الغروب الأخير

0

مضر عدس،

كاتب سوري، صدر له روايتان: رحلة إلى إسطنبول. ساعة واحدة في ضوء النهار.

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق الملف

الصعلوك

(رامي قهوجي)

كنت أسير في ظلّ الأشجار، وإن انقطعت أقفز محاولاً الهرب من أشعة الشمس، فقد غدوت طريدها بعد يوم النحس ذاك، وبعد عشرين يوماً من الاختباء والتخفي والمطاردات أقنعت نفسي ألّا أغادر غرفتي القابعة في القبو حتى تغيب عيون الشمس الكثيرة ويسيطر الظلام على الأحياء وتظهر روائح البول بقوة في الأزقة المعتمة المخيفة المحيطة بدمشق.

خرجت في أول ليلة، أي اليوم الحادي والعشرون، أبحث عن مصدر جيد للطعام، مصدر يقبل بأخذ النقود الورقية، فكما تعلمون بأن النظام المالي مراقب في الشراء والبيع، وإذا اشتريت قطعة خبز صغيرة سيسجل اسمي على الفور، والملعونة لديها علاقات أكثر من السيد الرئيس، وأنا ومنذ ثلاثة أشهر تقريباً تحولت إلى صعلوك وضيع، والمصيبة أنني من استحدث هذا النظام المعيشي، فالصعلكة وجدت لتعيد الكرامة لنا، لكن أن يملأها أحدنا بالدناءة، فهذا ما أجبرتني الأيام عليه، هذه هي حقيقتي.

منذ ثلاثة أيام أو أربعة وبعد منتصف الليل، لا أذكر، جلست مع بائع خضار، رفعت يدي مرحباً، أشار هو الآخر سعيداً وكأنه رأى والده خرج من قبره، ثم قلت له بصوت رقيق هادئ:

– أنا صعلوك .. ولن أدفع لك إلّا

نظر إليّ بنظرة استغراب ثم استكشاف، اقترب دون أن يلفظ حرفاً واحداً ثم انفجرت أساريره بضحكة لم أرَ مثيلاً لها، ثم قال بعد أن تمالك نفسه:

– رامي قهوجي عندي في الدكان!.. أهلاً وسهلاً بك.. كيف استطعت أن تخفي وجهك عن الكاميرات حتى تصل إلي؟!.. ولك يا هلا.. اعذرني فأنا كثير الكلام عندما أقابل أحداً

وتكلم لخمس دقائق دون توقف، كالمجانين، وأنا لم أوقفه تركته يكمل حديثه وأنا أحاول أن أتذكر، أين قابلت هذا الرجل سابقاً! لكنه أسعفني قبل أن أتذكر:

– ما بك يا رجل.. ألم تذكرني

– بالطبع ولووو.. ولكن كيف لك أن تعلم بأنني مطارد؟!

– له يا رجل.. نحن الجيل السادس

– أهلاً بالعم رأفت ذكريا

– يا أزعر.. لم تستطيع أن تتذكرني في البداية.. هاااا

– بلا.. تذكرتك ولكن.. أنت تعلم.. كيف.. يعني

– المهم.. خذ ما شئت الآن وعد متى ما أردت.. المحل محلك

– طبعاً محلي

ثم انفجر ضاحكاً، وأمال يديه ووضعهما على كتفي وقال:

– يااااااه.. كنا ننتظر هذه المعركة منذ زمن طويل.. للأسف أصبح عمري أكثر من سبعين عاماً.. وكما تعلم القانون.. اجتماعات ومشاورات فقط.. هذه مهمتي

– بالتأكيد

يا إلهي كيف نسيت وجهه نهائياً، لي ذاكرة قوية لكنها مشوشة للغاية في هذه الأوقات السعيدة من حياتي، أبو فؤاد، يا إلهي، من الجيد أن الاجتماعات العامة تبقى خياراً وإلّا لكنت تلقيت توبيخاً شديداً من قيس.

المهم، أخذت ما اشتهيت لحظتها دون خجل، فالدكان لي حرفياً كما قال، وبعد أن ملأت أكياساً من الطعام والشراب والفاكهة ودعته على أمل نصر قريب يعيدني إلى حياتي السابقة، القليل من الإثارة والكثير الكثير من الاسترخاء، والعمل الممتع الحر.

في طريقي إلى القبو تذكرت قول الشاعر “إن هذي العاهرة.. حببتني بالغريق والحريق.. والمجانين”، والمجانين، كم أحب أن أبدو أحد المجانين أمام الغرباء، أو لأقل لأبدو واضحاً، صريحاً، البشر يكرهون الصراحة، ولماذا لا أعلم.

كنت أعمل حلّاقاً في صالون لا بأس به، جيد، وفي إحدى الأمسيات وبينما كنت أستعد لأحلق لحية أحد الشباب، قلت له:

– أتدري ما أكثر المهن احتراماً عندي؟!

– لا.. (سألني من دون حتى أن يفكر)

– بائعة الهوى؟!

قلتها له بيع الهوى بالفصحى، رغم أني بالطبع لست من الصعالكة السخفاء الذين اقتنعوا بكلام طارق رعد بعد أن أدرج فكرة الحديث بالفصحى، لا لا، أنا أتكلم اللهجة العامية، عندما قلت له “بائعة الهوى”، هزّ رأسه مستغرباً من هذه المهنة، يبدو أنه قليل القراءة والاطلاع، وقال لي بكل برودة:

– ماذا تعني.. هذه.. بائعة الهوى؟!

ثم هرب كالمجنون خائفاً من معرفتي بأن أخته تعمل في بيت دعارة محترم، الحيوان يدع أخته تعمل عاهرة، ثم يخرج سعيداً ليحلق في محل محترم، ويريد أن أسايره لأنه يملك المال.

بالمناسبة إني أرفض أن تُنشر شهادتي دون هذا المقطع، حتى ولو كنت حينها عظاماً، فأنا أصرّ، المهم بعد هذا الحوار اللطيف السريع طردني صاحب الصالون لوقاحتي مع الزبائن، فصراحتي لا تطاق، كما وصفني وهو يلقي المال المتبقي لي في ذمته.

في الحقيقة وإكمالاً للموضوع الذي دار في خلدي وأنا أسير من دكان رأفت زكريا إلى منزلي الحقير فإن أكثر ما يثير دهشتي بأن الصراحة تعد مؤلمة دائماً، أنت تعرف الحقيقة فلِمَ الخجل، أو الانزعاج، الخجل منطقي نعم منطقي، فأنا إن كنت بخيلاً بالتأكيد سأخجل أن يذكر هذا الشيء أمام الفتاة التي أواعدها، ولكن لن أشعر بالانزعاج، ألست سعيداً بأن مالي لم ينقص إلّا ما ندر في آخر النهار، بل نعم أنا أرقص إن دخلت منزلي ونقودي ما زالت صامدة في جبهتها، بالمناسبة البخل كان مضرب المثل ولا أقصد نفسي وأنا هنا لا أشعر لا بالإحراج ولا بالانزعاج، ولكن لو شئت وصف الحقيقة وتشبيهها بشيء فبالتأكيد أول ما يخطر على بالي السكين، التي يقال عنها بصوت مرتجف “يا إلهي لقد جاءت من العدم”، وكأن الإنسان عندما يقول هذه الجملة فإنه يثبت لنفسه وللآخرين بأنه لا يعلم الحقيقة.

عودة للموضوع الأساسي الذي يجب أن لا أشتت سعادة القارئ العزيز وأنا أقصّه عليه، الموضوع الذي طُلب منّا كتابته في أرشيف سيوضع في صندوق ولن ينشر إلّا بعد سنوات طويلة ليظهر للعلن كشهادة أو كتاب وثائقي، وبالطبع فقد اختار قيس أن يكتب رواية سخيفة، المهم عودة للموضوع أنا الآن أهرب من الشمس، اللعنة التي ستحرقني أو أحرقها، ولهذا السبب العظيم أنا لا أخرج إلّا ليلاً حتى أستطيع إخفاء وجهي بسهولة في وجه الكاميرات اللعينة، في إحدى الليالي التي كانت بعد ثلاث ليالي من لقائي برأفت، قابلت رجلاً سكيراً يدعى عكرمة الصموأل، قيل بأنه يحب الشعر ولا يلقيه إلّا وهو في قمة سكره، فسماه أحدهم الصموأل لاعتقاده بأنه اسم أحد أهم شعراء العرب الجاهليين، هذا الرجل السكير يعرف والدي ويعرفني جيداً، وهو مسؤول عن البحث عن أحدنا، ويبدو أنه مسؤول عني أنا شخصياً، وقد علمت لاحقاً بأني دون قصد أعدت شاربي الزائف إلى موضعه أمام إشارة للمرور فاستطاع أحد المراقبين أن يرسل إلى الصموأل الذي بدوره تكفل بمطاردتي، المراقب عن طريق كاميرات الشارع الذي كنت فيه والصموأل يجري خلفي ويتلقى تعليمات عبر هاتفه النقال.

عكرمة هذا يعمل لدى الشمس، أو لأكون أكثر دقة لأنها لن تكون امرأة مشهورة في يومكم القادم، كما هي الآن، فالشمس هو لقب امرأة ذات سلطة كبيرة، وفي الحقيقة نعم لقبها مع أل التعريف، الشمس، الشمس الشموسة هي سيدة كبيرة في السن لكنها تبدو في الثلاثين من عمرها الذي لا ينقضي بسهولة أعماركم، يقال بأنها من نسل ضابط روسي قاتل في سوريا وقُتل عام 2016 وبالطبع لم يُعترف بها إلّا سورية، فهي ابنة إحدى المحظيات، والمحظية هذه وكما يقال، لكي تدافع عن شرفها قالت بأن ابنتها هي من نسل ذاك الضابط المغوار الذي حرر البلاد والعباد، كما صرعوا رؤوسنا في زمنهم، من الإرهاب والتشظي والزوال، ويقال في رواية أخرى بأنها حفيدة أبو جعفر، أبو جعفر هذه سيدة أيضاً يقال إنها عملت تاجرة سلاح مع فصائل ثورية كانت تقاتل قوات النظام زمن الثورة السورية، وأؤكد لكم أنها -ومن أيّ المصادر الجينية جاءت- آخر ما تبقى من الاحتلال الروسي، كما أسميناه لاحقاً في البرلمان السوري بكل رحابة صدر.

أنا -كما قلت لكم- كنت مطارداً منها، لمَ؟ وكيف؟ ومن هي؟ هذا ما ستعرفونه في بقية الشهادة، ولأنها خطيرة وصاحبة نفوذ وسلطة وقدرة في البلد اللطيف سوريا فأن تكون واقفاً في وجهها فهذا شيء لا يحمد عقباه.

ولأني وعدت قيس أن أكون كثير الدقة قليل السرد، ولأني أنا الهيكل الأساسي في الحرب التي نشأت بيننا وبين الشمس وحاشيتها، فمن المهم أن تكون شهادتي متناسقة ومتسلسلة، لذلك سأدع الكلام الذي لا فائدة منه وأكمل قصتي مع الصموأل.

مساء ذلك اليوم شاهدته قادماً من بعيد، وقفت أفكر، هل رآني؟! أم هي صدفة لا أكثر؟ أو أنه يعلم أين أنا، ثم أمسكت الشارب المزيف وخلعته من مكانه وبصقت عليه وحاولت الفرار، لكنه وكما كنت أسمع بلحظة واحدة هرب من السكر فغدا أكثر صحوة مني، ورشاقة وهمّة ودقة، ركضت فركض خلفي ولحق بي حتى حاصرني في حيّ لا مخرج من طرفه الآخر. وفي لحظة المواجهة وكان لا مفر لي إلّا بمواجهته، عاد فجأة إلى سكره، وصاح قائلاً:

– ألستَ ابن العقربة.. صاحب العلم والمعرفة.. أم الصعلوك سارق الأرغفة؟!.. قل يا ابن الحيوان الذي أعلن الحرب ضد السيدة.. شمس الشموس وربة الأرباب.. أيهما أنت؟!

– أتسرق الشعر يا صموأل؟!

– لا هذه لحبيبك.. أتعتقد بأننا لا نعرف عنك كل شيء؟!.. كلّ شيء

– بالطبع تعلمون يا أبناء الصرامي

***

المؤرخ

(حازم قهوجي)

يوم سمعت الخبر كنت قد بدأت بكتابة مشروع تأريخ جديد، بقيت أياماً بلياليها بعد الواقعة العجيبة وأنا أحاول استجماع قواي منتظراً أن يأتي دوري، مهمة ما توكل لي أو عالأقل أن تصلني الأخبار بوضوح، في اليوم الأول كنت مذهولاً لا أجيب، في اليوم الثاني نصحني الجميع أن أغادر شقتي إلى مكان لا يعلمه إلّا الله، وهم أكّدوا لي ما أعلمه بالطبع بأن الشمس ورجالها لن يستطيعوا أذيتي فهم يقفون وقفة رجل واحد.

– ولكن قد تتسع دائرة الصراع وعليك أن تكون مستعداً

كما أشار لي حسام الدين علي قبل أن يقبلني على خدي الأيمن ثم يغادر.

في ذلك اليوم استقبلت وودّعت كثيرين، أصدقاء وأقارب، مقربون وغرباء، لا رابط جمعني بهم جميعاً إلّا وجودنا في جبهة واحدة نقاتل منذ سنوات طوال.

