سلام محمد
كاتبة وسينارست سورية
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق القصة
أنا من نسل نسوة متشحات بالسواد والصبر، مترعات بالحزن الشفيف والكبرياء. جدّات يروينَ حكايات مبهرة عن الغيلان والفرسان، وقصص الحب اليتيمة.
“حبابتي”/ جدتي (ترفة) توقفت ذاكرتها بعد 1967، إثر صدمة النزوح، وأسر الصهاينة لولديها. تناديني كلما رأتني باسم مريم. كلما زرتها كانت ترنو إلي بعينين مخضبتين بالكحل والخذلان، تهذي بأسماء نساء ورجال عاشوا في أزمنة بعيدة في الجولان. كانت تلتهم أذني بصوتها العميق الآتي من كتاب مهترئ. تروي لي قصصاً حزينة وغريبة عن مريم الجميلة، التي تزوجت من فارس مغوار اسمه عبدالله. ماتت مريم وهي تنجب ابنتها الأولى، التي أطلق عليها زوجها اسم مريم، أيضاً. أخبرتني ترفة عن أسطورة قديمة تقول إن الفاتنات حين يمتن تسكن وجوههن الغمام. لذلك ظل عبدالله لسنوات طويلة يلهث خلف الغيم كي يقبض على وجه زوجته مريم، إلى أن وافته المنية بعد أن رماه حصانه فوق أعلى تلة في الجولان، تحت الغيم مباشرة، كان اسم تلك التلة “تلة ابو الندى”.
بقي عبدالله ممدداً تحت الغيم ليومين، مخضباً بالندى ومبتسماً، إلى أن وجد جثته راع شاب، فحملها إلى أهله، وتم دفنه قرب مريم، التي ما عشق سواها، ولا استطاع يوماً أن يتحرر من سطوة هذا العشق المدمّر الذي جعل منه حكاية تتناقلها الجدات في ليالي كانون الباردة.
حكاية مريم وعبدالله ليست الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة التي تحتفي بها ذاكرة ترفة، التي لا تعرف سوى وجوه نساء ورجال عاصرتهم قبل النكسة، وراحت بعدها في دمشق تسقط وجوههم على كل من حولها من أبناء وأحفاد وجيران.
بعد تحرر ولديها من الأسر، لم تستعد ترفة ذاكرتها، فتغريبتها المرة جعلتها تغرق أكثر في هلوسات عن البلاد البعيدة، وكل من أحبته وعرفته هناك. كانت لا تقوى على الخروج من بيتها في دمشق، ولا تعرف اتجاهات الشوارع وأرقام البيوت، حتى وجوه الناس بدت لها محايدة وصلفة. ظلت لسنوات طويلة حبيسة دارها، ترحب بالزوار، وتناديهم بأسماء من عرفت في الجولان، وتخبرهم عن قصصهم وحكاياتهم إلى أن ماتت.
كنتُ في السابعة عشرة من عمري حين قالوا إن ترفة، زوجة الشيخ موسى، قد تاهت. خرجت من بيتها صباحاً لأن صديقتها نزهة كانت تناديها للخروج معاً إلى عين الماء، تاهت جدتي ترفة، ولم تعرف طريق العودة أبداً. كانت تسير في حارات غريبة، وترنو بعينيها إلى طرقات لم تألفها يوماً، سيارات وإشارات مرور، ونسوة يتمتمن بأدعية كلما رأينها، ورجال يسألونها “وين بيتك يا حجة؟ وين ساكنة؟ من وين إنتي يا حجة؟”. كانت كلها اسئلة مريبة وصعبة جداً على عجوز تجري وراء الغيم، تحاول الوصول إلى عين ميمون لتلتقي بنزهة “يا ولدي عين ميمون من هين؟ ما شفتم بيت نزهة؟”.
لم يفهم الدمشقيون من أسئلة ترفة سوى أنها عجوز خرفة، أو مجنونة تائهة، المسكينة أمضت ساعات طويلة تحارب بكل قوتها هذا الفضاء الغريب حولها قبل أن يجدها شاب من الذين تطوعوا للبحث عنها ويعيدها إلى البيت.
عادت جدتي ترفة بثقب في القلب، حزينة مهزومة، ربما أدركت للمرة الأولى بعد 35 عاماً من النزوح أنها فقدت بيتها وموطنها الأصلي، وأنها باتت تعيش في مكان مخيف وغريب وشامت. بعدها بأشهر قليلة، دب المرض في أوصالها، وتوفيت وهي كسيرة الروح والقلب.
عندما زرتها قبل وفاتها كانت تجلس في الحوش، تجدل ضفائرها الطويلة وتغني بصوت ساحر “يا محمد خذيت قليبي والأسود غزاه الشيب.. لا تروح وخلك قريب برد القلوب اتدفيها”.
جلست أستمع إليها وأنا مشدوهة بجمال الخزامة الفضية المتدلية من أنف شامخ كالسيف، خلاخيل القدمين والخواتم الكثيرة في أصابع يديها، مفتاح صندوق الزفاف الذي شبكته بين ضفائرها تحت عصابة مذهبة.. صمتت لبرهة ونظرت إلي بعينين فيهما حزن سحيق، ثم مدت يداً مخضبة بالحناء ولمست وجنتي وهمست “إن أحببت شاعراً تزوجيه، لكن لا تقرئي قصائده لامرأة، بل أغلقي عليها في صندوق عرسك وأخفي المفتاح هنا مثلي، بين ضفائرك. وبعد أن تنجبي طفلتك الأولى ترفة، أطلقي القصائد للريح”.
