الفراغ… والكرسي

0

هيثم قطريب، قاص وشاعر ومؤلف موسيقي.

أوراق 19- 20

القصة

دخلت المقهى بنصف قبعة وبكامل رأسي.

ليس هناك إلا الفراغ يملئ المكان، حدقت في كل الزوايا والمساحات المتناثرة هنا وهناك، لم ارَ هيبة رجل مشلوحة على كرسي حين غادر المكان. ولا رائحة العطور النسائية التي تمنح المكان أُنسه فيُستفّذ بخور الذاكرة. 

السيد في هذا المقهى هو الفراغ……. يبسط جلاله.     

بدأتُ الدوران وكأني أبحث عن شيء ما، في مكان أعرف أدق تفاصيله وخباياه، وإذ بكرسي واحد أوحد لم أره من قبل؛ إنه هناك في وسط المقهى؛ يريد أن يقول لي شيئا ما.

تنسمتُ منه عطرا آنس وحدتي وأراح المكان.

عطرٌ! هذا العطر أعرفه، ياه… كم كان يبعث فيَّ إثارة غامضة، كم أعاد لي حريتي المسلوبة من سنين وسنين.

جلتُ في المكان لأرى شيئا له معنى، لم أجد سوى هذا الكرسي. 

تحركت باتجاهه فبادرني بابتسامة، ولّعَتْ صبوتي وأعادتني الى سنين خلت، 

ابتسامة أعرفها لطالما تهت في منعشها.

ابتسامة ترسل خطوط موسيقاها ليمتلئ المكان أمانا، فَهُز كياني المتكلس الغافي منذ أن لُطمت بكف كربلاء ومازال مستمرا على رقابنا، حين فقدنا حنان الأمومة  فتحولنا الى وحوش نَقتُل ونَقتَل بلا رحمة. 

ابتسامة…. كم ازاحت عن قلبي غما عميقا.

دنوت الى عمق المقهى وأنا استكشف عسى أن أجد رجلا أو شبه رجل ليأخذ بيدي إلى حيزٍ ما أكثر أمانا، لكن المسار يتجه فقط إلى هذا الكرسي الواحد الأوحد.

أقتربتُ منه أكثر ثم أكثر… وفجأة أحسست بهمس أسعد خلدي.

همس بدأ يغوص بعيدا في مساماتي، همس لطالما أستفز أعماقي ليزيح عني صوفية المهزومين وصدى جعجعات رواد المقاهي الكسلى بأفكارهم الرخوة وثرثرات النميمة ووهم البناء ونفي الاخر. 

همس أعاد لي حنان الامومة مبعدا عني هذا البريق الذكوري المزيف الذي صَنَّعَنا بلا قلب محب كريم.

همس شالني من حضيض حجب العفة المشوه إلى الهواء الطلق لأتنسم أكسجين الحياة.

همس أنبت لي لسانا جديدا وجوانح أُخرى وقلب قوي عظيم يعرف كيف يصعد ساميا فوق هؤلاء الذين لا يرون إلا حجارة الشارع وصوت عصا راعيهم. 

أسرعت الى هدفي ملتصقا بالكرسي وبكل قوة الحنان غبت في نسيم الشفتين حين سمعت تراتيل صفحات الصحراء البريئة ونقرات الهارب الفرعوني تنزع ما تبقى من غبش علق على شراييني، وداخلني تأوهات كليوبترا بأنفها الملكي وهي تحضن انطونيو لتجعله لين طري المزاج. بعيداً عن صراخ الجنود البُلهاء وقعقعات السيوف ومجد الامم المزيف ليعود انطونيو الانسان، بعدما تحطمت أسطورة مجد الجماجم والهلاك. 

 هنا أتقنتُ الطيران لوحدي، غنى الفرح ورقص المكان.

الآن، الآن فقط أرى ثغر كاسي يرتشف ثغر كاسي فينتفض قلبي العفوي تائها يعرف الطريق في قلب هذا الكرسي الوحيد.

فصرت كأعمدة قرطبة وهي تغازل فجرها كل يوم، وتمنح دفئها قباب أوربا الساكنة.

دارت الكؤوس وضجيج الشارع يوزع ملحه على المارة، وبقيتُ وحدي حتى طار قلبي محلقا فسموت معه، وبقي المكان في وحدته يُلمّلم ما تبقى من أشياء.