المثنى الشيخ عطية: «أتحدث عن الزرقة لا البحر» مجموعة الشاعر السوري حسين بن حمزة: لون آخر لاختزال القصيدة حدّ الأثير

0

يفضّل الكثيرون من مريدي «القصيدة الخارجية» ـــ التي ينضوي تحت ظلها الكثير من شعر القصيدة العمودية، وشعر قصيدة التفعيلة التي تنهج نهجها باختلاف الاقتصار على تفعيلة واحدة، والكثير من شعر قصيدة النثر كذلك ـــ عيش نوع هذه القصيدة ترنماً يسمعون فيه الآخر لتجنّب مواجهة سماع أنفسهم، بحياديتها تجاههم، حتى لو تحدثتْ بصيغة الجمع «نحن». ويهربون بحجة الغموض إليها من عيش «القصيدة الداخلية» التي تضعهم في غرفة مرايا أنفسهم، ليروا السكاكين التي في أيديهم، أو الذيول التي تخترق سراويلهم للخروج إلى الشمس، أو دماء الكائنات التي قتلوا أو حلموا بقتلها، أو شرور ما انطوت عليه أنفسهم، أو ليروا ببساطة خوفهم الذي يدفعهم للهرب من مواجهة عالم يضعهم أمام تحديات يوهمون أنفسهم بعدم قدرتهم على مواجهتها، سواء في التعامل مع مضطهديهم أو مع من أحبوا أو من عشقوا.
لا يفسر هذا الكلام التعميمي بطبيعة الحال إلا جزءاً يسيراً من دوافع تفضيل القارئ لأنواع الشعر حيث تأتي كذلك التربية التي تترسخ في النفس، والعادات التي يصعب الفكاك منها، والتعصب الذي تكرسه التربية والعادات، ليمنعوا تذوق القصيدة الداخلية التي تفتح الدواخل.

