قال نجيب علم الدين: «أنا متأكد من أن سقوط بنك إنترا كان بداية انهيار لبنان ونظامه السياسي. لقد حكمت لبنان حكومات فاسدة بدون أخلاق أصابت لبنان بداء قاتل منذ الاستقلال. وأخيراً رمت البلاد في أتون حرب أهلية عام1975، أدت إلى خسارة وجودها كدولة مستقلة».
أخذَنا علم الدين، النائب والوزير السابق، وأول رئيس لمجلس إدارة «شركة طيران الشرق الأوسط» بعدما اشتراها بنك إنترا وحولها إلى أهم شركة طيران في العالم العربي، إلى بيروت عام 1966، يوم تهاوى بنك انترا كنتيجة مباشرة لرفع أسعار الفائدة الأمريكية والأوروبية، ما أدى إلى سحوبات هائلة في ودائع البترو دولار. الطغمة السياسية اللبنانية التي لم يكن في مقدورها تحمل وجود مصرف لبناني بحجم انترا، له امتدادات في العالم بأسره، انقضت على البنك بهدف الانتقام بفجاجة ودونية من يوسف بيدس، المقدسي الذي لجأ إلى بيروت بعد النكبة، وأسس أهم مصرف في تاريخ لبنان.
تعالوا نتخيل المشهد، شاب متوقد الذكاء بنى إمبراطوريته من مكتب صغير برأسمال أربعة آلاف دولار أمريكي، وبدأ يقفز إلى الأعلى، ولم يتوقف أو يرتدع أو يخاف. نجح في جذب رؤوس الأموال الفلسطينية الهاربة من الجحيم الإسرائيلي، لكنه استطاع بعد ذلك جذب رؤوس أموال سورية وخليجية، لكن رأسماله الأكبر كان جنون الذكاء الذي جعله يبني إمبراطورية لا سابق لها ولم يستطع أن يرثها أحد. عمل في إطار الفوضى الاقتصادية اللبنانية في الخمسينيات، وهو إطار مريح لكنه مخادع، لكن مشكلته أنه لم يكن لصاً كغيره، ولم يستطع التأقلم مع أجواء المافيات اللبنانية المتشبعة بالطائفية وبعنصرية فجة، ولم يندمج في مناخات جمهورية التجار والإقطاعيين الذي أصيبوا بالرعب أمام ذكاء برّي لم يستطع أحد تدجينه، فقرروا استغلال أزمة انترا المستجدة من أجل الإطاحة بالرجل ووضع الاقتصاد اللبناني بأسره أمام الهاوية.
مات يوسف بيدس وحيداً ومريضاً في سويسرا حيث دُفن، وصار بطل رواية لم يكتبها أحد. فروايته يلفها الغموض، تماماً مثل حياته التي مرت سريعاً كشهاب عبر سماء بيروت، وكان انطفاؤه العلامة المبكرة على انطفاء المدينة.
اليوم حين ننظر إلى حاضر المدينة نستطيع أن نفهم بؤس الذين توالوا على حكم لبنان، فهؤلاء لا علاقة لهم ببيروت التي كانت. فبيروت كانت طفرة فوضى نمت وسط عجز الطبقة الحاكمة عن بناء مؤسسات عقلانية.
مرت بيروت فوق رؤوسهم ورؤوس أبنائها، وكانت ابنة العواصف السياسية والاقتصادية التي اجتاحت العالم العربي. وعندما قبضت الطبقة الحاكمة على المدينة قامت بتدميرها، وابتدأ الدمار بتفليس بنك انترا بواسط التآمر والحقارة، ثم لفها الخراب، بحيث لم نعد نجد بيروت في بيروت.
عدت إلى يوسف بيدس وأنا أتفرج على مهزلة مضحكة مبكية اسمها ملاحقة حاكم مصرف لبنان من قبل القضاء الأوروبي. مصارف الزومبي اللبنانية صنعت ثرواتها الطائلة من سرقة المودعين، ومن التوظيف المنعدم الحس الاقتصادي للمال في شراء ديون دولة مفلسة، بهدف الربح السريع، فانتهى بها الأمر إلى أكبر منهبة في التاريخ.
كان يوسف بيدس الفلسطيني صورة لبيروت الخمسينيات والستينيات، مدينة تنمو على حافة المشرق العربي، تلتمع فيها حداثة ناقصة، وتعصف بها احتمالات الثقافة والثروة، فتحولت إلى مرآة الاحتمالات العربية، وعاصمتها الثقافية البديلة.
