الياس خوري: الأمل والألم والحلم

0

كتبت لي صديقتي ل. رسالة صغيرة تعليقاً على مقالي «النعل الذهبي»، الذي نُشر الثلاثاء الماضي في «القدس العربي» (31-1-2022)، وختمت رسالتها قائلة: «لكن ما أدهشني هو أنه لا يزال لديك أمل في دولة ديمقراطية علمانية في لبنان»!
صديقتي ل. امرأة خارقة الذكاء، ومناضلة قدمت ولا تزال تقدم مساهمات كبرى على المستويين الثقافي والسياسي في فلسطين. شعرت بأن أحرف رسالتها تحترق بالحزن على المآل الذي وصلنا إليه هنا في لبنان وهناك في فلسطين وهنالك في سوريا. خريطة الألم العربي لم تعد تتسع لمزيد من الألم.
الأمل صار ألماً، والرجاء صار خيبة.
توقفت طويلاً عند كلمة أمل، ما معنى الأمل؟ هل صحيح أن ما كتبته يحمل في ثناياه معنى الأمل؟
سأبدأ من الآخر، فأنا لا أحب كلمة أمل ولا أستسيغها، لأنها تحمل في ثناياها معنى أخروياً وشبه قدري. فالأمل يأتي من مفهومي النعمة والرجاء، أي أنه وعد انتظاري.
وعلى الرغم من شيوع كلمة أمل عبر استخداماتها الأدبية المختلفة، من سعدالله ونوس: «نحن محكومون بالأمل»، إلى فواز طرابلسي: «عن أمل لا شفاء»، وصولاً إلى محمود درويش الذي واجه الحصار بالشعر وتربية الأمل: «نفعل ما يفعل السجناءُ/ والعاطلون عن العملْ/ نربي الأملْ»، فإن كلمة أمل هشة وسريعة العطب، لأنها مرتبطة بالانتظار. لذلك شاعت هذه الكلمة في الأغاني من أم كلثوم: «أمل حياتي» إلى فيروز «عندي أمل فيك» إلى آخره… الأمل يستدعي نقيضه، أي اليأس، فعندما تفقد الأمل يحتلنا اليأس، واليأس كالأمل لحظة قدرية مليئة بالمعاني الانتظارية، فعلينا أن لا نيأس من رحمة الله، أو لا نحزن كباقي الناس، على ما جاء في الكتب.
صديقتي ل. معها حق، فالأمل الذي عشناه ومات الكثير من رفيقاتنا ورفاقنا في مسيرة انتظاره تلاشى. من عبد الناصر إلى الثورة الفلسطينية، ومن وعد مجتمع المساواة إلى الانهيار السياسي والأخلاقي للمعسكر الاشتراكي، ومن ثورة يناير المصرية إلى 17 تشرين-أكتوبر في لبنان. آمال تحطمت وتناثرت. ما جعلنا نشعر، وعن حق، ربما، بأن تاريخنا الحديث والمعاصر هو مجموعة من الخيانات.
يجب أن أغير سؤال صديقتي، وبدل كلمة أمل استخدم نقيضها، وأسأل نفسي هل أنا يائس؟
هل يستطيع اليائس أن يكتب؟
فعل الكتابة، حتى لو نسبنا أدبنا ومقالاتنا إلى اليأس هو نقيض اليأس. فاليأس صمت وموت.
لقد شهدنا صمتاً مدوياً بعد حرب نكبة 1948، وشهدنا قبل ذلك خرساً بعد حرب لبنان الأهلية الأولى في القرن التاسع عشر، وهناك أمثلة عربية لا تحصى عن الصمت الذي صاحب نكباتنا. هذا الصمت هو اليأس بعينه حتى ولو تغطّى بخطاب نهضوي أو حداثوي.
السكوت عن الألم وفي الألم هو اليأس.
وسؤالي هل أنا وأنتم يائسون؟
الجواب لن يكون باستبدال اليأس بنقيضه الطباقي أي بالأمل، فلقد جربنا هذا الجواب أكثر من مرة، ووجدنا أنفسنا كمن يعمّق الحفرة التي سقط فيها، بدلاً من أن يحاول الخروج منها.
نحن في مرحلة أقترح أن نطلق عليها اسم «ما بعد اليأس والأمل». الخروج من هاتين الكلمتين صار شرطاً للدفاع عن حقنا في البقاء.
التجربة التي عاشها الفلسطينيات والفلسطينيون في بلادهم المحتلة والممزقة تحت دولة إسرائيل تقدم نموذجاً لمعنى الدفاع عن البقاء، وهو نموذج بلا أمل. فمن عاش النكبة ونجا من الطرد من بلاده، كان يعلم أن الأمل الكاذب في انتظار الجيوش العربية تحوّل إلى كارثة على كل المستويات.
نحن اليوم، في لبنان وفلسطين والمشرق العربي، نعيش لحظة مشابهة. بلادنا تتآكل من داخلها، قيادات الطوائف اللبنانية كقيادات الفصائل الفلسطينية معنية ببقاء هيمنتها وتسلطها ولو اقتضى ذلك المزيد من الإفقار والتهجير والخراب والاحتلال وصولاً إلى الحرب الأهلية.
كيف نواجه هذه اللحظة على المستويين الثقافي والسياسي؟
حين نقول إننا في مرحلة ما بعد اليأس والأمل، فهذا يعني أن علينا أن نجد كلمة ملائمة تعبّر عن توقنا إلى الحرية والعدالة.
وهذه الكلمة سبق لمارتن لوثر كينغ، أن استخدمها، فتعاملنا معها بصفتها كلمة مجازية، لكن الرجل لم يكن يتكلم لغة مجازية، بل كان يصنع التاريخ.
في 28 آب-أغسطس 1972، أطلق مارتن لوثر كينغ شعاره: «أملك حلماً». جاء هذا الحلم من عمق الأسى، ومن تجربة العبودية، وهي إحدى أعنف التجارب الإنسانية وأكثرها وحشية وحقارة.
صرخ بالجموع التي احتشدت معلنة مقاومتها المدنية بأن الأمل يأتي من الحلم الإنساني. واجه العبيد شرائع الأرض والسماء بمقاومتهم الطويلة والعنيدة، كي يؤكدوا حقهم في إنسانيتهم.
لكن الرجل قضى اغتيالاً عام 1968، قبل أن يتحقق الحلم. مات الحالم ولم يمت الحلم. ومرت سنوات طويلة في انتظار خروج نيلسون مانديلا من سجنه معلناً نهاية نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا.
لكن الأبارتهايد لم ينته، بل تناسل في فلسطين، وأسس منذ بداية النكبة نظام فصل عنصري، لم يبدأ العالم يعي قسوته إلا بعد سبعة عقود.
متى يعلو صوت مناضلات ومناضلين فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وعراقيين وهم يعلنون أننا لا نزال نملك حلماً؟ قد يكون الصوت خافتاً الآن، لكن الخفوت لا يعني الغياب. فالموت والهزائم والخيبات لا تقتل الحلم.
أفقنا اللبناني الوحيد هو أن نحلم بوطن ديمقراطي علماني. وحلمنا هو شرط بقاء وطننا ومقاومة اندثاره.
فالحلم يا صديقتي ليس ترفاً، أو مطلباً، إنه شرطنا الوجودي.
نحلم كي نقاوم، ونقاوم بالحلم، ونبدأ من الأول.

(القدس العربي)