الشاعر السوري حسين بن حمزة، أحد مبدعي «قصيدة الداخل»، بميّزة الوضوح المتراكب الذي يولّد الغموض المخيف، ويقرّب في ذات الوقت جمهور القصيدة الخارجية من عيش قصيدته، بالعذوبة التي تميّزها؛ يقدم مجموعته الشعرية الثالثة الجديدة، مع ترجمات إلى الألمانية أنجزها غونتر أورت، تحت عنوان: «أتحدّث عن الزرقة لا البحر»، ليستمر في مشروعه الشعري الاختزالي القائم على غنى تقشّف القصيدة، من «نحيلةٍ ومائلةٍ إلى القصر» تماثلاً مع المعشوقة والرياضيات والموسيقى، حيث لا زيادة ولا نقصان في تجلّي الجوهر المختزل بميزان ذهب، إلى قصيدةٍ أثيرية لا تُرى أكثر مما تشمّ وتضمّ بأجنحة الروح، المحلّقة بدهشتها. وذلك بعرض وجه آخر لهذا المشروع، الذي تعبّر عن جزء منه قصيدته التي يفتتح بها المجموعة تحت عنوان يوحي به، هو «طقس»:
«أحبّ أن أقرأ قصائدي لشخصين أو ثلاثةٍ لا أكثر/ أن يحنوا رؤوسهم قليلاً لكي يتلذذوا بنبرتها المنخفضة/ ويلتقطوا الاستعارات المدفونة فيها/ أن يَبدو المشهدُ وكأننا نتبادل نخب صداقةٍ حميمة/ وأنني بدلاً من قراءة القصائد أقطّر كلماتها في آذانهم/ كأنهم/ يتلقّون مخدراً مضاداً للأرق فينعسون ويميلون أكثر علي/ فأبدو كمن يربّت على أكتافهم/ ويمسّد على رؤوسهم/ وأنني في الحقيقة/ لا أقرأ شعراً/ بل أحرّك شفتيّ فقط/ مردداً تعويذةً صامتة/ تكفي لكي أميل أنا أيضاً إليهم/ وأغرق/ مغمض العينين/ في بحيرة نومهم!».
وربما يضيء هذا التداخل الشفاف الواضح الغامض في قفلة القصيدة للقارئ وجه الحديث «عن الزرقة لا البحر»، الذي سرعان ما يتجلّى أكثر فأكثر مع تدفّق القصائد، لتمرّ «يد المرأة» في قصيدة «مطر» بحديثها عن المطر الذي تسير تحته وهو رذاذ لم يكتمل بعد إلى مطر، وتمرّ المجازات التي تمارس المجاز على بعضها في قصيدة «فمك»، ولتكتمل ولا تكتمل في القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة.
في تحدثه عن «الزرقة لا البحر»، وكعادته في المحوِ والصقل والاختزال إلى حدّ الأثير، يلغي بن حمزة في بنية مجموعته هذه، ما فعله من تقسيم قصائده إلى مجموعات أربع في مجموعته السابقة عليها: «قصائد دون سن الرشد»، لتزول الجدران كذلك بين تصانيف القصائد، التي ينفد منها وإليها القارئُ مع شعورٍ بها، ويعيش تسعاً وخمسين قصيدة قصيرةً لكنها كالعادة كما ناطحة سحابٍ، نحيفة تثير لذة الخوف من تلاعب الهواء بقوامها. ولا يُخطئ القارئ في الحقيقة هذه التصانيف التي يمكنه وضع بعضها، من مثل:
ـــ الحديث عن القصيدة نفسها، كفنّ، متداخلةً بالحياة التي تتحدث عنها، في كونها وأسلوب كتابتها وتطوّرها بين يدي شاعر ممسوس بالأثير، وضياعِها على دروب التهجير والمنافي مِزَقاً، وفي مجاهل البحار غَرَقاً، وفي حبّها وهجرانها وتداخلها بين الحبّ والهجران، وفي علاقتها مع الآخر بالعمق الذي يعكسه العنوان، وبفنّية الاختزال الذي لا يستخدم سوى ما تحتاج القصيدة لتكون ملعب كرة حاشدٍ في مباراةٍ مصيريةٍ:
«أتحدث عن الزرقة لا البحر/ لو كنت شاعراً آخر لاسترسلت وقلت إني ربما لا أقصد زرقة البحر/ بل فستان امرأةٍ كنت أتخيل أن أسماكاً صغيرةً ستعوم يوماً في زرقته/ وربما قلت إن الزرقة هي تلك الكدمات التي تركتُها/ قرب سُرّة صاحبة الفستان وعلى عنقها/ لأني صدّقت أن بَشَرتها الصافية يمكن أن تُرتَشف/ بإمكاني أن أقول إن الزرقة هي البحر (الرمادي وليس الأزرق)/ الذي غرق فيه أهلي في نزوحهم إلى المنفى/ وربما كنت لا أقصد سوى اللون الأزرق العادي/ وأنّ البحر هو مجرد مجازٍ أو ذريعة/ يمكنني أن أكمل أكثر، ولكني كما تعرفون/ شاعر السطرين والصورة الواحدة، والاستطرادُ ليس مهنتي/ لذا سأعود وأقول:/ أتحدث عن الزرقة لا البحر/ ثم أصمت!».