كانت هذه آخر مرة أرى فيها ترفة. حزنت كثيراً على رحيلها، وواستني حبابتي يمنى بأنها ارتاحت، فلقد أكلت قلبها النيران لسنوات طويلة.
يمنى التي تزوجت من رجل من خارج قريتها “راوية” لم تكن على أية حال قادرة على أن تحب هذا الغريب الذي نقلها إلى القنيطرة المدينة في الستينيات بحكم عمله هناك. كان يخرج في الصباح الباكر تاركاً إياها وحيدة بين أربعة جدران، إلى أن أنجبت ولدها هجرس، وقررت العودة به إلى راوية، قريتنا، بعد أن داهمها نفور عظيم من ذلك الزوج الذي لم يفهم يوماً حاجتها إلى الأهل والهضاب والبراري. تطلقت يمنى. وبعد النزوح بقليل، تزوجت من رجل قريب لها، وسكنت قرب بيت جدي في إحدى عشوائيات دمشق، تصنع القهوة المرة، والزلابية، وتربي كثيراً من الأحفاد، وتزرع فوق سطح بيتها النعناع، والريحان.
أخبرتني يمنى عن حكاية غريبة لرجل يدعى شامان، كان تتوسط جبينه شامة سوداء كبيرة تلمع في الظلام. كان من نسل رجل ذي كرامات متعددة، لكنه كان آخر ايامه زاهداً وحبيس بيته الحجري الأسود، يقرأ القرآن، وينقل ما تعلمه من أسرار لحفيده اليتيم. بعد وفاة جده، ترك شامان البيت الحجري، وهام على وجهه في رحلة طويلة، كان ينام في الغابات وبين الأحراش، وعند الشلالات وينابيع الماء في الجولان. التقى بكثير من الرعيان والفلاحين الذين كانوا يرأفون بحاله، ويقدمون له الطعام. كان صامتاً وحزيناً كبئر عميقة، لم يقل اسمه لأحد، ولم يتعرف عليه أحد. أقاربه في راوية أيضاً لم يعرفوا عنه شيئاً بعد اختفائه، أحدهم قال إن ضبعاً افترسه، وقال آخر إن ثمة دورية شاهدته فأودعته مشفى المجانين في دمشق. لكن يمنى كانت حينها متأكدة أن شامان بخير، وأنه كان يبحث عن أجوبة لأسئلته الكثيرة التي لم يتسنَّ لجده الإجابة عليها. مرت شهور طويلة قبل أن يعود شامان إلى القرية. كان مختلفاً، حليق الذقن والشعر، ويرتدي بنطالاً أنيقاً وقميصاً، وبرفقته زوجته الجميلة ثريا التي تزوجها في قرية تسمى سكيك. ثريا التي آمنت بشامان ونبوءاته راحت تخبر النسوة أن زوجها كان يصحو على كوابيس مرعبة عن جراد مخيف سيغزو البلاد مُحيلاً كل شيء إلى خراب وعدم. لم يصدقها أحد، فلم تعد تتكلم عن كوابيس زوجها بعد أن نالتها سخرية النساء. اعتكف شامان في بيت جده القديم، وكان يهيم صباحاً في البراري، يكلم الأشجار والأنهار، ويقطف الخبيز والهندباء، ثم يعود إلى ثريا التي كانت تهتم به كطفل صغير، تستمع إلى هلوساته عن الجراد والدماء، تطعمه بيديها، ثم تغني له إلى أن ينام.
استيقظ شامان صبيحة أحد أيام حزيران 1967، وراح يدق أبواب بيوت راوية داعياً الناس إلى الهرب من الدماء والجراد. لم يصدقه أحد، سخر منه كثيرون، شتمه بعضهم، ورثى آخرون لحاله، لكن يمنى صدقته، وحاولت أن تغادر معه قبل أن يمنعها والدها ناعتاً إياه بالمهبول. لملم شامان أشياءه القليلة، وغادر مع ثريا بعيداً قبل أيام من النكسة، حيث داهم الصهاينة راوية، وهجروا سكانها في 17 من حزيران 1967. أخبرتني يمنى بعدها أنها شاهدت ثريا صدفة في الشام. وعندما سألتها عن شامان، قالت إنه قد توفي بعد سقوط راوية بفترة وجيزة، وأنها تعيش مع ولديها في الحجر الأسود في دمشق.
كانت هذه الحكايات تلهب مخيلتي وأنا طفلة تعيش بين جدات كثيرات، وارفات، بديعات، وسمراوات، بوشوم خضراء تتمدد كبراري الجولان في وجوههن الغضة. كنت أعرف أنّ بعضها حقيقي، وبعضها الآخر من مخيلة عذبة تتدفق مع كل فنجان قهوة مرة وسيجارة تتن تتلذذ بها جداتي البهيات وهنّ يَنفثن مع الدخان حزنهنَ العجائبي على بلاد جميلة، بلاد كالحكايات، متخيلة وشهية، بعيدة وعصية، عذبة وصادمة، ولفرط جمالها، لا يمكن أن تكون بعد فقدانها متوازناً أبداً، بل يداهمك في كل لحظة نزوح واغتراب ألم دفين ينغرس عميقاً كسكين في الخاصرة والذاكرة معاً، تاركاً إياك في مواجهة فظة مع حقيقة صادمة مفادها أنك غريب، لا تملك سوى بطاقة تموين ولقب نازح أصبح ملتصقاً بك إلى الأبد.