توالت الأيام وزادت مخاوفي كثيراً، فلا أخبار جديدة عن قيس وأخي، ورغم أني في بلد تحكمه القوانين، لا تزال السيدة المجنونة ذات صلاحيات جيدة رغم ما حققناه خلال السنوات السابقة، لذلك كان من الجيد أن أختفي حتى تنقشع الغمامة، فالقصة هذه المرة لا نجاة منها، فإمّا أن ننتصر فتكون حربنا هذه هي الضربة القاضية وتأذن الدولة للشمس أن تغيب أخيراً أو أننا سنعلق في دوامة لا ندري متى نهايتها.

بعد أسبوع انتقلت إلى منزل زوجتي السابقة، فالعلاقة لا تزال جيدة بيننا، بل كنت أعدّ العدّة لأغزو قلبها من جديد، قصدت مأوى الحبيبة فلبتني، وبعد استقرار أموري في ركنها الذي انتزعته مني في المحاكم الطويلة -لن يكون منطقياً أن يقرأ أحدكم بأنني دخلت دوامة محاكم، دوامة لئيمة، إن كنت أكثر صراحة- عادت علاقتي بها شبه طبيعية ثم طبيعية ثم أنتم تعلمون ما الذي يأتي بعدها.

المهم بعد استقرار أموري تأكدت بأنني لست هدفاً لرجال الشمس كما ذكر في التقارير التي تواردت لي يومياً، فعدت إلى العمل على المشروع الجديد، مع متابعة أخبار قيس الذي لم يعلم وقتها أحد منّا مكانه، إلّا الصديق الأول لوالدي فراس الفرّان وهذا ما اكتشفته لاحقاً، وفي تلك الأثناء تواصلت مع أخي رامي مرة واحدة حيث أخبرني بأنه يستطيع أن يتدبر أمره جيداً، وهكذا وبكل بساطة كما كتب بخطه الرديء عليّ ألّا أقلق أبداً، وبالمناسبة كان التواصل من طريق رسالة ورقية جاءتني بها امرأة أربعينية العمر، قرعت الباب أعطتني الرسالة ثم غادرت دون أن تلقي السلام، لكني لا أزال أذكر رائحة العرق القوية التي لاحت منها بقوة ثور لا يخشى اللون الأحمر.

شهر كامل مضى، ثلاثون يوماً، أصبحت الأخبار روتينية، قيس لم يظهر بعد، أخي مطارد بقوة والشباب على استعداد كامل لتقديم الأوراق والأدلة كلها وكشف المستور في اللحظة المناسبة، ولكن الاستعدادات والخوف المرافق والصفقات والقلق مما فعله أخي البارحة زاد الطينة بلّة، وفوق كل ما جرى ويجري خلال المحنة السعيدة وللآن أنا خارج كلّ شي وقد زادت معاناتي بإخفاء الانزعاج الذي بدأ يلوح في وجهي كلّما قابلت أحد الأصدقاء، ولا أدري ما قصتهم وكأني من الجيل الأول، أو كأني معاقب وممنوع من العمل، وفعلاً أنا ممنون للقواعد العظيمة فالطرد ممنوع وإلّا لعشت في خوف دائم من أن أكون في موقف مشابه ولم يصلني الخبر بعد.

في كل صباح أستيقظ على صوت جرس المنزل، أقبّل طليقتي النائمة قربي، أرتدي شيئاً مناسباً فأنا أحب النوم كما خُلقت، أحياناً ألبس بيجاما بسرعة كي أجيب وأحيانا أتثاقل لأرتدي ملابس رسمية، فكما تعلمون طريقة رنّ الجرس تظهر أهمية الزائر، أستقبل الزوار تباعاً، نتفاوض ونتناقش ثم أودعهم عند الظهيرة، أتناول وجبة إفطار خفيفة بعد أن أقضي على علبة سجائر كاملة خلال الساعات الأولى للنهار، ثم أجلس خلف مكتبي أو مكتبها أو مكتبي الذي أخذَتْه مني، ثم أبدأ الكتابة، منذ عشرين يوماً عندما بدأت الكتابة وأنا أبحث عن مصدر موثق لما جرى في دمشق صيف 2012، كل الأخبار مبالغ فيها، كم عدد الذين حاولوا اقتحام العاصمة لا أدري، ومن يدري، لا أحد، الكثير يقول لي وما أهمية ذلك الحدث، لكني أرى لكل حدث ضرورة ومكانة، وأنا قررت أن أكتب عن أول ساعات الحصار الاقتصادي التي واجهها الدمشقيون إبان الثورة، ثم سأكمل وأوثق الحصار السوري الكبير حيثما جرى خلال السنوات التي عبرت بالبلاد من ضفة إلى أخرى.

شقة طليقتي تقع في جوبر، في البرج التاسع، أنا الذي أحاول أن أوثق أحداثًا جرت منذ أكثر من سبعين عاماً، لا أدري إن كانت للذكرى أهمية، ولكن للآن الألمان يذكرون الحربين العالميتين، ثم يبتسمون بمرارة وكأنهم هم من قرر ما جرى، لكن عبء التاريخ يحمله الأحفاد، ويبقى لأهل العصر ذاك الخوف والتشرد والموت، منذ سبعين عاماً في هذا الموقع بالذات كانت القذائف تتطاير في الفظاء الذي تغطيه غرفتي الآن، منذ سبعين عاماً، رقم مهول.

المنظر الذي أتخيله كل مرة حين أقف أمام النافذة وأنا أدخن، محاولاً سماع أصوات المقاتلين، رجل يرتمي خلف حائط نصف مهدوم، يصيح برفاقه، أنقذوني (وأنا كما تعلمون أكتب الوثائقي أو الوثائقي الروائي)، يصيح بصوته القلق المرتجف أنقذوني أنا مصاب، نسي أنه لا يأبه للموت؛ فما المشكلة إن تعرض للإصابة، لا يدري قبل أن يصاب بأنه سيغدو هكذا، يتحول من آلة للقتل إلى إنسان في غضون ثوانٍ تفصل بين الرصاصة المتطايرة في الهواء ولحمه الذي تستقر الرصاصة داخله، وهو وقبل أن يصاب ومنذ ساعات قلائل تشاجر مع والده الأعمى.

– لا تذهب يا ولدي.. فالموت أخذ مني أربعة من إخوتك.. ولم تبقِ لي الحياة سواك.

غادر وهو يصيح في وجه أبيه:

– أنا لا أخشى الموت.. سأنتقم لإخوتي من الأوغاد.

كم أشعر بالسذاجة عندما أتخيل مشهداً عاطفياً مباشراً، أبتسم محاولاً أن أتظاهر أني لم أبكِ، وفي الحقيقة أحاول فعلاً تخيل مشاهد ولو كانت سخيفة، مشهد إنساني ما، قد يكون وداع أب لابنه المقاتل، أو حرقة أم على ابنها المسجى أمامها غريقاً بدمائه، وقد أتخيل قصيدة عشق بلهاء كتبها شاعر سوري، ساذج أكثر مني، يعيش في ألمانيا، لحبيبته في دمشق، أتخيل أي مشهد محاولاً أن أدخل في صلب الحياة التي عاشوها علّني أقاوم رغبتي في رمي الكتاب ثم الارتماء إلى سرير ممزقاً ثياب الحبيبة وهي تقاوم مبعدةً الكاتب نصف السكران.

والآن وهو يجلس خلف الحائط، وبعد أن تلقى بجبن رصاصة في صدره، يصيح بصوت يثقب أذني، يصيح بقوة ثلاثين رجلاً:

– مشان الله إسعاف

ويهمس إخوته الأربعة في أذنيه بسخرية القدر الذي أخذهم في تلك الحرب القذرة:

– نحن بانتظارك يا عرصا

فيرد والدمع يأكل وجهه:

– لا أريد الموت

أتخيل المشهد كاملاً، هذه هي القذيفة، صوت صفيرها قوي يخدش صفاء الشقة، سقطت بالقرب منه فأردته قتيلاً، بالمناسبة أنا أتخيل بعض المشاهد وبعضها أحاول إعادة تشكيلها في مخيلتي بعد أن أقرأ عنها أو أن أسمع عنها من لسان أحد ما، فالمشهد السابق لم يكن محض خيال، لا أبداً، فقد سجل شهادة موته أحد المقاتلين في فيلم وثائقي صوِّر بعد الحرب بسنوات، ذكر المقاتل قصة صديقه، جلس أمام الكاميرة محاولاً منع ظهور انحناء ظهره، عجوز يكاد لا يستطيع تذكر أي شيّ، لكنه وما إن بدأ يقصّ بعض الأحداث التي لا تزال تلطخ رأسه بدماء لا يدري لمن تعود حتى اغرورقت عيناه عندما ذكر أن صاحباً له كان الشهيد الخامس في العائلة، ثم ذكر بعض التفاصيل التي جرت عندما سقط صريعاً.

ابتعدت عن النافذة في اليوم الذي انتظرت أخي فيه، ابتعدت بعد أن امتلأت كرَّاستي بالأفكار، وبعد أن دوَّنت الكثير من المشاهد في رأسي، كتبت وتخيَّلت ثم ابتعدت وأنا أتذكر نصوصًا كثيرة لكتّاب معاصرين للثورة وهم يقولون بأننا نحن، أي من سنأتي بعدهم بسنوات، لن نتذكر معاناتهم إلّا بالأرقام، لن نذكر الألم الذي عانوه، الأصوات التي أرهقت نومهم والجوع الذي نهش أجسادهم، ولهذا السبب أنا أبحر في شهادتي هنا، كي أنقل صورة لمحبي قراءة القضايا، أو للعرصات الذين ظنوا بأن الألم لا ينتقل عبر السنين أو الأسطر أو الأغاني.

أعددت القهوة التركية، أشعلت لفافة بانتظار مجيء رامي ثم جلست على أريكة في منتصف الصالة، أملت رأسي وعدت لأفكاري، في المنطقة المقابلة للحائط دبابة كبيرة الحجم، تي 72، تحاول التقدم، خلفها مباشرة يجلس أربعة شباب، بالمناسبة هذا المشهد من مخيلتي، أحاول أن أتخيل منذ أيام كيف كان المقاتلون يتصرفون عند رؤيتهم دبابة عملاقة تنفجر في وجوههم، ولم أعثر للآن على أي شهادة مصورة أو مكتوبة عن هذا الموضوع.

أذكر أني قرأت منذ أيام رواية تسمى “ذكريات مقاتل” لروائي سوري عاش الحرب والحصار، ولكني وللحقيقة التاريخية لم أستطع إكمالها لسذاجة الحبكة، صديقان من داريا كبُرا سوية، ثم، وفي أثناء الحرب الأهلية يقاتل أحدهما مع الثورة والآخر مع النظام، وقد استشرت صديقاً ناقداً بعد أن ألقيتها أرضاً فأخبرني بأني لن أجد ضالتي فيها.

أنهيت فنجان القهوة ثم اتجهت إلى المطبخ لآكل ولو لقيمات، أخرجت من البراد صحن شنكليش حمصي، وأخرجت علبة لبنة، ثم جلست على المنضدة، وبدأت بالأكل، ورحت أفكر بجمل أصوغها، فأنا أحاول منذ أيام كتابة مئتَي كلمة عن معركة جوبر الأخيرة، قبل أن يضع المقاتلون السلاح، مئتي كلمة فقط، أصف المشهد بشكل أدبي محترف، ولكن لا أستطيع.

– استسلم.. ونعدك بعرضنا وبديننا بأنك لن تمسّ

أأبدأ بهذه الجملة؟!

قيل بأن مجموعة من الفرقة الرابعة حوصِرت، عشر مقاتلين، وقد استسلمت بعد دفاع دام ثلاثة أيام بلياليها، قتل من العشر أربعة رجال، وبعد أن استسلم الباقي قبيل انتهاء ذخيرتهم انتهت معركة جوبر، يُقال إنهم عادوا ليلتها إلى ثكناتهم في الجبل، ويُقال أيضاً إنهم عادوا بعد صفقة التبادل الكبرى.

– لا لن أدخل هذه الجملة المتخيلة

قلت هذه الجملة بصوت عالٍ، فأنا أكلّم نفسي في كثير من الأحيان، وقد تبعتها قبلة لطيفة من ليال، وهذا بالمناسبة اسم طليقتي، ثم ودَّعتْني وذهبت إلى عملها.

لا أستطيع التفكير، أخي الأحمق اختفى بعد أن قتل أحد رجالها، وأختي، آآخ من أختي، ثم قرِع الجرس في اللحظة التي بدأت أفكر بأختي.

***

اللقاء الأول

(رامي قهوجي)

قرعت الباب ثم أملت جسدي المنهك على حائط شقة أخي، ثم انتظرت العادة الغبية، فأخي كعادته عليه أن يهيء نفسه قبل فتح الباب، لكني استمتعت برائحة قهوة قوية قادمة من الشقة المجاورة وقد رافقها أصوات بكاء طفل فزادت المتعة أضعافاً مضاعفة، كان ينقص المشهد وقتها رائحة ياسمينة قوية وشعر ساذج قادم من مكان ما بصوت أنثوي وقح، يعلم بأن القصيدة محض هراء لكنه سعيد بتملّق دائم للأوغاد، وإن أضفنا للجو اللطيف صرخة امرأة تلد، أو تعيش لحظات مؤلمة مع عشيق عابر، سيكون الأمر أكثر إمتاعاً، ولن أنزعج أبداً إن أصبح الموقف أكثر متعةً وضوضائيةً بإضافة موسيقى وتأوهات من فيلم بورنو تصدر من كمبيوتر مراهق تخترق غرفته منطلقة إليّ من آخر الرواق.

