدث مع الراوية، وهي فتاة في سن الثامنة عشرة مهووسة بالقراءة إلى حد ممارستها في كل مكان، بما في ذلك أثناء سيرها.

في هذه الرواية المكتوبة بصيغة المتكلم والفاتنة شكلاً ومضموناً، نرى هذه الفتاة، غير المسماة إلا بصفة “الأخت الوسطى”، تفعل ما في وسعها لمنع أمها من اكتشاف علاقتها بذلك الذي يحضر تحت تسمية “الحبيب المحتمل”، وأيضاً لإخفاء (على الجميع) أن “بائع الحليب” أوقفها يوماً في الشارع، ومذ ذاك بات ينتظر مرورها في أماكن مختلفة للتحرش بها. لكن حين يكتشف زوج أختها أمر هذه اللقاءات التي تمقتها، يشيع الخبر فتتسلط الأضواء عليها وتصبح محط اهتمام الجميع وموضوع نميمتهم، وهو أمر خطير في المحيط الذي تعيش فيه.

المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية غير مسمى أيضاً، لكننا نحزر بسهولة أنه مدينة بلفاست، في إيرلندا الشمالية، خلال حقبة السبعينيات الدموية التي عاشتها الكاتبة في صباها. حقبة كان مجرد امتلاك أي شيء من إنجلترا، البلد العدو، خلالها يفضي إلى تهديدات جدية، أو حتى عدم الولادة داخل “الدين الصحيح”. حقبة كانت الحياة اليومية فيها أشبه بجنازة دائمة، وكل كلمة، لا بل كل حركة، مفخخة. كان الرجال يدخلون الحانات بوجوه مقنعة، والنساء يترملن فور زواجهن.

قراءة الروايات

وللفرار من هذا الحاضر القاتل ومن الكراهية المحتدمة فيه، تمضي الراوية وقتها في قراءة روايات من القرن التاسع عشر. لكن تحرش “بائع الحليب” بها، الذي نجهل إن كان مقاتلاً شهيراً أو مجرماً شهيراً، يردها بعنف إلى الواقع. فحين تمارس الركض، تجده في طريقها، وحين تخرج من المعهد الذي تتعلم فيه اللغة الفرنسية، تجده في انتظارها، وحين تتنزه في تلك المنطقة الحدودية التي يتجنبها معظم الناس، حاملةً جمجمة قطة عثرت عليها هناك (أحد المشاهد الأكثر غرابة وبلبلة في الرواية)، يعترض أيضاً طريقها.

وعبثاً تحاول هذه الفتاة إنكار إشاعة علاقتها الجدية بهذا الرجل، فمجتمعها الذي تتحكم به قواعد ضمنية مقيِّدة سيدينها سلفاً. ومع أن التعصب والأحكام المسبقة تطاول جميع أفراد هذا المجتمع، لكن وضع النساء فيه هش بشكل خاص، إذ لا يُنتظر منهن سوى الزواج وإنجاب الأطفال والولاء الكلي. ولذلك، هامش مناورة “الأخت الوسطى” شبه معدوم، ونراها باستمرار تسير على خيط رفيع وتواجه بوحدها التهمة الموجهة إليها والعار الناتج منها.

وفعلاً، لن تلقى هذه الفتاة في محنتها أي مساعدة من عائلتها. فبين إخوتها الكبار المتزوجين وغير المكترثين لأمرها، وأخواتها الصغيرات العاجزات عن تقديم أي معونة لها، وأمها التي تلومها منذ أن بلغت سن السادسة عشرة لأنها لم تتزوج بعد، وترى في الإشاعات المتداولة حول علاقة ابنتها بـ “بائع الحليب” الدليل على سلوكها الفاسد، ليس من السهل العثور على عزاء. يبقى “الحبيب المحتمَل” الذي يبدو لها، وسط النميمة الخانقة، “فضولياً، ملتزماً ومتحمساً بفضل شغفه بالسيارات ومشاريعه وأمله”. لكن هل يتوافق سعيها إلى الحرية مع “العلاقة المحتملة” التي تربطها به؟

وفية لذاتها، لا تأخذ “الأخت الوسطى” بالأفكار المسبقة المنتشرة في محيطها، بل تتابع قراءاتها ودراستها اللغة الفرنسية، وتكافح من أجل رؤية الأشياء بوضوح وعدم تلويث نفسها بما يحدث حولها، والمحافظة على رغباتها وأحلامها السرية، وإن كان ثمن ذلك العزلة. وفي عالم محكوم بالصمت وانعدام الثقة والعنف، يبدو سلوكها المقاوم هذا ورفضها أي تسوية كصرخة مدوية. صرخة “كانت الإمكانية الوحيدة التي كنت أمتلكها في عالم يحرمني من الصراخ”.