ـــ الحديث عن اللاجئين، بعيانية السوريين في ألمانيا، حيث لجأ الشاعر وأقام قادماً من بيروت عام 2017، وفي هذا الحديث يلمس القارئ ويعيش قصائدَ المجموعة متتاليةً في مرارة اللجوء، وتمزّقِ اللاجئين فيزيائياً على أشواك دروب الهجرة وأمواج الغرق، وروحياً بما حملوا على أكتافهم من ماضيهم ومن عُقد عَقائدهم، ومن ضيق آفاقهم في الآفاق المفتوحة أمامهم، من مثل قصائد: الماضي، ليْتهم لم يفتحوا لنا الحدود، دموع، معاطف، حفلة شواء، نباتات، وقصيدة «لاجئون» التي يقترب بن حمزة في فنيتها من أسلوب إدخال الحكاية في قصيدة النثر، مع الحفاظ على أسلوب اختزاله:
«بسكاكين المطبخ التي حملناها بين أمتعتنا/ قشّرنا حبّات الفاكهة/ التي قدّمها لنا مُضيفونا في المنفى/ وفي الأدراج القديمة للكامبات التي آوتنا/ احتفظنا بها/ مشحوذةً /ولامعة/ كي ننكأ بها ندوبنا القديمة كلما يَبِستْ/ التقطنا صور سيلفي عاجلةً/ بثيابٍ لا تزال مرطّبة بالبحر الذي ابتلع أقرباءَ لنا/ بدأنا نرطنُ بلغاتٍ جديدة/ شيَّرنا على حساباتنا الفيسبوكية صوراً أخّاذة للطبيعة/ متمرّغين على أعشابها كثيرانٍ سعيدة/ ولكننا بالسكاكين ذاتها التي خبأناها/ مشحوذةً/ وناصعة/ في الأدراج/ رُحنا نسدّد الطعنات لبعضنا البعض/ كما كنا نفعل في مسقط الرأس».
ـــ الحديث عن الآخر/ الألماني، الذي يدخل المجموعة نفاداً من اللاجئ، كحاجة الوحيد للوحيد، بتصوير عادات الاثنين، ونظرتهما لبعض، في تتالي قصائد: ضيف ألماني، قصيدة نظيفة، جاري الألماني، عمل، لغة مجروحة، زيارة ذاتية، كلاب، وقصيدة «لغة ريلكه» التي تعكس تفاعل بن حمزة مع الثقافة الألمانية، من الشارع، الذي يعكس أسلوبه في استخدام الحياة اليومية: «بخفة الزائر العابر/ أتسكع في برلين/ لغة ريلكه/ تنساب فجأة على لساني/ كانزلاق عربات المترو/ في جوف المدينة المزدحمة».
ـــ الحديث عن الوحدة التي لا يتخلّى عنها بن حمزة وكانت أحد أعمدة مجموعته السابقة، نفاداً من قصيدة الحديث عن الآخر: «كلاب». وفي هذا الحديث تدخل قصائد: الوحدة تبقى، لطختان في لوحة، وحدة، وقصيدة بطريق؛ حيث يمكن للقارئ أن يعيش لوناً آخر من وحدة الشاعر وينفد إلى وحدته الذاتية في نوع قصيدة الداخل، التي يواجه فيها نفسه بغرفة مراياه التي تريه أقنعة شروره بقدر ما تريه نقاء داخله الإنساني.
ـــ الحديث عن الحب، الذي لا يتخلّى بن حمزة عنه كذلك، ويقترب في شفافية الحديث عنه من لغة وأسلوب أراغون في تتبعه تفاصيل حركة إلزا، وأسلوب جاك بريفير في الإدهاش، وربّما تعبّر قصيدة «مديح» عن أسلوب بن حمزة في ذلك: «بأقلام الرصاص غير المبريّة جيداً/ بأقلام الحبر الجاف الرخيصة/ أو بالأقلام ذات الماركات الثمينة/ الاستعارات والصور ذاتُها/ تتدافع على الورق/ لكي تمتدح حركة يدك/ وأنت تدخّنين أو تشرحين شيئاً!».
وفي الحديث «عن الزرقة لا البحر»، حيث تتداخل العوالم، يقدّم بن حمزة مجموعته بجملةٍ تجسد مشروعه الاختزالي، وفي الباب الذي يعكس إصدار المجموعة بالعربية وبترجمات إلى الألمانية، تعبيراً عن ولعه بوحدة تكوينه التي يريدها كما يبدو أن تعود إلى خليتها الأولى كما الحياة نفسها: «عشت غريباً مثل قصيدة مترجمة».

حسين بن حمزة:
« أتحدث عن الزرقة لا البحر»
منشورات كونفيرسو، باد هارينالب (ألمانيا) 2020
96 صفحة.

*القدس العربي