أعدت قرع الباب بقوة وفي المحاولة الثالثة فتح حازم الباب وصاح في وجهي بكل وقاحة قائلاً:

– صرعتني

– لشو أكل هالخرا.. ساعة لتفتح الباب!.. من سيأتي في هذا الوقت من الجيل الخامس هاااا!

أبعدته عن طريقي ودخلت مكملاً حديثي:

 – ولمَ كل هذا العطر حازم بيك!

– انتظر حتى أقول لك تفضل عالأقل يااا.. قليل الأدب

– ما الذي يبقيك في الشقة حتى الآن.. ألا تدري أن الصموأل ودّع الحياة منذ يومين!

ثم رفعت يدي اليمنى عندما قلت بصوت عالٍ “ودّع الحياة” فأنزلها قائلاً:

– ألا تعلم بأن القتل ممنوع.. حتى.. ولو.. دفاعاً.. عن.. النفس.. أم نسيت القوانين؟

– يا رجل ألم تمل الجمل المقطعة.. حتى.. ولو.. دفاعاً.. أخي العزيز.. أنا أبداً وقطعاً وبتاتاً لن ألتزم بقوانين كتبت منذ مئة وثلاثين عاماً وأترك الحيوانات يقتلونني ثم ينجون بفعلتهم.. لا لاااا.. مستحيل يا أخي العزيز.. مستحيل

– أولاً لن ينجو أحد من فعلته.. ثانياً ما هذا التخريف مئة وثلاثين عاماً.. أتعتقد بأنك تريد أن.. (فقاطعته)

– بالطبع أنا كنت وسأبقى.. ولكن.. سأ.. أخي لا توجعلي راسي.. جهز حقيبة سفر صغيرة.. نحن مغادران

– لا عندي مشروع وأنا منهمك به.. تشرب قهوة؟

– ما هذا الغباء وووو برودة الأعصاب التي لا مبرر لها.. ألم تسمع ما جرى!!.. الصموأل

– الصموأل قُتل.. البارحة جرى اجتماع كبير هنا في هذا الصالون.. حتى أنه جرى بحضور خمسة من الجيل السادس

– خمسة من الجيل السادس!

– نعم نعم.. الجيل السادس.. القصة أصبحت أكبر مما تتخيل يا قاتل السكارى.. يا صعلوك

– يا لطف الطف.. الطف أو لا تلطف تسطفل.. أوووووه الجيل السادس.. هذا الكلام ممتاز.. هيا جهّز نفسك عليك أن تبتعد عن هذه الشقة.. فقد غدا القتل مجازاً في هذه اللعبة بعد مقتل الصموأل، وعلى هذا الأساس سيصبح أي أحد من الأصدقاء مستهدفاً… فتخيل أنت.. أخي.. وابن أبي.. يا عيني.. أنت هدف سهل

– أولاً الملافظ سعد يا حجي.. بلاها كلمات غباء وخرا.. عيب أخوك الكبير أنا.. وبالمناسبة هذه الشقة لا تزال باسم ليال لن يتوقعوا بأنني موجود هنا

– فعلاً.. معك حق.. فنحن نتعامل مع عصابة حمير

– أنا لن أغادر المنزل عندي شغل.. وللآن لم يوكل لي شيء.. ولن أضيع وقتي بالتشرد.. من الآخر أنا لست رامي قهوجي.. الصعلوك.. أنام في أي مكان.. وأعيش كيفما كان

– ولك يا فهمان.. القضية هي حياة أو موت.. وهم محترفون في عمليات الاغتيالات.. والقصة غدت قضية وجود لا تحتمل الحلول الوسط أو نجاة الطرفين بعد صراع كما كان يحدث سابقاً فقد امتلكنا رقبتها ولن نتراجع

– رقبتها؟!.. مااا!

– نعم نعم.. كل شيء في وقته يا حازم الحبيب.. في وقته.. ولكن ليكن في علمك أنه الآن يا نحن يا هُم.. لا حلّ لديها.. ولن تسمح لي أو لقيس بأن نتصرف بشيء وأنت ستكون كحجرة في دربها.. وقد تصبح حياتك مقابل التراجع.. لا تكن عامل تخريب يا حجي.. وأنت تعلم بأننا لسنا قتلة وهذا سيجعل لها اليد العليا بعد مقتل الصموأل

– لأنك قصير نظر.. كيف لك أن تقتله هاااااا

– ما جرى قد جرى

– لعمى.. أين نسكن!.. وفي أي عصر نحن؟!

– أخي.. مشاكل ويجب أن تحدث.. ستنتهي وسننتهي من عقبة كبيرة لا تقلق

– لكنّ العنف.. (قاطعته)

– لك خلصني من التنظير والعلاك وأكل الخرا.. اذهب والبس وجهز حقيبتك.. عامل فيها كاتب ومثقف.. وااااو ويااااي.. غابة ويجب أن تقّص.. بالعنف بالسلم بالصرامي سنقوم بتشذيبها

– طيب تشرب قهوة؟!

جلست ولم أجبه، نظرت إلى الأفق، إلى دمشق، يا سلام الشباب الطيبة في هذه الأحياء تبحث عن رأسي كي تهديه لشمس، وأخي يماطل، مؤرخي آخر زمن.

“استسلم.. ونعدك بعرضنا وبديننا بأنك لن تمسّ”، قرأت العنوان بصوت منخفض من دفتر موضوع على منضدة أمام الكنبة، ثم صحت بأعلى ما أملك من طاقة وأنا أهزأ من حازم:

– ألا تزال تكتب عن حقبة الثورة.. صرعت الجماهير بك وبكتاباتك.. أخي غيّر قليلاً.. اكتب عن صراع السنوات العشر.. أو عن أي شيء.. أو عن حسين جيرود

ثم نهضت وبدأت أتلو عليه مقطعاً من قصيدة للجيرود، شاعري المفضل، وأنا أحرك يديّ:

 – قضيتُ نهاري أسبح في كومةٍ من القش.. لم أتذكر وقتها النار أو الماء.. ولا الإبرة.. ولااا ماذا الإبرة.. اكتب عن الإبر وقمم القش.. كَوني الآن أنا كالإبرة في كومة من القش والخراء.. والخراااااااااء

عاد أخي من غرفته وهو يحمل حقيبة صغيرة سوداء اللون وهي الحقيبة نفسها التي عثر عليها في السلمية، المهم، قال لي ساخراً:

– أخي اكتب أنت عن حسين جيرود أمّا أنا فتخصصي في الثورة السورية.. أنا جاهز.. أين ديما الآن؟

– تقصد القحبة.. (أضفت ساخراً)

– أختك هي يا خرا.. ما كنا نخلص من هذا الموضوع الغبي

– لا أبداً.. حتى مماتي 

– لا بأس أنت حر.. أما أنا فقد انتهيت من القصة فلا تلقبها بهذه الألقاب التافهة يا تافه.. على الأقل أمامي

ابتعد حازم عني قليلاً، استدار واضعاً يده على رأسه ثم أكمل يوبخني:

– أنا كاتب.. مؤرخ.. لي اسم في البلد بحجمك ووزنك بعشرة أضعاف.. وأنت تدفعني كي أتكلم كأولاد الشوارع

– يا أخي اي حبيبي.. الشب والكلام البذيء صديقان لا يفترقان.. أعطي العنان لك يا أخي

تحدثت إليه وأنا أدخل إلى المطبخ ثم أكملت الجملة بصوت أعلى:

– أين البيرة.. لم البراد فارغ؟!

– إلى أين الوجهة؟

– إلى مدينة صغيرة في القلمون.. تدعى الرحيبة

– وديما!

– ستلحق بنا لا تقلق

خرجنا من الشقة التي تمتلكها ليال، طليقة أخي، التي لا تزال على علاقة معه، طليقة يا لهذه التفاهة وكأنها كانت عبدة فأطلقها، وتخيلوا يا أحفاد الثورة، العظيمة، للآن تُستخدم هذه الكلمة، نعم لها معنى واضح ولكن حرفياً فالمعنى كال…، المهم، في الكراج انتظرنا جورج الصبّاغ الذي تكفَّل بمهمة إيصالنا إلى مزرعة لصديق قيس في الرحيبة، وهو بالطبع أحد الأصدقاء ومن الجيل السادس.

بعد أن قطعنا جوبر وعند ساحة العباسيين وقبل أن نعبر المفرق الذي يصلنا إلى طريق دمشق حمص استوقفتنا مظاهرة لجمعية قدامى الثوار.

– قدامى الثوار؟.. (سألني أخي)

– نعم.. كالعادة قطع للطريق وحرق إطارات وبعض الشعارات التاريخية المنقرضة

– مهووسون

– نعم.. (أجبته ساخراً) وكأنك لا تتمنى أن تكون معهم

– بعد أيام سيكون عيد الثورة الثامن والسبعون

اقتربنا من مكان التجمع خلف حشد هائل من السيارات التي تسير ببطئ شديد قاتل، فقد غدت العادة بعد أحداث شغب 2080 بأن تؤمن قوات ضبط الشغب جزءاً من الطريق كي تمنع الانقطاع الكامل وبهذا تتحول الطرقات العريضة إلى خط سير واحد، سرنا خلف السيارات وعندما اقتربنا من المظاهرة فتحت النافذة كي أستمع.

 فزاد الصوت الواحد المندفع من حناجرهم

– الشعب يريد إسقاط النظام

– يريدون إسقاط النظام إذن.. (قال المؤرخ ساخراً)

– نعم.. (ثم ضحكت ساخراً منه ومنهم).. ما رأيك؟؟.. رجال هااا

– لكااان.. لو عاشوا يوماً واحداً من الثورة لشابت رؤوسهم.. سيدي

– أستاذ حازم قهوجي؟!.. (أردف جورج مستأذناً أن يتكلم)

– بدها استئذان!.. ألست من الأصدقاء!؟

بعد سؤال حازم رفع جورج سبابة يده اليسرى ثم نقر على صدغه الأيسر نقرتين وهو يقول مبتسماً:

– بالطبع أنا صديق

– فاسأل إذن.. دون استئذان

– بالتأكيد.. هل تعتقد أستاذ حازم أن لحزب البعث فرصة في انتخابات السنة؟!

تنهد أخي ثم أغلق النافذة هرباً من هتافات المتظاهرين الحجرية، ثم أردف:

– لا أعتقد ذلك.. ولكن سيبقى المناصرون والأعضاء يحاولون حتى الرمق الأخير ثم سيعترفون بأنه توفي منذ خمسين عاماً.. لا أمل لديهم البتة

– وهل الوقت مناسب لأحاديث السياسة!

أضفت والسعادة تطغى على محيّاي، فرمقني حازم بنظرة مزعجة لكني واجهتها بابتسامة عريضة ثم أكملنا متابعة المظاهرة صامتين.

ابتعدنا عن المظاهرة وانطلقنا حتى قطعنا مدينة القطيفة، عند المفرق المؤدي إلى الرحيبة مررنا من لافتة كتب عليها مدينة جيرود، فأضاف أخي شارد الذهن:

– ذكرني عندما تنتهي المصيبة أن نزور قبر مضر عدس

– بالتأكيد

***

المهندسة

(ديما قهوجي)

منذ شهر تقريباً جاءني اتصال من أخي الأكبر، العصبي أحياناً واللطيف كثيراً، الكاتب والمؤرخ السوري الأشهر حازم قهوجي، صرخ في وجهي موبخاً:

– أين اختفى قيس فمنذ الأمس لا أثر له.. هل لديك أية فكرة؟!

– قيس!.. لا.. لا علم لدي مطلقاً.. وما أدراني أنا.. كعادته اختفى في مكان ما ليجهز لمشروع جديد أو مشكلة جديدة أو

لكنه قاطعني قبل أن أكمل قائلاً بغضب مكبوت:

– ممممم.. لا بأس.. ألا تعلمين أين رامي إذن؟

– ومن أين لي أن أعلم أين رامي!!.. رامي باشا تبدأ سهرته في دمشق وبعد سكرة طويلة تجده أصبح في حمص يغني في دار الأوبرا مع سارة.. الحبيبة الحمصية.. في صباحية ربنا يغني في دار الأوبرا.. ثم يكمل الطريق إلى اللاذقية وأحياناً لا أستغرب إن أكمل الطريق مع أحد الأصدقاء إلى ألمانيا ليعود بعد شهر

– هل انتهيت من الردح؟

– نعم.. انتهيت

أجبته بصوت خجول أحرجه لطف حازم المفاجئ، وسرعان ما تبخر الخجل بعد أن انهال عليّ موبخاً بغضب وتأفف:

– اي عيب.. أخوك الأكبر أنا.. احترميني على الأقل ولا تتلكمي على أحد أفراد العائلة أمامي بهذا الشكل المشين

– اعذرني ولكن فعلاً مزاجي معكر

– لا بأس.. اليوم سيقام اجتماع من المستوى السادس في منزلي

– السادس!.. سوف آتي

– لا لااا.. الاجتماع بدعوة

– لكن.. حازم قهوجي أنت

– كوني بخير وسنتكلم لاحقاً.. إلى اللقاء

– إلى اللقاء

أغلقت السماعة وعدت إلى حياتي الطبيعية، فيومي يبدأ بعمل ثم عمل ولاحقاً في آخر النهار بعض التسلية والمشاوير اللطيفة والقليل من القراءة المسلية قبل النوم، ولكن السماء كانت قد انفجرت وراحت الأمطار تنهمر وبدأت القصص تكبر ككرة ثلج، وراحت المصائب تتوالى، لم يخبرني حازم يومها عن الحدث الجلل الذي جرى مع قيس، في ذلك الوقت لم يتورط في القصة إلّا رامي كما اعتقدت بعد أيام ولكنه اختفى مع قيس، أو عالأقل اختفيا في وقت لاحق، لاحقاً علمت بأن القصة ضمّت مجموعة كاملة من الأصدقاء الذين عملوا في القضية سويّةً.

