حوار: محمود أبو حامد
لقد تباينت الآراء حول الترجمة من لغة ثانية إلى ثالثة.. فثمة من يعتبر أن لاريب في ذلك، مستشهداً بترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي من الفرنسية إلى العربية.. وثمة من يفضل الترجمة عن اللغة الأصليّة كأساس، وبعضهم يقبل بذلك مضطراً.. ويرى آخرون أن ذلك يرجع إلى تمكن المترجم من اللغة الأولى وتمكّنه من اللغتين الثانية والثالثة.. بيد أن المترجمة السورية رندة بعث، التي تترجم عن اللغة الفرنسية منذ أكثر من عشرين عاماً، تؤكد أن قواعد الترجمة، حسب ما درستها ودرّستها، هي أن يلتزم المرء بالترجمة عن اللغة الأصلية، إلا عندما يتعذر ذلك تماماً. إذ مهما كان المترجم دقيقاً وحريصاً، لن يستطيع أن يوصل تماماً ما كتبه المؤلف، أقلّه من ناحية الأسلوب، ولن يتمكن من تحييد أسلوبه ونظرته تحييداً مطلقاً، فإذا نُقل الكتاب عن لغة ثالثة، أثّر المترجم إلى تلك اللغة في عمل المترجم عنه، وضاع جزءٌ إضافي مما كتبه المؤلف الأصلي. لكن أحياناً تكون للضرورة أحكام، ويضطر المترجم إلى الترجمة عن لغة وسيطة، وعليه في هذه الحالة أن يحاول الاطلاع على أكثر من ترجمة للكتاب الأصلي ليطلع على كيفية ترجمته، وهنا لا بد له أن يجيد أكثر من لغة أجنبية.
تباين الصعوبات
رندة التي تفضل الترجمة عن اللغة الأم، وترى وجود صعوبة في الترجمة عن لغة ثانية، تؤكد أن هناك تبايناً في صعوبات الترجمة أيضاً، فمنها ما تعود إلى المؤلف وأسلوبه ولغته، ومنها ما تعود إلى اختصاصه، ومنها ما تعود إلى المراجع والقواميس واللغة العربية أيضاً.. وتقول بخصوص الصعوبة التي تتعلق بالمؤلف أساساً، إنه قد يكون ممن يبتكرون المصطلحات التي تستغرق بعض الوقت في دخولها حيز التداول، ووجدت هذه الصعوبة في بداية عملي في الترجمة، عندما كان المتاح على شبكة الإنترنت لا يزال قاصراً في مجال البحث عن مثل هذه المصطلحات، ولم تكن القواميس الورقية كافية في تحديثاتها، كما هي الآن حال القواميس الإلكترونية. وأتذكر أنّ البحث عن مصطلح واحد استغرق مني ثلاثة أيام آنذاك، وهو مصطلح موجود باللغة الفرنسية، فبيير بورديو عالم اجتماع فرنسي، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر.. ابتكر له استخداماً اشتقاقياً لم يستخدمه أحد قبله، وشاع لاحقاً. وفي مثل هذه الحالات، لابد في رأيي، من سؤال أصحاب الاختصاص. وتضيف أن هناك أيضاً فوارق كبيرة بين كاتبٍ وآخر، ولاسيما في مجال العلوم الاجتماعية التي ترجمت كتباً عديدةً في مضمارها. فعلى سبيل المثال، إضافةً إلى بيير بورديو، هنالك جاك لاكان محلل نفسي فرنسي، اشتهر بمساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا، وبالتغيير العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه، فثمة صعوبة في الاختصاص أصلاً، فما بالكم باللغة؟ ومع ذلك ترجمت عدة نصوصٍ له وكان عليّ الالتزام بالمصطلحات العربية المعتمدة في التحليل النفسي العربي، لأنّ استخدام غيرها كان سيجعل النصوص غير قابلة للاستخدام والفهم بين المهتمين بهذا النوع. فلدى المحلل لاكان لغة صعبة حتى على القارئ الفرنسي، وقد أضاف كلمات عديدة لم تكن موجودة في اللغة الفرنسية أصلاً.