دخل يوسف بيدس من ثغرات الاحتمال، فكان يشبه أبطال روايات جبرا إبراهيم جبرا، لكن مصيره التراجيدي كان مرتبطاً بجنون طموحاته، وارتطم بالمدينة التي صنعته وصنعها.
سقوط بيدس كان جزءاً من تناقضات المدينة، لكنه لم يكن مجرد سقوط ناجم عن سكرة الرجل بنجاحه، وجموح خياله، وبعض تصرفاته الطائشة، بل كان تعبيراً عن اصطدام بيروت بتناقضاتها: آلة طائفية عنصرية تحكم، ونخبة تتألف من خليط من اللاجئين والمغامرين الذين استخدموا فوضى لبنان من أجل الوصول إلى القمة، فكان لا بد من أن يسقط الساحر بيد من سحرهم وسخر منهم وعاملهم باحتقار يستحقونه.
من المهين للعقل مقارنة أخطاء يوسف بيدس وتهوره وجموحه، بالنهب الذي قامت به عصابات مصرفيي هذه الأيام الذين يتصرفون كاللصوص لأنهم لصوص. مجموعة من الشبيحة امتطوا السلطة وحولوا الاقتصاد إلى «لعبة كشاتبين»، معتقدين أن العالم سينقذهم من السقوط، فسقطوا وأسقطوا معهم نظاماً سياسياً اقتصادياً لم يعد إصلاحه ممكناً.
في كتابه «إمبراطورية انترا وحيتان المال في لبنان»، روى كمال ديب حكاية بيدس من ألفها إلى يائها، في بحث شائق جمع ما بين التحليل العلمي للاقتصاد اللبناني، وحكاية يوسف بيدس المأساوية. المغامرة البيدسية اصطدمت بتناقضاتها السياسية، ولعبة الرجل الآتي من خارج الأطر التقليدية اصطدمت بجدار التركيبة اللبنانية. خطأ بيدس أنه راهن على الشهابية التي كانت تتداعى تحت ضربات البنى التقليدية.
لكن بيدس كان عكس فؤاد شهاب الذي فهم حدود اللعبة فانكفأ وصمت بعد رسالة قصيرة أعلن فيها يأسه.
لم ييأس بيدس ولم ينكفئ، بل مضى في لعبته إلى نهايتها، انفرد وتفرد، غامر وتجبّر، ولم يحمِ مصرفه ببنى مؤسساتية راسخة. أتخيل أنه كان على قناعة بأن بيروت واقتصادها هما مزيج من المغامرة والمقامرة. المغامرة لعبة ذكاء، والمقامرة لعبة حظ، ولا مكان هنا لمؤسسات تضع حدوداً للمغامر أو تردع المقامر من الشطط.
قيل الكثير عن مغامرات بيدس، وعن رعب جمهورية التجار من استيلاء انترا على مفاتيح اقتصاد الخدمات اللبناني: شركة طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان، فندق فينيسيا، استوديو بعلبك، راديو أوريان، شركة مرفأ بيروت وإلى آخره…
غير أن إسقاط انترا بخبث وتشفٍ لم يكن يدل سوى على انحطاط طبقة اللصوص، التي سيتخذ انحطاطها بعداً يفوق الخيال في زمن إفلاس كل شيء اليوم.
في اللهجة العامية نستخدم كلمة «شلمستي»، لوصف المخادع والفهلوي والدجال. أغلب الظن أن هذه الكلمة تعود إلى فعل شَلَمَ، أي سحر وأبهر وأدهش، كما جاء في «معجم الألفاظ العامية» للمعلم أنيس فريحة. هذه هي الصفة الملائمة للعبة المصرفيين والسياسيين اللبنانيين، الذين حفروا لأنفسهم حفرة لا قرار لها. الآن عادت بيروت كما كانت في أوائل القرن التاسع عشر، بلا مرفأ وبلا مصرف وبلا صحافة، أعادها «الشلمستية» إلى الخمول الذي يليق بهم، وحطموا الاحتمال العربي الذي تحول إلى كابوس.
أسمع يوسف بيدس يبكي ويضحك من قبره، يبكي على مدينتيه: القدس وبيروت، ويضحك لأن الزمن انتقم له من عصابة اللصوص والأغبياء التي انتحرت وهي تعتقد أنها تبني سلطانها وتسلطها.
*القدس العربي