بعد أيام عديدة بدأت تتكشف القصص ورحت أحضر بانتظام اجتماعات الأصدقاء في منزل طليقة أخي، ليال خانم، وراحت الأمور تتضح رويداً رويداً حتى جاء ذلك اليوم الألطف، أيّ منذ يومين، إذ إن الظريف رامي، الشاعر الشريد، أو الصعلوك المهذب، قتل الصموأل ففتح بوابة للجحيم.

بعد يومين من مقتل الشاعر السكير غفوت على أصوات صراخ الجيران، اكتشفت بعد دقائق من التنصت، وهي عادة قديمة ملاصقة لي منذ الصغر، بأن العريس الذي قضى ليلة دخلته البارحة قد اكتشف بأن عروسته قد خسرت غشاء البكارة في جولة سابقة، فهاجت أصوات العريسين وبدأ المتخلف بضربها وشتم عائلتها، إذ إنها لاذت إلى الشرفة التي تلاصق شباك غرفة نومي، وفجأة كأني سمعت اسمي يلفظ على لسان العريس وقد ألحقه بالجملة التالية:

– ناقصنا شرموطة تانية بالبناء

 ثم ضعف صراخها وغدا بعيداً، وكأنها استطاعت أن تباغته وتهرب خارج المنزل ثم فجأة سمعت صوت دق الباب، وبعد دقيقة واحدة انفجر الجار بالصراخ وقال كالمجنون وهو يدق على باب منزلي:

– طبعاً القحبة لا تلفي إلّا على قحبة

وهكذا انتقل الشجار إلى الممر أمام باب شقتي، وبعد دقائق توقف الطرق ثم تلته ضربة قوية أعتقد أنه صوت ضرب رأس العروس بالباب وبعد لحظات عمّ الهدوء إذ تدخل الجيران في فض الخلاف، ولم تمضِ دقائق حتى أتت الشرطة واختفى الجار في بضع ثوانٍ.

بعد خروجي إلى الشرفة لألقي الوداع على جارنا الجديد عدت إلى سريري وخلدت إلى النوم، في صباح اليوم التالي، أعددت إبريقاً كاملاً من القهوة اليمنية ثم جلست خلف مكتبي ممسكةً دفتراً وقلماً وبدأت أحضر خطة للأسبوع القادم، زيارة طبيب الأسنان، مراجعة المحامي أنا وسوزان، زيارة المزارع للتشييك على محاصيل البطاطا، كنت ساعتها منهمكةً جداً في تحضير الخطة فقاطعني اتصال حازم.

– مرحبا

– أهلاً أستاذ حازم.. الحمد لله أنك تذكر أن عندك أخت

– الوقت غير مناسب للعتاب فأنت تعلمين المصائب التي حصلت.. ومنذ يومين حصلت الواقعة الأهم ولهذا حان الوقت كي تستعدي

– واقعة!.. أية واقعة؟!

– قتل أخوك العزيز رامي الصموأل

– الصموأل!.. الصموأل المشهور؟.. الصمو

– نعم نعم هو.. الصموأل.. المهم.. لا وقت لنضيعه.. نحن في مدينة الرحيبة وقد أرسلت جورج الصبّاغ كي يقلَّك إلى المزرعة.. وبالمناسبة

– بوجود وقت أو عدم وجود وقت.. أنا لا أتلقى الأوامر منك.. وعليك ألا تتصرف بنفسك

قاطعته بصوتٍ أقوى من صوت جاري الموتور، فأردف قائلاً:

– أنا في مزرعة فراس الفرّان الآن

– مزرعة فراس الفرّان؟!.. في المكتبة الأم؟!!

– نعم نعم.. في المكتبة الأم

– إذن فقد غدوت.. (لكنه قاطعني)

– نعم نعم

– إذن أخبر السائق أني في منزل سوزان

– لا بأس سأخبره.. أبلغي تحياتي لسوزان

– بالتأكيد

أغلقت الهاتف ثم عدت أكمل العمل على الخطة، غداً بعد عودتي من مزرعة فراس الفرّان، هذا إن تمكنت من العودة غداً، عليّ زيارة مزرعتي الخاصة في صيدنايا، صحيح بالمناسبة أنا مهندسة زراعية أملك شركة كبيرة نوعأ ما، كما أعتقد وأتفاخر أمام الجميع، تمتلك هذه الشركة عشرين مزرعة في أرجاء سوريا وتراخيص تصدير واستيراد للعديد من المنتجات مثل القمح والقطن، بعد زيارة المزرعة عليّ أن أقابل سوزان في مكتب المحاماة كي نراجع أوراق القضية المرفوعة ومتابعة موافقة زواج المثليين، ثم سأعود إلى المنزل لأجهز نفسي لحضور حفل زفاف صغير في باب توما، بعد أن أنهيت كتابة الخطة أعددت حقيبة صغيرة وارتديت ملابسي وانتظرت، وبعد ساعة من اتصال أخي وصل جورج، حملت الحقيبة وخرجت.

على باب الشقة رأيت كالعادة ورقة بيضاء كبيرة معلقة كتب عليها:

– هنا تسكن القحبات

أمسكت الورقة وقد زادت من ابتسامتي الصباحية التي لا تقاوم، ثم عدت بها أدراجي حيث يقبع مكتبي الخشبي، وضعتها مع باقي المجموعة وانطلقت إلى جورج.

***

المزرعة

(حازم قهوجي)

أمام بوابة كبيرة توقفت المركبة، انتظرنا حتى يتعرّف جهاز الاستقبال على الهويات ثم فُتحت البوابة على مصراعيها، تنقسم المزرعة إلى قسمين واسعين يفصلهما خط الفرات العرضي الثالث، عبرنا البوابة وسرنا إلى أن قطعنا ما يزيد عن كيلو متر داخل المزرعة، أحاط الطريق الداخلي بصفوف متتالية من دوالي العنب التي تشتهر بها المنطقة، عنب أحمر كبير الحجم حلو الطعم، بعد مدة وجيزة وصلنا حيث يقطع الخط الفرات المزرعة، وقد عبرنا الخط من طريق جسر مخصص للمركبات، ثم سرنا ما يزيد عن مئة وخمسين متراً حتى وصلنا إلى موقف للسيارات بالقرب من الفيلا.

كان في انتظارنا صديق والدي فراس الفرّان، يقف مرتدياً بدلة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي على حسب ما اعتقدت وهو يحمل عصا من خشب الصنوبر مطلية بلون بني غامق كما توقعت، هبطنا من السيارة على أصوات ترحيبه الشديد والمتقن والملفت، ثم قادنا إلى داخل الفيلا، التي رجع بأن تسمية قصر أنسب إلى الحقيقة والواقع.

علّق على أحد الحوائط داخل البهو الكبير الذي يحتل مساحة كبيرة من القصر صورة كبيرة لرجل يرتدي بدلةً تشبه البدلة التي يرتديها فراس بيك، وقد رفع الرجل عصا اكتشفت لاحقاً بأنها العصا نفسها التي يحملها فراس.

وقف المضيف أمام اللوحة ثم قال لي بفخر كبير:

– هذا جد جدي توفيق بيك الفرّان.

– الله يرحمو.. ولو.. غني عن التعريف.. من لا يعرف توفيق بيك أو أخوه رشيد بيك الفرّان.. وأخص بالذكر بالطبع دورهم الكبير في التأسيس

– بالطبع.. بالطبع.. شكراً للطفك.. تفضلا من هنا من فضلكم.. أمّا أنت يا جورج فمهمة جديدة بانتظارك.. السيدة لانا تنتظرك في المطبخ.. تفضّلا.. أهلاً وسهلاً

قادنا فراس إلى غرفة مكتبه، مكتب خشبي يتربع داخل غرفة ضخمة عالية تقع في الطرف المقابل لباب القصر، عبرنا البوابة بسعادة لا توصف فنحن، أنا وأخي رامي، على وشك أن نشاهد معلماً من أهم المعالم التي لا يسمح إلّا للقليل منّا بأن يراها.

– إنها المكتبة الأم إذن

– بالتأكيد .. تفضلا اجلسا

– شكراً لك

أضاف رامي بعد أن فضّل الصمت منذ وصلنا.

على يمين الباب إلى الأمام تقبع منضدة اجتماعات صغيرة مع أربعة كراسي خشبية تحيط بها، جلسنا أنا ورامي بعد أن أشار فراس لنا بذلك ثم استأذن وغادر، ما إن غادر حتى وقفت وبدأت أحدّق في الكتب الكثيرة التي تتجاوز حسبما قال لي والدي المئة ألف، كنت أقترب منها محاولاً قراءة عناوين الكتب الموجودة على الرفوف دون أن ألمسها.

لم تمضِ دقائق حتى قاطعني أخي، قائلاً:

– تستطيع قراءة ما شئت.. لمَ الحياء؟!

– لا حياااء.. لا حياء يا رامي.. ولكني.. ولكني أفكر أن أرشح نفسي كي أكون الوريث لهذه المكتبة.. ما رأيك؟

– أعتقد بأن وضعك مؤهل جداً لتكون الوريث القادم.. ولكن عليك أن تكسب العديد من الأصوات

– نعم نعم.. هذا ما سأبدأ بفعله

– صوت قيس بالتأكيد سيكون لك.. ولكن دعنا ننتهي من قصتنا اللعينة أولاً

– بالتأكيد

أنهيت كلمتي ثم عدت إلى شرودي، في هذه الأثناء نهض رامي واتجه إلى المكتب، جلس خلفه وأخذ لفافة سجائر موضوعة على صحن السجائر ثم أشعلها وبدأ يدخن بهدوء لم أعهده من أخي، حتى أنه لم يبتسم، بعد ثلاث سجائر متواصلة فُتح الباب ودخل فراس.

– سيد رامي.. جورج في الخارج ينتظرك

– بالتأكيد

غادر رامي، ثم جلس فراس قبالتي، أخرج علبة سجائره، دخن سجارة بصمت مطبق ثم بدأ يكلمني.

– المشاكل لا تنتهي

– بالتأكيد.. والأفضل أن نواجهها نحن في وقت مبكر.. حتى ننتهي منها قبل أن تصبح كرة ثلج كبيرة جارفة

– حكيم.. رأي حكيم.. بالطبع هذا الذي يجري.. بالطبع

عاد إلى صمته بعد أن كلمني شارد الذهن وبعد لحظات أكمل يقول:

– بالمناسبة أعجبني كتابك الأخير

– فدرلة الثورة؟

– عنوان ذكي.. كتاب لا يوصف.. كل الأصدقاء فخورون بك

– هذا من دواعي سروري فراس بيك

– بالمناسبة أنت أحد المرشحين للتفرغ

– للتفرغ؟!

قلتها بسعادة حاولت كتمها

– بالطبع.. فأنت تستحق هذا الشرف

– شكراً لك

عاد الصمت، أشعل لفافة جديدة، دخنها وهو يفكر، ثم قال شارد الذهن:

– عندي دفعة كرمنتينة جديدة لروسيا والموضوع استهلكني كثيراً

– هل تعلم أنه في ثمانينيات القرن الماضي اعترض السوريون على إرسال الكرمنتينات إلى جوعى الاتحاد السوفيتي.. اييييه.. أمّا الآن فقد اختلف الموضوع.. يجب أن نساعد الروس

– بالتأكيد.. دولة صغيرة والبرد يأكل أهلها.. والثورة أنهكتهم.. علينا أن نساعدهم

– ولكن عندنا من المشاكل ما!

– هذا دورونا يا حازم.. دورنا

– بالتأكيد.. أعتذر منك

عاد فراس إلى شروده وأفكاره وقد كنت منهمكاً بإخفاء خجلي من اعتراضي له، وبعد لحظات أكمل حديثه وكأنه كان ينتظرني أن أتمالك خجلي، وقد أضاف لحظتها بحزم بعد أن طرد الشرود بطريقة غريبة:

– مشكلة قيس معقدة ولكنها كانت ضرورية حتى ننتهي من الشمس نهائياً، الخطر الذي وضعنا قيس فيه ضروري، وقد وافق، ولكن تطورت الأمور بعد أن أقدم رامي على قتل الصموأل، وسوف نناقش هذا الموضوع في وقت لاحق ولكن الآن علينا أن نزيد من تحركاتنا وانتشارنا حتى ننتهي من القصة.. نحن في المراحل النهائية والمتبقي فقط الإيقاع بها.. ومن ثم ستنتهي حقبة ما بعد السنوات العشر نهائياً وندخل مرحلة جديدة

– بالتأكيد

– نعم بالتأكيد.. (ابتسم فراس ثم أردف) أرسلت رامي في مهمة.. ونحن بحاجة إلى ديما أن تكون معنا هنا.. جورج الآن في الطريق ليحضرها.. أمسك هذا الهاتف واتصل بها

ثم رفع هاتف نقال في وجهي، أمسكته وطلبت رقم ديما وانتظرت الإجابة، طلبت منها القدوم إلى المزرعة حالاً ثم أعدت الهاتف له.

