الياس خوري: ثلاثة أيام وانتخابات

0

تستعيد الانتخابات النيابية التي ستجري يوم الأحد المقبل في لبنان ثلاثة أيام لا تحتل الذاكرة فقط، بل تحتل الحاضر أيضاً. وهي استعادة مثيرة للانتباه بما تحمله من دلالات تكشف المعاني التي يختزنها هذا اليوم.
اليوم الأول: الأحد 15 أيار- مايو
هل أتى موعد الانتخابات كمصادفة عبّرت عن تسوية بين زعماء القبائل والطوائف اللبنانبة، بعد مناكفات طويلة؟ وما هذه المصادفة التي جعلت من يوم نكبة العرب الكبرى 15 أيار-مايو 1948 موعداً ضربته الطبقة الحاكمة من أجل تجديد شرعيتها المتهاوية، عبر لعبة انتخابية فُصّل فيها القانون كي يلائم هيمنتها على الحياة السياسية اللبنانية؟
لكنها ليست مصادفة بريئة، لأنها تشير إلى احتمال تحويل هذا اليوم إلى هامش لمسار سبعة عقود من النكبات المستمرة.
قلت هامشاً؛ لأن الانتخابات في الظرف الراهن لن تكون سوى محطة صغيرة في فوضى الخراب الذي أوصل لبنان إلى حضيض الانهيار الشامل.
لكني أتساءل: لماذا لم يتنبه أحد إلى هذه المفارقة؟
هل فقد أصحاب القرار في لبنان أي حسّ تاريخي؟ أم أن اللامبالاة أغمضت عيونهم عن رؤية الماضي، مثلما أغمضت عيونهم عن رؤية الهاوية التي يقودون لبنان إليها.

اليوم الثاني: 4 آب- أغسطس 2020

لا أدري كيف تجري الانتخابات فوق أشلاء بيروت التي دمرت في انفجار الرابع من آب- أغسطس؟ وكيف سنذهب إلى صناديق الاقتراع وسط الشلل الكامل الذي فُرض على القضاء، عبر تعطيل التحقيق وتعطيل التشكيلات القضائية؟
فالانتخابات ستجري في بلد اللاعدالة، حيث يتبارى اللصوص القابضون على السلطة على تحطيم القيم وتهشيم القضاء وتهميشه وشلّه.
مرشحون بعضهم يبحث عن «الحصانة» كي لا تطبق في حقه مذكرة توقيف قضائية، وبعضهم الآخر يتحصن خلف الميليشيات التي وجدت في النظام المصرفي مظلة للنهب، وبعضهم الثالث يحاول التمسك بسلطة متداعية، وبعضهم الرابع يكشف في خروجه من اللعبة أن قاعدة اللعبة هي الارتهان للخارج الإقليمي.
سوف يأتي من سيشبه بيروت بطائر الفينيق الذي انبعث من رماده! هذه الاستعارة المبتذلة التي لا تتوقف عن التناسل تتناسى أننا لا نعيش تحت رماد المدينة بل تحت زجاجها المطحون.
المدينة التي حولها الانفجار الوحشي إلى أطلال مدينة، لن تنبعث من نثار الزجاج، ولا من دماء الضحايا، المدينة تريد عدالة ضائعة ومنسية، لكن صوتها يختنق تحت ركام بيوتها وأطلال أهلها.
زجاج الرابع من آب يأخذنا إلى نار الخامس عشر من الشهر نفسه، ولكن بعد عام على انفجار المرفأ. ففي الخامس عشر من آب-أغسطس 2021، احترق الناس في قرية التليل العكارية بصهاريج البنزين، حين تراكضوا لتعبئة القناني والغالونات من الصهاريج، فاحترقوا وسط نار لا نعلم كيفية اشتعالها ومن هو المسؤول عن المجزرة، ومن المرجح أننا لن نعلم.
حريق التليل أخذنا بعد أقل من سنة على حدوثه إلى بحر طرابلس، حيث غرق أو على الأصح أُغرق زورق الهاربين من جحيم الفقر والذل، ولا تزال الجثث حتى اليوم في أعماق البحر.
يوم 4 آب يتناسل في أيام لا نهاية لها، وفي مآسٍ يومية صارت ذاكرتنا تخاف من أن تتذكرها.

اليوم الثالث: 17 تشرين الأول- أكتوبر

كيف نتذكر انتفاضة 17 تشرين التي استطاع انفجار 4 آب تغطيتها بالموت والدماء والحطام؟
كانت انتفاضة لبنان جزءاً من الموجة الثانية من الربيع العربي التي واجهت مصير سابقتها. لكنها كانت أيضاً استفاقة في مواجهة الهول والعار والذلّ التي صنعها النظام الطائفي، الذي لم يكتف بمنع تأسيس وطن، بل قام بتحطيم فكرة الوطن نفسها.
مشاهد الانتفاضة تتداخل: من الفرح والشعور بأن الشعب الذي يريد لا بد وأن ينجح في إسقاط النظام، إلى احتفالية اتخذت طابعاً فولكلورياً، إلى قنابل الغاز المسيل للدموع، ومن الرصاص المطاطي إلى مواجهة عنف ميليشيا النظام، ومن الحلم إلى الكابوس. ومن الاعتقالات إلى تدمير خيام المعتصمين.
غير أن المشهد الذي حفرته الانتفاضة في العيون هو العيون التي فقأها الرصاص المطاطي. فمشروع السلطة الوحيد كان منع الناس من الرؤية، وفرض العماء الذي صنعته خيمة الزجاج المطحون التي ابتلعت المدينة.
ثلاثة أيام تتداخل في لحظة أطلق عليها اسم الانتخابات.
ولكن ما معنى أن تُحفظ صناديق اقتراع المغتربين في المصرف المركزي. فهذا المصرف الذي يحتوي غرفاً محصنة، كان ولا يزال مركز الكارثة التي وصلنا إليها.
هل يحمي البنك الديمقراطية؟ أم أن أسياد النظام المصرفي اللبناني كانوا شريكاً وأداة في نهب لبنان؟
ما هذه اللعبة الرمزية التي تجعل من ناهب أموالنا حارساً لأصواتنا!
والسؤال هو: هل الانتخابات هي وسيلة انتفاضة شعبية مهزومة للتغيير؟
بالطبع لا، فهذه الانتخابات لن تكون محصلتها سوى تجديد الأزمة والدفع إلى مزيد من الانهيار.
ورغم اقتناعي بلا جدوى العملية من أساسها، فإن قلبي لا يستطيع أن يكون إلا إلى جانب لوائح التغيير، وهي تحاول تحدي الجدار الطائفي ومقاومته.
سوف يكون هذا اليوم الانتخابي الفصل الختامي في حكاية الانتفاضة، لكن معناه الوحيد هو أنه قد يضيف تجربة جديدة في الطريق إلى أفق الثورة الذي لا طريق سواه كي نحمي ما تبقى لنا من وطن من الاندثار.

*القدس العربي