عمر الشيخ
شاعر وكاتب صحفي سوري يعيش في قبرص
أوراق- العدد10
ملف أدب الشباب
تحرّرت مع الصّرخات السورية الأولى الّتي صنعها الشارع منتصف مارس 2011، أفكار الحريّة الكتابيّة الموازية للحريّة الاجتماعية والسياسية المفقودة منذ عقود، أو المُبسترة على قياس الطاغية في سوريا.
فالشعارات البعثية رافقت مراحل صقل مخيلتنا الأولى منذ بداية النطق في البيت والمدرسة والجامعة والعمل والشارع والإعلام والثقافة، كانت تطاردنا المخيلة المنظمة الرّديفة للحزب والمرتبة بقياسات مفقودة الوعي، وتقتل أيّة مبادرة فرديّة للتفكير خارج القطيع المؤدلجة، بحبّ القائد، شهوة عبادة صوره، وروح العسكر الدمويّة، المسؤولين في تلك البلاد، والرعب الذي بلور خوفنا واستكانتنا العمياء.
وأصبحنا مع انفجار الحياة نحو احتمالات مجهولة، مُعرّضين للدمار الداخلي والخارجي، لأن معادلة الصّعود للسلطة لن توازيها سِلميّة الهتاف مالم يحمل هذا الرفض اجماعاً في الرغبة بالقضاء على نظام عائلة الأسد الّذي استولى على سورية وأنتج أنظمة مصغرة شبيه به، في كلّ مؤسسات الدولة، سيطر على التفكير، أفقر البلد والشعب وغيّر الهويّة الثقافيّة والفكريّة.
وإذ تبدأ الإنجازات – الانكسارات من عهد “الحركة التصحيحيّة” الانقلابيّة الّتي قام بها وزير دفاع يدعى حافظ الأسد، وحوّل البلاد إلى مزرعة خاصة به بالتواطؤ مع الدول الكبيرة الّتي تحكم العالم. تتغير سرديات الثقافة السورية وتصلنا نحن الذين ولدنا في مرحلة الثمانينات عواصف أهلنا وأبناء البلد في كلّ مكان، كأنّ الجينات الّتي كوّنت هذا الجيل مختلفة ونافرة في كلّ شيء، على وجه التحديد في الكتابة الأدبيّة، عايشت شخصياً منذ مطلع الألفية الثالثة أصواتاً أدبيّة في مختلف أجناس الكتابة، كانت تحمل في كتمانها ثورة مؤجلة أنضجها الشّارع وحطم بوصلة التبعية وجعلنا وجهاً لوجه في نفس الدرب مع الناس، الناس الذين فصلت “دولة الأسد” حضورهم عن الصنعة الثقافية، وحصرت تلك الحالة من المجتمع في طبقات ليشعر المثقّف أو الكاتب أنّه، رغم انكساره فكرياً وإبداعياً، إلا أنّه مميز عن أحد ما، أي أحد، حتّى لو كان ابن بلده الذي يكافح من أجل عيش كريم وعدالة اجتماعية وحرية وكان مسلوب الإرادة والأمل.
في ذلك المناخ من التّوتر التاريخي، ولد النص السوري الجديد، ولد في مرحلة نسفت فيها كل مفاهيم “الانتفاضات” في العالم العربي، ولدت معه اقتراحات الربيع والثّورة، وصار من الضروري أن يضرب بقطيعة متتالية عبر ما كرّسه الصوت السوري من الجيل الجديد عن مفهوم الرفض وصناعة الرأي والمنتج الإبداعي الصادق. بالمقابل ولدت النصوص المضادة الّتي كانت تمثل صوت “سلطة الأسد” وعلى رأسها الهيئات الثقافية في سوريا والتي كانت ولا تزال مشغولة في انتاج كتب تفرضها عليها “مستشارية السفارة الإيرانية” بدمشق مثلاً، أو “القيادة القطرية” لحزب البعث. ببساطة كشفت تلك المؤسسات عن عورة جهلها وتخلّفها بالتوجه إلى الشارع ورغبة الناس في صناعة التغيير، وعلى العكس مارست أحط أنواع الإنتاج الثقافي الذي يخدم الحاكم ويحوّل الثّورة إلى شيطان مأجور.
نهض الكاتب السوري الشاب وفي يده مخيلة الشارع. المضاعفات اليومية لبداية بركان الألم القديم، ألم الاعتقالات ومسننات المخبرين. جمع مشاهداته وأصوات المظاهرات والأنشطة السياسية المناهضة للأسد في المناطق التي أسقطتها “فصائل المعارضة المسلحة” أو تحررت تقريباً من أي وجود لسلطة الأسد -هذا قبل أن تدخل دول العالم إلى سوريا، تحديداً مطلع عام 2012. ثم أصبح النص في أزمة محاكاة، رمزية، يستوحيها من الناس، من المطالب الحقّة، من الحلم بالتعدّديّة السياسية وانتزاع البلاد من أنياب طائفية السلطة وعسكرها.