أغلقه وأعاده إلى جيبه ثم باغتني بسؤال مفاجئ وابتسامة خفيفة تزيّن محياه:

– ما أخبار سوزان؟

– جيدة

– والدك صديق مقرب جداً.. نحن لا نعمل كالمخابرات.. لا تقلق

– بالتأكيد

– لانا بانتظارك في المطبخ

– شكراً لك فراس بيك

أومأ لي برأسه لحظة شكرته ثم أخرج سيجاراً من درج المنضدة وأشعله في أثناء مغادرتي.

***

إعلان الحرب

(قيس قهوجي)

في عام 2025 أعلنت هدنة شاملة في سوريا، لكنها لم تشمل مناطق سيطرة التنظيمات المصنفة إرهابية، ثم أعلنت هدنة كاملة عام 2026 بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي انتصاره على الإرهاب بالكامل، بالمناسبة أنا الآن أجلس في منزلي الصيفي أيّ قبل ثلاث سنوات من اجتماع رامي وحازم، أولادي، مع فراس الفرّان، أجلس الآن وأنا أحتسي فنجان شاي مع منظر غروب شمس رائع أمام حديقة عظيمة من الورود كثيرة الألوان والأنواع، أجلس منتظراً رامي كي أنقل له مهمته في الحرب الجديدة.

المهم، في عام 2026 أعلنت الأمم المتحدة انتهاء الحرب في سوريا بالكامل، ثم بدأت مرحلة انتقالية جديدة، كانت تشترط المرحلة بقاء الأسد رئيساً ذو صلاحيات تشريفية كما سمتها وزارة الدفاع الروسية حتى عام 2028 أي انتهاء رئاسته، ثم سيتم الإعداد لانتخابات رئاسية جديدة ستكون تحت مراقبة الأمم المتحدة وبإشراف مباشر من روسيا وأمريكا بوصفها دولاً مفوضة من الأمم المتحدة.

وقد جرى تأجيل الانتخابات أكثر من مرة لأسباب مختلفة، منها مفتعلة ومنها حقيقية، حتى جرت عام 2030، ثم…

لقد رن الجرس وفتح الباب مباشرة، وصل الصبي.

– مرحبا بابا

– مرحبا مسيو رامي.. اعتقدت بأنك لا تحمل المفتاح

– من سابعة المستحيلات أن تعتادنا.. ما الأخبار؟

– جيدة.. اجلس.. تشرب شاي؟

– وسكي

– شاي؟

– اي.. بشرب شاي

صببت له الشاي ببطء شديد وأنا أراقب بانزعاج لفافة التبغ التي أشعلها، ثم أكملت شرب الشاي دون أن أنطق بحرف واحد، حتى بدأ يتململ، إلّا أن قاطع الصمت.

– ما القصة؟

– ما القصة

قلت الجملة شارد الذهن وأنا أهزّ رأسي، ثم نهضت على قدمي قاصداً الحديقة، أحضرت وردة جورية ووضعتها داخل فنجان من الماء، ثم جلست وأنهيت احتساء الشاي ونظرت إلى عيني رامي بعيني أعتقد بأنهما كانتا تلمعان كشمس لاهبة.

– أأنت مستعد حتى ننتهي من العلاك؟

– بالطبع.. ولكن أيّ نوع من العلاك؟

– جبهة الأحزاب العشرين

– جبهة الأحزاب العشرين!.. هل تقاطع سفري إلى أوروبا.. من أجل الدخول في جبهة ضد هذه الجبهة!

– وما المانع؟

– الجبهة تعمل سوية منذ خمسين عاماً ولديها علاقات جيدة.. لا لااا.. ابحثوا عن طريقة أخرى

– المهم أريد منك أن تعمل على

– يعني ممنوع الاعتراض

– طبعاً ممنوع.. أريد منك أن تتابع العمل على اختراق ثلاثة أحزاب منهم.. حتى نستطيع أن نسحب ترخيص حزب واحد على الأقل

– اختراق!.. وعلى الأقل.. من صاحب هذه الفكرة الذكية؟!

قال رامي الجملة ساخراً بعد أن أمسك لفافة تبغ جديدة، وبدأ كعادته السخيفة يصدر همهمات لا معنى لها، فقاطعته:

– سخيف

– من صاحب الخطة؟!.. مستحيل أنت

– أووووف.. أتمنى أن أكون أنا

فانفجر الملعون ضاحكاً لحظتها، لكني قاطعته قائلاً:

– فراس الفرّان

– فراس الفرّان!.. فراس فراس

– نعم فراس

– طبعاً أنا وأنت من سيتورط في القصة

– نحن وآخرون.. القصة كبيرة

– هذا اختراق خصوصة.. خصوصية.. أوراق.. مكاتب.. تنصت.. دون إذن حكومي.. ستنهي مستقبلي وووو.. مستقبلك

ضحكتُ حتى تلامس طرفا فمي، ثم أضفت قاطب الحاجبين:

– تقصد آخرتي.. أنا نهايتي ستكون سوداء إن مت والشمس لا تزال ممسكة زمام الأمور.. سنعلن حرباً سريّة حتى إشعار آخر

اقترب رامي مني ثم قال بصوت منخفض هادئ ساخر:

– وأنا سأكون في الواجهة كالعادة.. ما؟!

– شبكة ستمسك بها أنت.. من أصدقاءك الصعاليك.. ولك لعمى.. تفه.. لم أكن أتوقع بأنك جبان لهذه الدرجة

– لا لاااا.. بالعكس أنا أول المتورطين إذا أردت.. ولكن من أجلك فقط لا غير

– تمام.. اذهب إلى لانا الخطيب.. هي بانتظارك في النادي

– لانا الخطيب؟.. ومن لانا الخطيب هذه؟!

– السكرتيرة الأولى

– عم تمزح.. السكريتيرة الأولى!.. يا ويلتاه.. تبدو القصة كبيرة جداً.. أنا ذاهب إلى اللقاء

– مع السلامة.. بانتظار أخبار جديدة

نهض رامي وهمّ بالمغادرة لكني صحت قائلاً:

– بالمناسبة الحرب ستكون على ثلاث جبهات.. فلا تقلق

فنظر إلي رافعاً رأسه بثقة جبل لا يخشى أية ريح قادمة، ثم قال ساخراً:

– وأنا كالعادة في الواجهة وحيداً

– كلنا سنكون في الواجهة

لم يجب اكتفى بالابتسامة الساخرة المعهودة، وكأني استشعرت قلقاً منه، ثم رفع يده مودعاً وغادر.

المهم فلنعد للموضوع الأول، انتهت الانتخابات الرئاسية الأولى دون مشاكل تذكر، ثم ظهرت النتائج في أول عام 2031، في البداية كان عدد المرشحين يزيد عن العشرين، ولكن تنافس في النهاية مرشحين اثنين، جميل القادري وقد كان مدعوماً من روسيا وايران مقابل سليم الحمصي المدعوم من أمريكا وبعض دول أوروبا.

خسر جميل الانتخابات أمام سليم الحمصي ونتيجة لذلك رفض النتيجة وطالب بإعادة الانتخابات، لكن الإعادة رفضت، وبعد الرفض بأسبوع قُتل سليم الحمصي بانفجار سيارة مفخخة وأعلَن بعدها جميل عن تشكيل حكومة مؤقتة بوصفه رئيسًا طبيعياً للبلاد بعد مقتل الرئيس المنتخب، وقد اتخذت الحكومة القادرية، كما أحب أن أسميها، مدينة اللاذقية مقراً لها مدعومة من الوجود الروسي القوي في المنطقة، وبعد شهر شكلت حكومة موازية لحكومته في دمشق برئاسة صبري كريم نائب الرئيس الذي تقلد منصبه قبل مقتل سليم بأيام.

اعترفت الأمم المتحدة بحكومة دمشق، لكنّ هذا الاعتراف الهزيل والمخادع لم يحلّ المشكلة السياسية في سوريا، وهكذا انقسمت البلد إلى ثلاث فدراليات كبيرة بعد أن كانت مقسَّمة إلى سبع فدراليات بعد الحرب الأهلية، ولاية في شمال شرق البلاد رفضت التورط في الحرب التي لاحت في الأفق، فأدارت منطقتها بنحو منفصل مع الإبقاء على علاقات تضمن مصالح الأقاليم الثلاثة، وولاية تابعة لحكومة دمشق والثالثة لحكومة اللاذقية، ورغم التصريحات والبيانات الواضحة والصريحة التي أعلنتها الدول للاغتيال السياسي لسليم الحمصي ووقوف الدول مع حكومة دمشق واعترافها بها، فإن دول العالم انقسمت وراحت كل منها تدعم الإقليم الذي يناسب مصالحها ويحقق لها ما أردات كما جرى في الحرب السابقة.

في تلك الأزمة رفضت قيادة الجيش التدخل في الصراع، فاعتزل الجيش السوري السياسة لأول مرة في تاريخ البلد، تقريباً، فتحولت الحرب التي كانت متوقعة أن تكون مليشيوية إلى حرب مخابراتية بامتياز، فانتشرت الحواجز بين الأقاليم وداخلها، وكثرت التفجيرات وشاع الخطف والتشويش والتحقير، وبدأ الطرفان يقتلون ويصفون القيادات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد جرى كل ذلك دون حرب معلنة واضحة، اجتماعات سياسية نهاراً للوصول لحل ما، حكومة مركزية واحد تعترف كل الأقاليم بها، وبعد كل اجتماع فاشل عملية اغتيالات ليلية ناجحة.

خلال هذا الصراع تشكّلت أفرع مخابرات جديدة بعد أن انقسمت القديمة إلى أحد الطرفين، وقد كان لهذه الأجهزة الدور الأبرز خلال هذا الصراع الذي سمي فيما بعد صراع السنوات العشر، وقد دامت الحرب حتى انتهت باغتيال جميل القادري عام 2040 بعملية جرت في ظروف غامضة لم تكتشف حتى يومنا هذا.

بعد عملية الاغتيال العجيبة تشكل مجلس وطني سريع قام بعزل أعضاء الحكومتين، وكأنه حل جاهز أخفته دول العالم كما حدث في الحرب الأهلية حتى حققت هدفها، ثم شُكلت حكومة وطنية حافظت على استمرار الفدرالية التي دفعت أميركا للإبقاء عليها ضمن الظروف التي أنشأتها من أكثر من خمسة عشر عاماً.

بعد انتهاء الصراع، أعلنت الحكومة الجديدة عن تعديل دستوري جديد، بعيداً عن ضغوطات الروس القديمة الرافضة للتعديل الدستوري، فأعلنت عن إلغاء الصلاحيات التي حازت عليها الأفرع الأمنية مسبقاً، فحولت صلاحياتها إلى…

رنّ الجرس مرة ثانية، هذا أكيد فراس الفرّان، سأكمل لاحقاً.

***

الجبهة الأولى

(رامي قهوجي)

استمعت ساعة كاملة وكلي آذان صاغية للسيدة لانا الخطيب، السكريتيرة الأولى. راحت تشرح لي تفاصيل الخطة، ورحت أنا وبكل صدر رحب أحرك رأسي دليلاً على تفهمي وقناعتي وسعادتي، إلّا أن سألتني عن رأيي، فقلت لها بكل وضوح:

– لكني لا أريد أن أعمل داخل منزلي.. على الأقل أريد مهمة مختلفة.. ممكن أن ألتحق بأحد الأحزاب العشرين.. مثلاً؟!.. ما رأيك؟

أول الأمر لم تجبني، بل أشعلت لفافة تبغ وانشغلت بمضغ قطنتها وهي تسحب الدخان منها في الوقت نفسه، عليّ أن أكون صريحاً، لم أرَ طريقة للتدخين أظرف من طريقتها، وبعد أن أطفأتها، قالت لي بصوتها الجاف:

– لا لااا لااااا.. الخطة أقرّت ولن تتغير.. وأنت عليك أن تكون بعيداً عن الواجهة.. نعم بالتأكيد أنت شجاع وتحب المغامرات وأنا عندي علم بهذه التفاصيل وتفاصيل أخرى.. وكل هذه الأمور واضحة.. ونحن في المجلس الأول نشكرك كثيراً لكل ما قمت به مسبقاً.. لكن هذ الموضوع نهائي ولا رجعة عنه.. فأنت معروف الوجه والتوجه ولا ينقصنا أية ثغرة.. سنوات ونحن نعدّ للخطة.. فهل الأمر واضح؟

– ولكن أنا!

– ولكن أنت ماذا!..

أجابتني بغضب شديد وصوت مرتفع، ولكنها عادت على الفور لصمتها، ثم ابتسمت ابتسامة صفراء زادت من تعكير مزاجي، ثم أضافت بصوت هادئ متزن:

– الخطة موضوعة ولك دور واحد وصريح.. لك الحق في أن تضيف وتعترض ولكن على أن تكون ملاحظاتك جيدة وتخدم الخطة.. ولذلك أدعوك بصدر رحب لدراسة الخطة بنحو أفضل ثم تعال وناقشني.. أنا متأكدة بأنك ستغير رأيك عندما تتعمق في قراءة الملفات المخصصة لها.. ولا تقلق فلا استغناء عنك أبداً.. وانتبه جيداً أي غلط قبل أن نحرز التقدم

– سيودي بي إلى السجن ثم سأجرد من حقوقي المدنية لسنتين

– وهكذا لن تستطيع الذهاب إلى حمص متى شئت

“الملعونة وما أدراها؟!” قلت في نفسي، بعد أن أنهت جملتها بابتسامة صفراء جديدة.

– المهم

قالت كلمتها ثم عدّلت من وضعية نظارتها الطبية، وأكملت تقول:

– عليك أن تنجز المهمة في غضون ثلاث سنوات

– أوووف ثلاث سنوات؟!

