في أيلول-سبتمبر 2009 أعلن الروائي الإسباني خوان غويتيسولو رفضه لجائزة معمر القذافي الأدبية.
كان هذا موقفاً بديهياً يتخذه كاتب عاشق للثقافة العربية، اختار الإقامة في مراكش، وأعاد قراءة الجذور العربية- الإندلسية لثقافة بلاده، وكان مدافعاً عن حقوق الإنسان.
قال الكاتب الإسباني في بيان رفضه للجائزة «إن هذا الموقف ينسجم مع قناعاتي ومواقفي المناصرة لقضايا العدل، وهي خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماهي مع مواقفي المناهضة دوماً للأنظمة الاستبدادية».
وفي تشرين الأول-أكتوبر 2003 رفض الروائي المصري صنع الله إبراهيم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، في مهرجان كبير نظمه المجلس الأعلى للثقافة، وشكل هذا الرفض صرخة في وجه الاستبداد والتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. عندما بدأ صنع الله إبراهيم إلقاء كلمة الرفض رأينا الوجوم على وجوه المسؤولين المصريين، بينما ارتسم ما يشبه الرعب على وجوه أعضاء لجنة التحكيم. قال إبراهيم في كلمته: «في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف، وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حياً بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربياً.
هبط صنع الله إبراهيم عن المسرح وسط تصفيق حاد، وحمله الحاضرون على الأكتاف، وقد رد رئيس المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور، على صرخة صنع الله إبراهيم في وجه الاستبداد بكلمة قال فيها: «صنع الله إبراهيم لم يرفض جائزة من الحكومة بل من الأمة العربية»!
لم يجد منظمو جائزة القذافي، بعدما رفضها غويتيسولو، مخرجاً من فضيحة جائزتهم وكان على رأسهم يومها إبراهيم الكوني، سوى في اللجوء إلى إنقاذ ماء وجه جائزة العقيد، فمنحوها لجابر عصفور الذي ذهب إلى طرابلس ليتسلمها وسط وفد ثقافي نُظم على عجل.
بعد هذين الحدثين اللذين هزا تركيبة الجوائز العربية، تعلمت الأنظمة درساً بليغاً، وهي أن تطلب من الكاتب أو الكاتبة موافقة مسبقة قبل منح الجائزة. هكذا صار الرفض مستحيلاً، إذ عليك أن توقع على قبولك الجائزة قبل أن تمنح لك، ما يعني أن الاعتراض على استبداد الأنظمة عبر رفض جوائزها لم يعد ممكناً.
وهذا ما حصل مع الفيلسوف الألماني التسعيني يورغن هابرماس، الذي وافق على تسلم جائزة الشيخ زايد مسبقاً، ثم نبهته «دير شبيغل» إلى خطئه، وكتبت: «بهذا يتطرق هابرماس إلى السؤال الحاسم الذي طرحته جائزة الشيخ زايد للكتاب: من يخدم من؟ هل يمكن أن يتحول هابرماس إلى أداة دعاية إماراتية، يتم تدريبها على إخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخان من المفردات السامية والتألق الثقافي»؟
وجاء رد هابرماس سريعاً، فأعلن رفضه للجائزة وقال: «لقد كان قراري خاطئاً، وأنا أصححه الآن، لم أفهم بشكل كافٍ العلاقة الوثيقة للغاية بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز في أبو ظبي والنظام السياسي القائم».
مرّت جائزة القذافي وسط صمت عربي مريب، وتم التستر على الفضيحة بمنحها لكاتب عربي، أما جائزة الرواية في مصر فقد حاولوا إنقاذها بمنحها في العام الذي تلا رفضها إلى الطيب الصالح الذي قبلها. جائزة القذافي انهارت قبل انهيار النظام، وجائزة القاهرة فقدت بريقها.
غير أن نمطاً جديداً من الجوائز شق طريقه، وهي الجوائز الأدبية بتمويل إماراتي، وهي جوائز نجحت في اكتساب صدقيتها نتيجة جدية لجان تحكيمها، ولعل الجائزة التي احتلت مكانتها، رغم بعض الشوائب، هي الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر».
ورغم التطورات السياسية بعد «اتفاق أبراهام» والزحف التطبيعي- التتبعي، فإن الجوائز الإماراتية لم تتأثر. صدر بيان يتيم يعلن أن شرط استمرار جائزة «البوكر» هو التخلي عن التمويل الإماراتي، لكنه بقي بلا صدى. وكانت المفاجأة أن الأمور بقيت على حالها، المئات رشحوا رواياتهم للبوكر والعشرات رشحوا كتبهم لجوائز الشيخ زايد!
وكان السؤال المؤرق هو هل فقدت الثقافة العربية شرفها وتخلت عن القيم الأخلاقية التي تدعو إلى استقلالية المثقف، وتفترض أن دوره هو الوقوف في وجه الظلم والاستبداد؟
صحيح أن المشهد الثقافي تم تهميشه وسط عربدة زمن التابعين الذين يريدون تطبيع الاستبداد، وصحيح أيضاً أن الحواضر الثقافية في المشرق العربي تعيش في عتمة الاستبداد والتفكك والانهيار، لكن لا شيء يبرر هذا الانحطاط الأخلاقي.
كنا ننتظر من الكتاب مقاطعة هذه الجوائز المغمسة بالاستبداد، وإدانة هذه الحفلة التطبيعية التنكرية المشينة. لكن للأسف، فإن المتدافعين على نيل جوائز السلطان، لم يردعهم أي اعتبار أخلاقي.
عندما رفض غويتيسولو وصنع الله إبراهيم الجائزتين، شعرنا أن الثقافة العربية انتفضت دفاعاً عن كرامتها.
واليوم عندما أعاد هابرماس النظر في قبول جائزة الشيخ زايد ورفضها، قام بالدفاع عن شرفه في مواجهة الخدعة الرائجة بأن الثقافة والحداثة صارتا ملكاً للمستبدين والمطبعين مع دولة التمييز العنصري التي تحتل أرض فلسطين.
هل يوقظ هذا الموقف الأخلاقي المثقفين العرب من سباتهم ومن خطر تحولهم إلى مثقفي بلاط، ومتواطئين مع الاستبداد والتتبيع التطبيعي مع إسرائيل؟
هل ننتظر غداً موقفاً من مثقفة/ مثقف عربي يعلن تراجعه عن قبول الجائزة؟ أو ينسحب من جائزة «البوكر» قبل إعلانها؟
لا أعرف الجواب على سؤالي، لكنني أعرف أن الجواب يجب أن يكون بسيطاً ومباشراً. السكوت لم يعد ممكناً، ومواجهة الانحطاط لا تحتاج إلى شجاعة استثنائية، بل إلى اقتناع بأن الثقافة هي الباقية، وأن الكلمة التي كانت في البدء هي الأقوى، وأن المثقف لا يكون مثقفاً إلا إذا كان حراً ومتحرراً وقادراً على الوقوف في وجه الظلم والديكتاتورية والاحتلال.
شكراً لهابرماس الذي امتلك شجاعة الرجوع عن الخطأ، والذي أكد من جديد إيمانه «بقوة الكلمات النقدية».
*القدس العربي