وتشير رندة بعث إلى وجود صعوبة أيضاً في ترجمة كتاب يعتمد على مراجع باللغة المستهدفة، فيبحث المترجم عن النص الأصلي ويجد صعوبة في العثور عليه، ولاسيما عندما يكون هذا النص الأصلي غير متاح.
وتقول: في ترجمتي لكتابٍ لأبي عمران الشيخ، بعنوان: «مسألة الحرية في الفكر الإسلامي، الحل المعتزلي» لم يكن وارداً ترجمة النصوص التي أورد هو ترجمتها الفرنسية عن العربية. وبما أنّها نصوص نادرة، فقد أعياني البحث عنها واستغرق عثوري عليها أكثر من الوقت الذي استغرقته ترجمة النص. وكذلك الأمر في الترجمة المشتركة مع رشا الصباغ لكتاب: «مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط « لآلان دوسيلليه» لأنّ المراجع باللغة العربية غير متاحة ولجأنا في العثور عليها إلى رجل دينٍ مسيحي هو، الأب إلياس زحلاوي الذي حاول مساعدتنا إلى درجة أنه اتصل بالمسؤول عن مكتبة كنيسة في الإسكندرية عسى أن يجد فيها ما نبحث عنه.
حرية الاختيار
ما بين المهني والمؤسسي والشخصي، تتراوح نوعية الكتب التي يختارها المترجمون، وحرية هذا الاختيار، فمنهم من يختار ترجمة ما أحب من الكتب، ومنهم من يختار الكتب التي أثّرتْ فيه شخصياً، ومنهم من يختار الكتب التي أقنعه أسلوب مؤلفها وطريقة استخدامه للغة، ومنهم من يهتم بالجديد من الأفكار والتجارب المليئة بالمعرفة، ومنهم من يخضع لاختيار المؤسسة التي يعمل فيها..
رندة بعث تؤكد أنها لا تختار إلا الكتاب الذي ستمثل ترجمته إضافة إلى المكتبة العربية، ولها شخصياً. وإذا لم تكن له مثل هذه القيمة، تعتذر عن ترجمته. وعادةً ما تختار دار نشر كتاباً معيناً وتقترحه عليها، فأما توافق أو لا توافق بموجب المعيار السابق ذكره. وتضيف المترجمة بعث: في بعض الحالات أقوم أنا باختيار الكتاب وأعرضه على دار للنشر، كما حدث بالنسبة إلى كتاب «إسرائيل/ فلسطين: سبل إنهاء حرب 1948» الذي شاركت في ترجمته مع الزميلة رشا الصباغ، وبدأنا نبحث عن ناشر بعد الانتهاء من ترجمته تماماً، وكان من حسن حظنا أن قدّر مدير دار الفكر أهمية الكتاب، ولاسيما لأنّ مؤلفته إسرائيلية وتتحدث من داخل الكيان الصهيوني، فوافق على النشر متجاوزاً لائحة الكتب المنتظرة.
وتقول بعث: من بين الكتب التي اقتنعت بأهميتها، وترجمة كلّ كتابٍ منها أثرتني وأضافت إلى معارفي بالإضافة إلى ما مثّلته من إضافة إلى القارئ العربي، في رأيي طبعاً، كتاب «الأشكال الأولية للحياة الدينية، المنظومة الطوطمية في أستراليا» من تأليف إميل دوركايم، وكتاب «بؤس العالم» لبيير بورديو بالمشاركة مع سلمان حرفوش ومحمد صبح، وكتاب «الباب ـ مقاربة إثنولوجية» لباسكال ديبي، وكتاب «المال ضد الشعوب ـ البورصة أو الحياة» لإيريك توسان بالاشتراك مع عماد شيحة.. ولا أنسى أول كتاب ترجمته ونُشر، وهو رواية « الطربوش» لروبير سوليه، وغيرها من الكتب.
أما بالنسبة إلى الآلية، فأنا أترجم كامل الكتاب دفعة واحدة، لكن المراجعة تكون على مراحل، فأراجع ترجمة كل فصل على حدة بعد انتهائي من ترجمته. ثمّ أجري مراجعة لكامل النص على الأصل، وفي النهاية أقرأ النص الأخير بمعزل عن الأصل للتأكد من سلاسة قراءته بالنسبة إلى القارئ.
*القدس العربي