– أخرج من دمك عجلة الشباب كي تحقق ما تريد وما نريد.. (ثم تنهدت وأكملت).. نعم ثلاث سنوات.. اعمل على مهل أنت والشباب ريثما نشعل الجبهتين الثانيتين

– التي هي؟

– التي لا علاقة لك بها

ثم أخرجت لفافة تبغ جديدة، أشعلتها ونظرت إلي بابتسامة صفراء ثالثة، وقالت:

– كن بخير رامي قهوجي

– إلى اللقاء

ودعتها وأنا أقول في نفسي:

– يا لوقاحة جيلهم.. على الأقل نحتسي شاي.. أو ادعيني مجرد دعوة عابرة.. قال شو “كن بخير” دون حتى مقدمات.. تقليعة محترمة.. يا عيب الشوم.. لكنها تبقى صديقة.. لا بأس

خرجت من النادي الثقافي الدمشقي متجهاً إلى الشقة المخصصة للإقامة بها خلال السنوات الثلاثة القادمة، تقع الشقة في داريا، في برج يبلغ ثلاثين طابقاً وقد كان مقري في الطابق الأخير.

في الشقة انتظرت قدوم الشباب الثلاثة، في أثناء الانتظار أعددت قهوة يمنية ثم جلست خلف مكتب خشبي موضوع في غرفة مليئة بالكتب، جلست خلف المنضدة ثم بدأت أدرس ملفاتهم قبل وصولهم.

علاء الحمصي، شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، عضو في مكتب التخطيط والإعداد في الحزب العربي منذ عشر سنين، ذو ثقة كاملة بين أعضاء الحزب وبدأ منذ عام في العمل داخل صفوف الحزب التنظيمية الأولى.

إبراهيم الطويل، شاب في الثلاثين من عمره، عضو فعّال في حزب الجمهور منذ سبع سنوات ويعمل في مكتب الدعاية الحزبية، وله رصيد كبير عند الهيئة القيادية في الحزب، وقد استطاع أن يكون مسؤول الشباب الأول لديهم.

بتول السمكري، عمرها تسع وعشرون عاماً، عضوة في حزب سوريا المستقبل، تعمل باحثة في مكتب الدراسات والأبحاث، القسم الذي ينتج عشرات الدراسات التي يستحي المرأ أن يُرى وهو يقرأها، وقد رشحت منذ أربعة أعوام للانتخابات البرلمانية لكنها انسحبت من الانتخابات بعد تعرضها لحادث سير.

بالطبع كل ملف يحتوي على عشرات الأوراق، مثلاً علاء الحمصي خريج علوم سياسية، ذكي جداً، حائز على ثلاث شهادات ماجستير، له رواية كُتب على الهامش أنها فاشلة لم يبع منها سوى طبعة واحدة ثم اشترى حقوق التعديل كاتب آخر، إبراهيم الطويل خريج إعلام وصناعة تلفزيون، طويل، طويل وما أهمية هذه المعلومة، يجيد “الكيك بوكسينغ” توج مرة واحدة بطلاً للجمهورية وشارك في بطولة العرب لكنه تلقى هزيمة مخجلة في أول مبارياته فاعتزل القتال إلّا في ليلة شتوية ممطرة أمام بار في باب توما حيث اشتبك مع خمسة أشخاص أدماهم وخرج كالفحل من بينهم، كالفحل!! من صاحب هذا الخط السيِّئ والنفسية الجيدة، أمّا بتولاية الجميلة خريجة علم اجتماع، تجيد خمس لغات حيّة، وواحدة تحتضر ولكن المعلومة لم تكتب بالطبع هذه من عندي، المهم، لها بحث نشر خارج الحزب في مجلة محكَّمة فنالت عقوبة من الحزب كونها نشرته خارج منصاتهم وباسمها الشخصي، ثم عادت ونشرته في المجلة الحزبية باسم رئيس الحزب، طبعاً بعد أن أجرِيت عليه بعض التعديلات، التي يعتقد صاحب التقرير المرفق في ملف بتول، بأنها ليست من أجْرَتْها… جميل، وبالطبع لديهم صفة مشتركة، كلهم أصدقاء من الجيل الثاني، ولهذا أنا الأصغر بينهم أحظى بقيادة الفريق.

– كم أكره هذا القانون لكنه سيعدل بعد عشرين عاماً وهذا شيء ممتاز.

قلت الجملة بصوت عالٍ قاطعه رنين الجرس، نهضت نحو الباب، وما إن فتحت الباب حتى رأيت أجمل سيدة في التاريخ السوري المعاصر، هي كما يقولون “قم يا قمر حتى تجلس هالحلوة في مكانك”، سيأتي الوصف لاحقاً فالجماعة صاروا في صدر البيت.

– أهلاً بالشباب.. دعوني أتوقع.. أكيد أنت بتول

– ذكي ما شاء الله

قالت لي بتول مع ابتسامة ساحرة، لكنها لا تدري بأني تقصدت هذه النكتة السمجة كي أكتشف أهي ذات ابتسامة فاتنة أم عليّ ألّا أتخيل مستقبلاً جميلاً لنا، وأريد ممن سيراجع إفادتي في ملف القضية ألّا يحذف شيئاً منها عند النشر العام، وشكراً، المهم، أكملت أقول:

– أمّا أنت فإبراهيم الطويل كالكنية.. وأنت علاء

– صحيح

أجابني إبراهيم، ثم أردف:

 – فلنبدأ العمل سيد رامي

– رامي حاف.. قهوة؟

– بالتأكيد

وتحب القهوة بتول الجميلة، أعددت القهوة على عجل، ثم عدت إلى المكتب حيث ينتظرني الجميع، جلسنا متحلقين حول منضدة للاجتماع تشبه التي في مكتب فراس في المزرعة التي سأزورها بعد ثلاث سنوات من الآن للمرة الثانية، المهم، وفي لحظة دخولي ألقيت بيتاً من قصيدة عصماء:

– لا تُطبقي عينيكِ.. إني كم قُتِلْتُ.. ولم أزَلْ؟!

– حسين جيرود؟.. (قال علاء متردداً من صحة معلومته)

– أحسنت.. الشاعر العظيم حسين جيرود.. المهم.. جمعتكم الآن لنعلن الحرب.. وفي لحظات الحرب التضحيات كثيرة.. لذلك

ثم نهضت على قدمي وابتعدت، نظرت من النافذة ثم عدت وأكملت بصوت عالٍ متكلماً وكأني ألقي شعراً:

– في الحروب.. إياك من التقاعس.. فالضحية الأولى من نصيب الطرف الخاسر

– حسين جيرود بالتأكيد.. (قال علاء الجملة بسعادة المنتصر)

– لا.. هذا أنا.. المهم.. لنا أصدقاء في كل الأحزاب.. وبالطبع لنا في كل حزب من جبهة الأحزاب العشرين عضو داخل الحزب.. والآن نحن بحاجة إلى العمل معكم على فتح جبهة مع الشباب الطيبة

– وباقي الأحزاب العشرين؟.. (سألتني بتول)

– أنتم الأصدقاء الوحيدون الذين نلتم مرتبة عالية وثقة مع هذه الأحزاب من ضمن الجبهة

– وعادل القائد؟!.. رئيس الحزب الديمقراطي

– الأصدقاء في الأحزاب التي خارج الجبهة هم أعضاء حقيقيون وفعّالون في أحزابهم.. المهم

ثم بدأنا الكلام الفعّال، قمت بتوزيع مجموعة من الأوراق على الجميع، ففي كلّ ملف من ملفاتهم مجموعة أوراق كتب فيها مهمة محددة وجدول للتوقيت الزمني اللازم لكلّ خطوة على حدة، وزّعت المهمات، ثم أمضينا شهراً كاملاً نناقش الخطة والتفصيلات في منزلي الواقع في داريا.

***

الجبهة الثانية

(قيس قهوجي)

أعلن الجرس قدوم الصديق الوفي، فراس الفرّان، المخطط الأول، والعقل المدبر لكل شي، رجل أعمال كبير، رجل أعمال أباً عن جد، صديق من الجيل السادس، أعرق الأجيال وأقدمها، سيكون المسوؤل عن الجبهة الثانية، كان يقف أمام منزله مرتدياً بدلة الحرب التي ارتداها جده رشيد بيك الفرّان عندما أحضر ابن أخيه ممدوح الفرّان من المعتقل، في ثمانينات القرن الماضي، لا أدري كيف استطاعت بدلة قديمة أثرية كهذه أن تنجو حتى الآن، أشار لي بعصاه الخشبية ثم دخل دون أن يلقي أو ألقي السلام.

– قرأت كل الملفات؟!

– طبعاً

قال جملته بعد أن جلس على الكرسي الذي غادره رامي لتوه، ثم بدأ بسكب كوب شاي، ارتشف منه رشفة ثم قال:

– عليك أن تتأكد من كل شيء.. كل الخطوات يجب أن تكون دقيقة بدقة محرك ساعة سليمة التوقيت

– بالتأكيد.. بالتأكيد

– عليك أن تمسك الخيوط من جميع أطرافها.. وهذه ستكون قوة الخطة ومتانتها.. سننتظر الآن قدوم فؤاد ثم سنكمل الحديث

– فلننتظر

– الشاي بارد.. (قال فراس جملته ثم أبعد الكوب عنه)

– شاي جديد أم قهوة؟

– قهوة

– دقائق وسأعود

سأكمل من حيث توقفت ريثما يصل السيد فؤاد بكر.

بعد نهاية صراع السنوات العشر أعلنت الحكومة الجديدة عن تعديلات دستورية تقوّض سلطة الأفرع الأمنية، التي كان لها اليد الطولى في الخراب الحاصل، حصل التعديل بعد صراع آخر؛ فقد حافظت أفرع المخابرات على رجال أشداء داخل مؤسسات الدولة مقابل أعداء قلائل، فلم يتمكن مؤيدوه من إغلاق الأفرع وإلى الأبد، ولم يتمكن معارضوه من رفض تمرير التعديل وإبطال القرار الذي رافقه حراك سلمي في شوارع المدن والقرى، فكان الإبقاء عليها ضمن ظروف تحمي الحقوق العامة للمواطن السوري ضرورة لا رغبة.

وعلى هذا الأساس تحولت إلى أجهزة أمن محدودة الصلاحيات ذاتية الإنتاج، أو فلنقل وبنحو أكثر دقة وكأن الفرع غدا مؤسسةً خاصةً يمتلكها شخص أو مجلس إدارة، فحددت مهام الفروع وقوننت لتكون ضمن حدود ثابتة نصّ عليها الدستور، وهكذا شُكلت لجنة انبثقت عن مجلس النواب مكونة من خمسين عضواً، عضو واحد عن كل حزب أو جماعة أو تيار إضافةً إلى عشر شخصيات مستقلة، مهمة اللجنة إعطاء الترخيص أو إلغاؤه بعد جولة تصويت في جلسة مغلقة داخل مجلس النواب، وكأي قانون كان؛ فقد وضعت بنود عدّة تراقب عمل الفرع؛ فإذا خالف أحدها فستسبب المخالفة بسحب الترخيص منه ومصادرة جميع أملاكه وإلغاء كلّ عقوده وأعماله.

وهكذا ولكي تحافظ على وجودها واستمراريتها عملت أجهزة الأمن على مدار سنوات طويلة على تأمين عقود تجارية حكومية، ووسعت شبكة علاقات مع تجار ومسؤولين، فقدمت خدمات للحكومة مقابل عقود محدودة، خدمات أمنية وحماية مؤسسات وحقول نفط.

بعد الثورة السورية وصراع السنوات العشر تحول رؤوساء أفرع المخابرات إلى رؤساء شركات أمنية خاصة، ثم وعبر السنوات إلى زعماء يمتلكون امبراطوريات لها تجارتها وعلاقاتها مع دول بنحو مستقل عن الجيش أو الحكومة السورية، وهذا أساساً ما حافظ على وجودهما عبر السنوات التي لم تهدأ الأحزاب الوطنية والشخصيات المستقلة على مراقبتهم ومحاربتهم والتقليل من صلاحياتهم، وقد شكلت وزارة الداخلية السورية قسماً للتفتيش لمراقبة أعمال هذه الأفرع والتحقيق بنحو دائم من أجل سحب ترخيص الفرع، وبهذا أصبحت الأفرع خاضعة للدستور مع الأيام.

وانطلقت مرحلة جديدة بين الوطنيين وبين بقايا الأنظمة البائدة في سوريا، وقد استغلا أخطاء الطرفين والقوانين أو الثغرات الموضوعة في الدستور، ولنتكلم باختصار عن الأخطاء القاتلة لأي فرع أمن، أولاً استخدام عنف غير مبرر أو الكشف عن أي سجون سرية، ثانياً العمل ضد قوانين البلد أو ضد مصلحة البلد في الشكل الأعم للمخالفة، ثالثاً -وهو السبب الأكثر إسقاطاً لها- التخابر مع دول أجنبية والتعامل معها دون وجود عقد من الحكومة يسمح لها بذلك.

مع مرور السنوات بدأ الترهل يصيب المؤسسات التي انبثقت عن الأفرع القوية الجبارة، وأصبح إسقاطها أمراً يسيراً بعد أن كان أمراً يستحيل تحقيقه في الأعوام الاولى، فتساقطت الأفرع واحداً تلو الآخر حتى عام 2085، حيث لم يبقَ في الميدان سوى فرع مخابرات واحد يدار من قبل امرأة تُسمي نفسها “الشمس”.

