الياس خوري: حين تمتزج الحياة بالموت

0

وجد شلومو نيئمان، رئيس مجلس المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، الكلمة الملائمة من أجل وصف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. فقد طالب «بقتل أمل الفلسطينيين»، رداً على عملية الغور الفدائية. بالنسبة لغُلاة المستوطنين الذين يعيثون في الأرض خراباً، لم يعد قتل الفلسطينيين كافياً، بل يجب الانتقال إلى مرحلة قتل أملهم في الحرية.
والسيد نيئمان لم يكتشف جديداً، فالهدف الإسرائيلي الثابت منذ بداية النكبة المستمرة عام 1948، هو دفع الفلسطينيين إلى اليأس من كل شيء، وإقفال أبواب الأمل في وجوههم، على اعتبار أن اليأس سوف يقودهم إلى الاستسلام الكامل.
لكن ما معنى قتل الأمل؟ وإلى أين يقود اليأس؟
هذا هو السؤال الذي بدأ اليمين الإسرائيلي الفاشي يكتشف جوابه. فالعربدة الوقحة التي تحولت إلى سياسة إسرائيلية رسمية مع صعود الصهيونية الدينية وإمساكها بالائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو، هذه العربدة تستند إلى رؤية إسرائيلية تفترض بأن الفلسطينيين فقدوا الأمل، وأنهم لا يملكون أفقاً، وعليهم القبول بموتهم.
انظروا إلى صور العربدة في المسجد الأقصى، هل يمكن أن نتخيل جيشاً يحتل كنيسة مسيحية ويطلق النار على المصلين، قبل أن يقوم ببطحهم أرضاً وتكبيلهم أمام عدسات الكاميرات؟
أو أن نتخيل مشهداً مماثلاً في كنيس يهودي، أو معبد بوذي؟
ما يبدو لنا خارج احتمالات الخيال تحول إلى حقيقة على يد المستوطنين وجيشهم، فهذه العربدة ممكنة فقط إذا افترض الذين يقومون بها بأن الضحايا فقدوا الأمل، ويمكن التعامل معهم بالأساليب التي يمليها الخيال العنصري المريض.
عندما قرأت تصريح الخواجة الإسرائيلي لم أفاجأ، فالناس في فلسطين وبلاد المشرق العربي يعيشون في اليأس، بل ربما وصلوا إلى مرحلة ما بعد اليأس.
لقد نجح الاحتلال الاسرائيلي وأنظمة الاستبداد والتبعية العربية في بناء حائط اليأس الذي يشكل امتداداً لجدار الفصل العنصري في فلسطين. وحائط اليأس ليس مجرد مكعبات إسمنتية، بل هو بنية متكاملة يسيجها التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال.
أنظمة تطبّع وتتعاون مع احتلال يقوم بإذلالها لأنها مصابة بالرعب من شعوبها المكبلة بالقمع. أما قمة حائط اليأس هذا فنجدها في فلسطين، حيث يقفل استسلام السلطة الفلسطينية الأفق بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.
العربدة الإسرائيلية وصلت إلى ذروتها في حوّارة، التي يريد سموتريتش إزالتها من الوجود، وإلى مستعمرة «كريات أربع» في الخليل حيث رقص بن عفير على إيقاع عيد المساخر- بوريم.
حقيقتان غابتا عن وعي دعاة قتل الأمل الفلسطيني:
الحقيقة الأولى هي أن مشروعهم يهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي. فالمشروع الاحتلالي لا يكتمل إلا بتحويل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية، وهذا يعني تغييراً جذرياً في بنية السلطة الإسرائيلية، وتهميشاً للمؤسسة القضائية، وغلبة للمسيانية الفاشية على المجتمع الإسرائيلي. وهذا ما صنع سيل مظاهرات الاحتجاج، وأعلن انقسام المجتمع الإسرائيلي بشكل صار من الصعب تلافيه.
والحقيقة الثانية، وهي الأكثر أهمية، تكمن في إرادة الحياة التي لا يمكن قتلها. وهذا ما تعبر عنه المقاومة الفلسطينية الجديدة التي تتسع في كل يوم، وتتخذ أشكالاً منظمة وعفوية، جماعية وفردية، بحيث صار من الصعب التنبؤ باحتمالاتها.
الحقيقة الثانية اسمها حقيقة ما بعد اليأس، شبان يذهبون إلى موتهم دفاعاً عن الحياة. فالموت الفلسطيني يمتزج بالحياة، بحيث صار من الصعب الفصل بينهما. من كعب اليأس يولد الحلم، وهو حلم لا يتعدى التأكيد على أن الفلسطينيين يصنعون حياتهم ويعطون معنى للوجود عبر كسر الحاجز بين الحياة والموت.
بعد سبعة عقود من السباحة وسط أمواج اليأس، يأتي من يعلن بداية جديدة وسط النهاية، فيقوم بقلب المعاني رأساً على عقب، ويستعيد اسم الفدائي كاسم للذي اختار أن يموت كي لا تموت الحياة على أرضه.
امتزاج هاتين الحقيقتين، حقيقة التحول الإسرائيلي نحو فاشية دينية لا عقلانية، وحقيقة البداية الفلسطينية الجديدة التي تنشأ خارج اللغة السياسية القديمة وأطرها، يقدم لنا صورة جديدة للحاضر، علينا أن نتعلم أبجديتها من جديد.
إلى جانب هاتين الحقيقتين تبرز حقيقة ثالثة عبرت عن نفسها في صواريخ الكاتيوشيا والغراد التي أطلقت من جنوب لبنان. مجموعة صغيرة من الصواريخ القديمة كانت تستخدم في سبعينيات القرن الماضي، جاءت لتعبر عن تضامن رمزي مع المعتصمين في المسجد الأقصى، كانت كفيلة بخلخلة البنية السياسية الإسرائيلية، لأنها كشفت بأن خيار الحرب لم يعد سهلاً.
أمام هذه الصواريخ القليلة العدد والفاعلية أصيبت الآلة الإسرائيلية بالرعب، أخطأوا في أرقام الصواريخ، ثم بدأوا حفلة تهديدات واجتماعات وتسريبات انتهت إلى قصف «رمزي»، لأراض فارغة في الجنوب اللبناني، ولبعض القذائف التي سقطت على قطاع غزة.
لقد فهم الإسرائيليون أن اللعبة على الطريقة القديمة لم تعد مجدية، وأن عليهم مراجعة حساباتهم جيداً، قبل أن يندفعوا إلى حرب لا تسمح بها انقساماتهم، وصارت بعيدة المنال في ظل موازين قوى جديدة.
وغداً سيكتشفون أن ثمن العربدة في الضفة والقدس يكبر يوماً بعد يوم، وأن السكرة المسيانية التي أتت في زمن صعود اليمين الشعبوي في العالم لم تعد تستطيع أن تحمي نظام الأبارتهايد والتطهير العرقي في فلسطين.
المستوطن الصهيوني الذي سرق الأرض لا يزال مصراً على سرقة الأمل والحياة. لذلك لا خيار أمام الفلسطينيين سوى المقاومة، ولا خيار للمقاومة سوى الاستمرار حتى إزاحة كابوس الاحتلال.
فالحياة حين تمتزج بالموت تصير أقوى من الموت.

*القدس العربي