وجاء السؤال من أين نعيد صناعة نص يشبه هذه الثّورة؟
لقد كانت شوارع البلدات في سورية تختلف في طريقة تعبيرها حسب ثقافة المجتمعات التي تحويها، وكانت درجة العنف تتماهى مع مقدار الغضب الذي كان يتركه جهاز أمن النظام على تلك البلدات، منذ عقود، وحتى بعد بداية ثورة 2011، أخذت الشعارات شكلها السياسي وثمة من ألزمه ضميره على رمي تصفية الحسابات جانباً وتنظيم الأهالي وحماية المظاهرات ومحاولة نشر الوعي السياسي، والمقصود هنا “الثأر القديم للأحزاب السياسية الممنوعة” لأن ما قدمته الثّورة هو شكل رافضي تام لأي نوع من العمل السياسي. كانت تركض الثّورة نحو كل صوت وتسمعه ولم يكن ثمّة نضوج سياسي يحمل همومها الفكرية والاجتماعية وخططها بالتغيير، ذلك أنه ولعقود مضت، تعلّمت أجيال كثيرة في سورية أن تلعب أدواراً خسيسة حسب “مبدأ الرشوة” وكنّا نشاهد آلاف المظاهرات وفيها أناس مكشوفي الوجه عملوا كمخبرين وقتلوا ثلّة من زينة شباب البلد الحالم، أناس خرجوا ليقولوا لا.
وهنا يمكن مقاربة النص السوري حسب قراءة المجتمع السوري بطبقاته أدوار أفراده المؤثرين في حياة الناس، لنكون دقيقين في حياة القارئ، والوادي المسمّى “الحلبوني” في دمشق حيث تجتمع دور النشر يطبع كتباً قد تكون ممنوعة وغير مرغوب بها من قبل “السلطة”، لكن أحداً لن يهتم، لأن الشارع هضم الثقافة ورماها خلفه نتيجة تحقير النظام لطبقة المثقفين والإنتاج الإبداعي، وبناءً على ذلك صار النص السوري الجديد يريد أن يعيش أي شيء جديد حتى لو كان الصراخ بأقسى حالته قبل أن يغتاله النظام أو أذرعه الثقافية.
ومع وجود المنابر الالكترونية الثقافية التي كانت توازي الحراك الثوري، أضف إلى ذلك لجوء نسبة لا يستهان بها ممن اشتغلوا على الثقافة السورية الجديدة وكانوا مبدعين ومبدعات، إلى بلدان أوروبا وغيرها، انتقلت معهم الذاكرة والرغبة بالحلم في التغيير وصناعة مناخ حقيقي لثورة شعب ظلم نصف قرن بحكم العسكر وقضي على وعيه السياسي بالتدريج.
انتقل النص السوري الجديد في محاولاته اليومية إلى منابر أكثر حرية وبلغات مختلفة وأظهر مقدرات مدهشة لدى عدد كبير من الشباب في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وسويسرا وتركيا… كان الكاتب السوري الشاب ينتزع أفكاره الجديد دون سؤال عن رقيب أو تصفية.
صعدت الترجمات الشعرية وكتابة الرواية والمسرح، حضر الشاب والشابة السوريان في مطلع الثلاثينات وهما يقرأن بلغة جديدة ويكتبان بها ويحرران وينشران ويتفاعلان مع المجتمعات التي استضافته، وبقيت قضيتهما الأولى هي تلك الثّورة التي حرّرت وعيهما وصنعت تجربتهما في فهم الحياة والدفاع عن كرامة الإنسان.
لطالما كنت شخصياً أعزل الأهواء الذاتية عن قراءة التجارب الإبداعية في الكتابة. وأعتقد أن المقترحات الأدبية جميعها على درجة ما من الأهمية، وإنها تشكل مفصلاً تاريخية يجب ألا يتم تركه لأبناء “سلطة الأسد” لكتابته وتشويه الحقيقة، وأحدد هنا الأصوات المختلفة في الداخل السوري التي تكتب بعناية ورصانة وتراهن على موتها إلا قليلاً، شعراء وكتّاب وكاتبات قصة وكتاب وكاتبات رواية ومسرحيين، ثمة عشرات الشباب والصبايا يكتبون من الداخل ويوازون في تجربتهم حرية من يعيش في بلدان اللجوء، لأنه برأيي قد حررتهم الثّورة وأنضجت وعيهم ولأنهم كانوا قبل عشرة سنوات في مطلع العشرينات وكانوا يراقبون من سبقهم في الثلاثينيات وهم يقدمون أصواتهم ونصوصهم في منابر خارج سورية تشهد أنهم كانوا شركاء ولازالوا في التأكيد على أن الشباب هضموا كل طغيان “ثقافة سوريا الأسد” وهم يبنون الآن “ثقافة سورية الحرة” رغماً عن أنوف الدبابات وطائرات والميغ وميليشيات الدول اللعينة التي تقتل في سورية الآن.