منذ سنوات ونحن نحاول إسقاط هذه الشمس اللعينة ومؤسستها، وللآن لم نستطع، فكما استطعنا أن نكتسب خبرة في إسقاطهم، اكتسبت هي خبرة في الصمود في وجهنا، لا عمل مع دول أجنبية بنحو سري، عقود نظامية ضمن قوانين البلد.

استطاعت السيطرة على سوق العمل إلى حد كبير مخرجةً الكثير من الأفرع الأمنية من المنافسة حتى أعلن كثيرون عن إفلاسهم، سيطرت على زراعة القمح وتصديره، وأخذت ضمان أراض واسعة للدولة، تزرع بها الخضار والفواكه الموسمية، توزعها في السوق وتصدر منها ما أرادت، ونافست في ميدان الصناعة، واحتكرت لها عقود الحماية الأمنية وخطوط النفط، مستغلة في عملها علاقات مع تجار ورجال سياسة ومسؤولين في البلد ممن لا يزال مخلصاً للعقود السابقة من الفساد، ورغم القضايا الكثيرة التي استطعنا إمساكها على الشمس ورجالها لكنها لا تزال ضمن قانون التصرفات الشخصية التي لا علاقة لإدارة المؤسسة الأمنية بها.

ورغبة في تشتيت الشمس عن الجبهة الأساسية وتجفيف مصادرها المالية، أعلن فراس الفرّان أن الجبهة الثانية تكمن في السيطرة على عقود التجارة والتصدير التي تمتلكها الشمس ومحاولة تأميم عقود الحماية الخاصة بمؤسسات الدولة، وسيسعى إلى تحقيق ذلك بالتعاون والشراكة والتوحد في جبهة اقتصادية قوية مع الكثير من رجال الأعمال الذين أبدَوا استعدادهم للخسارة المادية مقابل تصفية أعمال الفرع المخابراتي الأخير.

وفي المقابل لعملها التجاري الأول، فقد استطاعت السيطرة، كما اعتقدت، على تجارة الحشيش في البلد، حتى الآن.

رنّ الجرس، يبدو أن فؤاد قد وصل، سأعود إليكم.

***

ساعة الصفر

(رامي قهوجي)

 سنتان ونصف ونحن نعمل ليلاً نهاراً لنقل كلّ ما نستطيع نقله من أرشيف الأحزاب الثلاثة إلى شقتي حتى غدت مستودعاً مليئاً بأراشيف كامل للأحزاب تقريباً، كانت غالبية الوثائق لا قيمة حقيقية لها، وللأسف لم نستطيع استخدام أية ورقة أو معلومة في سحب ترخيص أي حزب منهم، ومع الأيام بدأ الإحباط يتسرب إلى الفريق، فقد بدا لنا أن العمل المضني الذي نقوم بلا فائدة، حتى جاء يوم خميس على غير عادة أي خميس آخر خلال الأشهر السابقة.

إنه يوم الخميس، منذ أشهر طويلة فقد هذا اليوم طعمه كيوم يخرج فيه الأصدقاء، وقد أمضيت أيام الخميس كلها، كاملة، أعمل دون كلل أو ملل، أنا الآن أجلس في شقتي أقرأ آخر الوثائق التي وصلتني، أوزعها وأؤرشفها بنحو صحيح ومأتمت، ولم يبق لي سوى ملف واحد وأنتهي، وقد اقترب منتصف الليل، وفجأة وقبيل أن أصرخ في وجه الكمبيوتر سعيداً بانتهاء العمل رنّ جرس المنزل، رفعت جسدي ومشيت بخطوات متثاقلة نتيجة خدر أصاب ساقي.

– مرحبا

– أهلاً بالفاتنة التي

– لا وقت للغزل الآن رامي بيك

– ولم هذا الوجه التعيس؟!

– لم؟!.. لم؟!.. لأننا وأخيراً عثرنا على ضالتنا

كلَّمَتْني أول الأمر بتعاسة امرأة تخلّى عنها حبيبها في مفترق طرق معتم، حتى أنني قرفت لحظتها من اللون الذي تضعه على شفتيها، على غير عادتي، ثم قفزت وهي تنطق بالجملة التي ابتدأت بها “لأننا وأخيراً”.

– ما!! .. هاااا .. شوووو!!!

– ضالتنا

جلسنا خلف منضدة الاجتماعات ثم انتظرنا وصول علاء وإبراهيم، فقد رفضت البوح بكلمة واحدة قبل وصولهم، نصف ساعة كانت المنضدة مليئة بثلاثة وجوه مفتوحة الفم، منتظرةً أن يبدأ الوجه الرابع بالكلام.

– حزب الجمهور وكما هو مذكور في سجلاته يحتوي على نصف مليون عضو فعّال قادر على الانتخاب.. وهذا كما تعلمون يا شباب ما أعطاه الفرصة كي يفوز بثلاث مقاعد إضافية على حصته في الانتخابات السابقة.. ولكن.. ما أثار انتباهي عندما بدأت مراجعة الملفات.. ملفات الأعضاء

– راجعتِ نصف مليون ملف؟!.. (قالها علاء متحجر العينين)

– نعم الأمر بسيط لدينا دراسة كاملة عن كل شيء في الحزب حتى نستغل كل الأعضاء بأحسن وجه.. ولكن.. لدينا دراسات عن كل شي إلّا عن أمر واحد وهذا ما دعاني للاستغراب.. فشرعت أعمل.. وقد ذهلت.. ذهلت حدّ الجنون عندما علمت بأن الحزب يمتلك أعضاء كثيرين تزيد أعمارهم عن الخمسة والسبعين عاماً

– كيف!

قاطعها إبراهيم، أمّا أنا فقد اضطررت أن أعود لأرشيف الاجتماعات التي نسجلها دائماً على كاميرا موضوعة بالقرب منا، فقد كنت لحظتها شارد الذهن أبحث عن أيّ عيب فيها، في بتول، ولا أدري لِمَ! فأنا فعلاً أحب هذه المهووسة بالعمل، ولكني أحب دائماً البحث عن عيب في المتحدث كي أسخر منه لاحقاً، ولكن أسخر دائماً بلطف، فمثلاً، إنها تلفظ حرف الثاء سليماً دون أن يؤثر ذلك في لهجتها، فهي تقوم ثور بدل تور، ثوم بدل توم، وبعد ذلك أنا أمسك العادة الخفية ثم أخبئها داخلي، لاحقاً أسخر منها حتى تختفي نهائياً، المهم، فلنعد إليها.

– تخيلوا لديهم أكثر من خمسين ألف عضو فوق المئة سنة.. لذلك بدأت أشك بالقصة.. فأخذت كاميرا وانطلقت إلى منزل أحدهم في حمص.. وبدأت أتقصى على أساس أني أقوم بصناعة تقرير عن أحد معمري الثورة السورية.. يعني تقريباً عمر الشخص مئة وعشر سنوات أي كان يبلغ عمره ثلاث وثلاثين عاماً عند اندلاع الحراك.. ولكني لم أعثر له على أثر.. هو يقيم في منزل في قرية تبعد ساعتين ونصف عن قريته الأصلية.. قالت لي ابنته بأنه في دمشق.. ذاهب للعلاج.. وأعطتني اسم المشفى.. ذهبت فلم أعثر عليه.. عدت إلى القرية وقمت بزيارة النفوس.. والأمور على أفضل حال.. على قيد الحياة.. وبعد بحث طويل.. لم أعثر على أي شيء يدل على أنه ميت أو حي.. فقط

– فقط يبعث للحياة وقت الانتخابات.. ليدلي بصوته لحزب الجمهور ثم يعود لقبره.

قلت لها هذا الجملة الذكية، أو في الحقيقة إبراهيم قال هذه الجملة، فأنا مضطر أن أسلّم أشرطة الفيديو كاملة للأرشيف، ولكني تمنيت أن أكون من قالها، فلمعة عينيها عندما قال الأزعر الجملة جعلتني أغتاظ شهراً كاملاً، المهم.

– هذا هو.. تخيلوا لديهم كل هذه الأصوات.. ومن هنا نستطيع إسقاطهم من هذه الهفوة

– لا لا.. علينا أن نجمع معلومات كاملة عن كل الملفات.. يجب أن نتأكد من منهم على قيد الحياة ومن منهم توفي.. حتى لا نسقط في دوامة لاحقاً.. فإذا سلّمنا أسماء في الملف وهي على قيد الحياة فقد يعرقل هذا التحقيق.. وعلينا أن نحضر ملفات موّثقة من النفوس تدل على أنهم على قيد الحياة في هذا التوقيت كي لا تقوم الشمس ورجالها بتزوير أي ورقة وفاة لهم تعود إلى ما بعد الانتخابات الأخيرة.. وبهذا نعود إلى نقطة الصفر إضافةً إلى أن المعركة ستصبح مفتوحة.. وفاشلة.

أنا، العبقري، من قال هذه الجملة، فلم يستطع أحد أن يسبقني إليها، وقد لحقني مباشرة كل من إبراهيم وعلاء وبتول بالثناء والموافقة على الخطة، وبهذا انقسمنا إلى فريقين، فريق أخذ على عاتقه الأقاليم الشمالية والفريق الآخر الجنوبية، وبدأنا البحث والتقصي متنكرين بأزياء مخرجي أفلام وثائقية عن الثورة السورية.

وضعنا خطة لكي يكون بحثنا عشوائياً فلا يدرك أو يلحظ أو تتم ملاحقته، ولكن، اتضح لاحقاً بأن الخطة التي عمل عليها حزب الجمهور كانت بالتنسيق مع رجال الشمس، فقد تكفّل الفرع بدفع رواتب مالية جيدة للعائلات مقابل سكوتهم، وقد نقلوا جميع العائلات من أماكن سكنهم الأصلي إلى أماكن ومدن أخرى حتى لا يصبح الأشخاص الأحياء الأموات مثار تساؤل عن اختفائهم.

ولذلك كان من المنطقي والطبيعي أن تتواصل هذه العائلات مع رجال الشمس لإخبارهم بشكوك تدور حول استفسارتنا عن عدم وجودهم في المنزل، ولذلك قمنا بإعداد قوائم عن المعمرين الذين لا يزالون على قيد الحياة، من غير المنتسبين للحزب، وانطلقنا نجهز لسلسة أفلام وثائقية عظيمة، وهكذا استطعنا التغطية على هدفنا الأساسي من التصوير، إلى أن جاء خميس آخر.

***

الجبهة الثالثة

(قيس قهوجي)

– الحشيش!

– نعم الحشيش

نهض فراس على قدميه وابتعد نحو الورود وراح يقطف منها ويشمّ، كنت أجلس لحظتها على الأرض قبالة المنضدة محاولاً مد ساقي اليمنى بعد خدر طفيف أصابها، بينما أمال فؤاد ظهره ودخل في صمت عميق استمر ساعة كاملة، قاطعها بصراخ عالٍ ثم أضاف:

– هااااا.. هيك لازم يا رجال.. منذ البداية علينا أن نعدّ خطة محكمة كهذه.. وتجارة الحشيش.. تجارة الحشيش يجب بالطبع، دون تفكير، أن تكون من اختصاص وزارة الصحة.. وحصراً

– بالتأكيد

صاح فراس بعد أن التفت مرحباً بقول فؤاد، ثم عادا للصمت، قاطعه بعد دقائق قليلة فؤاد بصوت خفيف قائلاً:

– ولكن ما الفائدة إن كان القانون بحاجة إلى دعم سياسي كامل.. بالطبع أستطيع أن أجمع جبهة صحية قوية داخل المؤسسة الصحية في كل الأقاليم.. ولكن.. ولكن.. (فقاطعه فراس)

– لا تقلق.. الأمور بخير عزيزي الدكتور فؤاد.. لا تقلق.. أنا سأتكفل بكل شيء.. وأنت عليك أن تبدأ منذ الآن بإعداد الجبهة بالكامل حتى نهاجم

بالمناسبة الدكتور فؤاد مدير الصحة العامة في وزارة الصحة المركزية، وهو المسؤول عن تقديم أي قوانين صحية للتعديل في رئاسة مجلس الوزراء، ثم ترفع للتصويت، بالمناسبة القانون لا يحتاج إلى أغلبية ساحقة ليعدل، ولكن بحاجة إلى تفوق ولو بصوت واحد، والمشكلة الأساسية تقتصر بالطريقة التي سنصل بالقانون إلى مجلس النواب، ولذلك نحن بحاجة إلى جهد كبير وتكتل لا مثيل له في المؤسسة الصحية كي نتمكن من تأميم قانون تجارة الحشيش، ولكي يصل القانون إلى التصويت علينا أن نحصل على موافقة سبع من وزارات الصحة الثمانية في سوريا، الوزارات الخاصة بكل إقليم ووزارة الصحة المركزية، وقد تمكن فراس، كما قال لنا خلال هذا الاجتماع، خلال السنوات العشرة أن يكسب إلى جانبه ودّ كل وزراء الصحة في البلد ولم يتبق إلّا الانقضاض الأخير.

وهنا عليّ أن أوضح الأمر الأهم، كيف نستطيع أن نسحب الترخيص من أي فرع أمن، ولكي تصل الفكرة بوضوح، سأختصر الكلام بالشكل التالي:

أولاً، حتى نتمكن من سحب ترخيص من فرع مخابرات فنحن بحاجة إلى أن نقدم أدلة كاملة لمخالفات الفرع للقضاء ثم لجنة التفتيش حتى نصل إلى لجنة مجلس النواب المخصصة للتوصيت على إلغاء التراخيص، وبهذا نستطيع أن نأخذ الفرع إلى ما وراء الشمس الحقيقية، ولأننا ومنذ سنوات لم نتمكن من وضع الشمس وجماعتها في مكان الاتهام، على عكس باقي أفرع المخابرات، وضع فراس الفرّان الخطة البديلة التي تتلخص في تقديم مشروع تغيير في الدستور فيما يخص الأفرع.