رواية ديستوبية

اسم الراوية لن نعرفه أبداً، ولا شك في أن غاية الكاتبة من ذلك تحويل هذه الفتاة إلى صوت جميع اللواتي كن، مثلها، في سن الثامنة عشرة خلال “الاضطرابات” التي أدمت إيرلندا الشمالية في السبعينيات. ومع أن وطنها آنذاك يشكل مصدر وحيها، تماماً كما في روايتيها السابقتين، “لا عظام” (2001) و”تشييدات صغيرة” (2007)، إلا أنها تتمكن في “بائع الحليب” من بلبلة الخرائط والهويات بطريقة ديستوبية تخلق مناخاً خانقاً يصدي أبعد من إيرلندا الشمالية. فالراوية ليست وحدها بلا اسم، بل جميع شخصيات الرواية التي تحضر باسم وظيفتها أو موقعها داخل العائلة أو بالنسبة إلى الراوية، “الحبيب المحتمل”، “الصهر الثالث”، “الأخت الأولى”… وأبعد من هذه الشخصيات، لدينا أيضاً ناس “الطرف الآخر من الطريق”، ناس “الجهة الأخرى من الماء” أو “الجهة الأخرى من الحدود”. باختصار، عالم غير محدد إلا بعمليات القتل المستشرية فيه، وبكونه مقسوماً إلى جزأين ومسكوناً من قبل طرفين، “هم” و”نحن”. عالم الكلمات فيه قاتلة، ويتم الحكم على أقل شيء داخله بمعيار الحدود التي تفصل بين هذين الطرفين ويتعذر عبورها.

وكلما تقدمنا في قراءة الراوية، نستشعر بقوة بُعدها الشامل، خصوصاً في ما يتعلق بالآليات الفاعلة داخل الإشاعات، وبالضغوط الاجتماعية وعمليات التضليل والتدليس، وبكيف يمكن أن يقود النظام المنبثق من حرب أهلية إلى توتاليتاريا مغلَقة على جميع المستويات. ومثل جورج أوريل الذي يروي تبعات “اللغة الجديدة” والتفكير المزدوج على لسان شخصيته وينستون سميث في روايته الشهيرة “1984”، تُسمِعنا بورنس صوت “الأخت الوسطى” المتأتي “من هذه الجهة من الطريق”. صوت فريد ومؤثر إلى أبعد حد في انفعالاته وعمقه وطرافته السوداء.

تجاوز السرد 

ولا عجب إذاً في حصد بورنس “جائزة بوكر” العريقة على هذه الرواية، إذ “لا أحد من بيننا قرأ شيئاً مشابهاً لها”، كما قال بشكل صائب، ومن دون مبالغة، رئيس لجنة الجائزة، أنطوني أبياه، لدى تسليمها للكاتبة. وفعلاً، نص “بائع الحليب” يتجاوز معايير السرد التقليدي. ومع أن صاحبته تشيع داخله مناخ قلقٍ كامن وتهديد خفي، إلا أننا نسير خلفها مبهورين، على هذه الأرضية المفخخة. لماذا؟ لأن كلماتها تتمتع بسحر خاص، بسلطة أدائية تشدنا إلى صفحات الرواية وتأسرنا. وصحيح أن المونولوغ الداخلي للراوية وفيض إدراكها وكلامها يفرض على القارئ وقفات ضرورية لاستعادة أنفاسه، والتطورات داخل الرواية بطيئة، لكن النشوة والانفعالات الجمة التي تنتظرنا داخلها شديدة الحدة. كذلك الأمر بالنسبة إلى أسلوب الكاتبة الذي يفاجئ القارئ ويبطئ قراءته في الصفحات الأولى بخشونته وطابعه المبتَكر، قبل أن تتكشف له تدريجاً طاقة النص المتفجرة وتخطفه الابتكارات الشكلية الجذابة داخله.

باختصار، ثمة عبقرية في لغة بورنس السيالة، الموقعة والمسيطَر عليها بإحكام. لغة تسمح لها بتصوير عالم بكامله بدقة مدهشة، وبتجسيد باقة كبيرة من الشخصيات المختلفة بقوة نادرة. وكما لو أن ذلك لا يكفي، نراها تقفز بيسر كبير من الخاص إلى العام، من قصتها إلى التاريخ، من مدينة بلفاست إلى أي مكان في المعمورة، ومن الفرد إلى المجتمع، ثم تعيد تركيز انتباهنا على سرديتها باستطراد أو لقاء محدد، لتعود فتعانق مجدداً أفقاً أوسع.

والنتيجة؟ رواية مذهلة، لا هوادة فيها، يقشعر البدن لخطابها ومناخاتها الضاغطة، علماً أن صاحبتها، بذهابها دائماً أبعد فأبعد في تأملاتها، تقطّر بمهارة داخلها الدعابة والسخرية من الذات، ما يحول نصها ذا التوازن التام إلى تحفة أدبية، وفي الوقت نفسه، إلى صرخة حشد ناجعة ضد مختلف أنواع العنف والجور.

*اندبندنت