وهنا تأتي ثانياً، ولأن الدستور ومنذ سنوات طويلة أعطى تراخيص عمل لأفرع المخابرات، وخطط قوانين خاصة تحدّ من الصلاحيات المطلقة السابقة وتراقب عملهم، فقد كان من الممكن التخلص من المؤسسات الأمنية الجديدة بنحو فردي إلى أن مضى أكثر من خمسين عاماً على القانون الصامد في وجه التعديل الدستوري الكلي، ومن منطلق ثانياً فقد أصبح لدينا أمل وحيد في القضاء على الشمس ورجالها وهو الحصول على أغلبية ساحقة في التصويت داخل اللجنة المخصص للقانون داخل مجلس النواب، فإذا صوتت اللجنة على حل نفسها فسينتقل التصويت إلى المجلس بالكامل ليكون نصف الأعضاء زائد واحد كاف للقضاء على الشمس وأفرعها وتاريخها الأسود وإلى الأبد.

وهنا نأتي لثالثاً، جبهة الأحزاب العشرين، والمكونة من ثمانية عشر حزباً وتيارين فكريين بائدين، وكما هو مقرر في الدستور ولحماية الأفرع من السقوط فقد أعطي لكل حزب مقعد في اللجنة وعشر مقاعد لشخصيات مستقلة، وبهذا تمكنت الأفرع ورجالها في المؤسسات من البقاء والاستمرار والنجاة من الانقراض مقابل تخفيف سلطتها وسطوتها استجابة لمطالب الشارع، فلم تتنازل الأحزاب العشرين عن علاقتها مع الأفرع ولم نستطع كسر الطوق المشدد الذي خلق بينهم، وهكذا كان عدد العشرين صوتاً المخصص للجبهة كفيلاً برفض حل اللجنة ولكن لم يكن كفيلاً بإبطال سحب الترخيص، وهكذا فشلنا عبر السنوات في إحداث تغير دستوري حقيقي.

وهنا تكمن الخطة في سحب ترخيص من أحد الأحزاب الثلاثة الذي يؤدي بنحو طبيعي لخسارة صوت من العشرين صوتاً لتكون نسبة التصويت بعد أن حزنا كلّ الشخصيات المستقلة إلى طرفنا، واحد وثلاثين صوتاً مقابل تسعة عشر صوتاً ما يسمح لنا بتجميد عمل اللجنة، فالأصوات لم تكتمل لتكون غالبية ساحقة ولم تكتمل لفعل قرار اللجنة، وبهذا يرفع التصويت إلى مجلس النواب الذي يكفل لنا قضاءً مبرماً.

وعلى هذا الأساس انطلقت خطة الجبهات الثلاث، سيبحث رامي وفريقه عن سبب وأدلة تقوم بسحب الترخيص من أحد الأحزاب العشرين، وستكون مهمة الجبهتين إلهاء وتشتيت الشمس ورجالها وإفقارها مادياً حتى نتمكن من الضرب في الجبهة الاولى بقوة لا مثيل لها، ولذلك كان هدف فراس محاولة السيطرة على تجارة الفرع وذلك بتقديم أسعار تكسر السوق في المناقصات، وسيقوم فراس بالتعاون مع مجموعة من الشباب الطيبة للتأكد من أن الرقم الذي قدمه المنافسون سيصل إلى الشمس، وبهذا إمّا تكسر رقمها لتأخذ العمل فتقع في حيز الخسارة بعيداً عن الربح، أو تنسحب تاركة الساحة للآخرين.

في المقابل، سيعمل فؤاد لجعل العمل على تجارة الحشيش وتراخيص العمل في هذا المجال خاضعة بالكامل لسيطرة البلد، وتعد هذه التجارة هي المورد الأكبر للشمس، وبالحديث عن هذا الموضوع؛ فقد سمح بتجارة الحشيش في سوريا قانونياً عام 2040، وأصبحت تجارة شرعية على أن تزرع بالكامل في سوريا وتخضع لمراقبة أجهزة الدولة، وقد خُصصت لها مزارع معينة من الحكومة لزراعتها، وقد استطاع جد الشمس أن يسيطر على هذه التجارة خلال الأعوام الطويلة الماضية، وإن تمّ لنا ما نريد فستخسر الشمس أكثر من خمسين بالمئة من دخلها، ولكن للحصول على قانون مماثل فنحن بحاجة إلى العمل لسنتين أو ثلاثة لنصل إلى مبتغانا وكانت هذه مهمة فؤاد.

أمّا أنا فقد كانت مهمتي متابعة عمل رامي وتأمين الموارد الخاصة به، ومراجعة العمل دورياً، كل شهر عليّ زيارتهم في الشقة كي نراجع آخر المستجدات ثم أعود إلى النشاط السياسي لنصل إلى مبتغانا، وهذا ما حصل خلال السنوات الثلاثة الماضية، حتى حصل لعلاء ما حصل.

***

الضحية الأولى

(رامي قهوجي)

كنا في صيدنايا نجري مقابلة مع أحد المعمرين، يبلغ من العمر مئة عام، أخبرنا عن المعارك التي خاضها، ثم استفاض في معركة وبدأ يشرح لنا كيف تمكن مع رفاقه من تحرير إحدى النقاط، في منتصف القصة أمال ظهره إلى الوراء ثم تنهد قائلاً “ايييييييه سأ الله” وبدأ يبحث عن شيء ما، ثم رفع صوته منادياً:

– حمودة.. تعال يا ولد.. (ثم نظر إلي وقال).. هذا حفيدي الأصغر.. يا حموودة

بعد لحظات دخل حمودة، صبي في العاشرة من عمره، لم ينتهي من إلقاء السلام حتى رحّب به جده بضربة عكازة على رأسه.

بعد نقاش عقيم دار بين الجد وحفيده استطاع حمودة أن يقنع حمودة الكبير، محمد خاونجي، بأنه موجود داخل جيب بنطاله، وهكذا بعد أن غادر الشاب الصغير أخرج العم خاونجي هاتفاً قديماً وبدأ يقلّب بين الفيديوهات حتى أخرج لنا فيديو فيه رجل أشقر يقف أمام دبابة تحترق.

– هذا أنا.. (قال العجوز)

– لكنه أشقر يا عمي

على الفور لكزتني بتول بكوعها، فالعجوز أسمر البشرة، ونحن لسنا بصدد التقصي عن الحقائق هنا، وبعد أن أسكتتني قال العجوز وكأنه معتاد على تعليق مشابه:

– كنت أشقراً في شبابي ثم سمّرتني الدنيا.. ايييه سأ الله وقت كنت أخدم مع الفرقة الرابعة

وبقي مصراً أن الفرقة الرابعة كانت إحدى فصائل الجيش الحر، دار نقاش حاد رفضتُ فيه الانصياع لنكزات بتول إلى أن خرجنا من الدار مطرودين بعد إفراغ العجوز حقده بضربات متتاليات من عصاه على رأسي.

– أكان من الضروري أن نخرج مطرودَين؟

– لا بأس.. الرجل خرفان وهذا يسقط عنه حق التصويت

– على الأقل على قيد الحياة.. ايييه.. هذا أول عجوز حي في القائمة

– لا بأس

ثم قاطعنا اتصال من علاء:

– ألو علاء باشا.. كيف الشغل في حلب؟

– ممتاز جداً.. تعال في الحال.. أو سيودع صاحبك المونديال

لم يكن صوت علاء من قال الجملة الأخيرة، بل صوت جاف حاقد أخذ الهاتف منه وبدأ يهدد ويتوعد.

– نحن بانتظاركم الآن.. تعال أنت وبتول السمكري

– بتول يا عرصا.. بدك بتول معي.. خسئت

– يا ابن القحبة.. لمَ وجع الراس.. أنت أردت أن تلعب بالنار.. تعال وأحضر صاحبتك معك ولا تسأل كثيراً فقد كان علاء متعاوناً جداً الصراحة.. ولا نريد أي وجع رأس.. فلننتهي من القصة

ثم أغلقت الهاتف بعد أن بصقت في وجهه الرقمي.

بعد عدة شكاوى ومخاوف جاءت من أهالي الأحياء الأموات، الناخب الزومبي، بدأت مجموعات تابعة للشمس تتعقب حركتنا، ولذلك وضعت بتول خطة زيارات شديدة الإحكام، وكما قالت لي بأن العشوائية تحكم الزيارات وقد استخدمت معادلة فريدج في التوزيع العشوائي للمتتاليات اللاخطية، وقد أكون مخطئاً في كتابة اسم المعادلة أو اسم العالم فأنا لا أذكر الاسم بوضوح، ولكنكم ستجدونه في شهادتها الخاصة، وبهذا أكّدت لنا بأن أحداً لن يستطيع توقع حركتنا، إضافةً إلى خطوات أضافها فراس الفرّان على الخطة، التعاقد مع مجموعة من العاملين في مجال صناعة الأفلام الوثائقية، إرسالهم في رحلات لجمع معلومات من منازل من تزيد أعمارهم عن الثمانين عاماً في كل الأقاليم السورية السبعة، إرسال المعلومات لشاب يدعى جابر كورديلو، ثم سيرسل جابر المعلومات إلى ليلى رافع المنتج التنفيذي في المشروع، كمال النبواني المشرف الأول، ووفاء الصبّاغ مديرة المشروع، ليلى رافع (صديقة من الجيل الأول) سترفع المعلومات لبتول تدريجياً لنزور المعمر المنتسب للحزب وندع المعمر غير المنتسب يترك لأحد الأعضاء الوهمين في العملية، وقد خضعت هذه الزيارات لعشوائية فريدج.

ولكن لم نكن نعلم، للأسف، أو لأكن أكثر دقة لم يخطر على بال أحدنا أن يكون أحد أولاد المعمر الفقيد من رجال الشمس، وبعد أن أصرّ الشباب، علاء الحمصي وإبراهيم الطويل، على مقابلة والده، ثم وعدهم بالعودة بعد أن يحضر والده، خرج الابن البار وعاد بمجموعة من الرجال، وقد واجهوا تعذيباً سيأتي وقت الحديث عنه.

– أمسكوا بالشباب؟!

– اي نعم.. أمسك الأوغاد بالشباب

– يا إلهي.. يا إلهي.. لم تكن محكمة خطتي

– محكمة.. ولا ينقصني أبداً.. أبداً تخاذلات عاطفية

– لا لااا.. الأصدقاء لا يسقطون

– يااااااااه.. محمود الخياط.. الاجتماع التأسيسي الرابع

– نعم نعم.. إني أحفظ كل أقواله.. ولكن!

– لا لااا.. بالتأكيد محكمة حبيبتي.. ولكن يبدو أن لديهم الآن تورنغ خاص بهم

– من!

– من استطاع أن يكسر شيفرة الألمان في الحرب العالمية الثانية.. عرص ماكن من عرصات العبقرية الكومبيوترية.. تخيلي أنه استطاع

– الآن وقتك ووقت تخيلي.. أخو حازم بيك.. علينا أن نفكر في المشكلة

– فكر.. فكر.. فكر.. (كلمت نفسي وبدأت أهزّ رأسي)

– فكر وأرني براعة الجيل الخامس

كان التفكير سريعاً، لم ننتظر أو نُضِع وقتاً، ركبنا السيارة وانطلقنا، في الطرق أخبرت قيس أن يختفي حتى نتبين ما القصة، فالغريق لا يتعلق بقشة، بل يقتل كي ينجو من الغرق، وبالتأكيد لم يكن قيس ظريفاً عندما أخبرته متقبلاً للفكرة.

– ارجع وكفاك صعلكة.. سيقتلك رجال الشمس

– أنا عند الرستن وسأكمل.. إلى اللقاء

ثم أغلقت هاتفي النقال حتى لا أتلقى أي هاتف مزعج.

نظرت إلى بتول، ابتسمت مستخفاً من خوف قيس وقلت بلا مبالاة:

– لا أستطيع التسكع بعيداً.. ولن أترك الطريق العام يقتلني.. فهو لا يأبه لبصاقي وصراخي.. بل سأكمل.. سأكمل وألاقي الأوغاد.. الأوغاااااااد

– حسين جيرود؟

– نعم.. ولكن بل سأكمل من تأليفي.. عظيم هاااا؟

– وقت الشعر لأنو

– الشعر في كل وقت.. حتى وقت السكر والموت

– ممممممممم.. لنرى

أنهت بتول جملتها وغرقت في صمت طويل لم ينتهي حتى غروب الشمس، حيث كنا نقف أمام المنزل الذي اتفقنا أن نلتقي فيه، ضربت الباب ثلاث مرات ثم عدت إلى الوراء.

– أتعلمين

– قل

– سأخطبك عندما ننتهي من القصة

– بكير يا بعدي.. فلنبقى على علاقة عشر سنوات أخر

في الحقيقة لم يكن جوابها هكذا، هذا الجواب الذي تمنيت سماعه.

– هذا وقت الكلام الفارغ؟!

هذا كان جوابها الحقيقي، المهم، أنهت جملتها مع صوت المفتاح وهو يلتف داخل حجرته، ثم فُتح الباب وخرج منه رجل أعتقد ولن أكون مبالغاً أبداً إن قلت أنه يبلغ ثلاثة أمتار ونصف، نظر في وجهنا بقرف ثم بصق على جنب، وبعدها مباشرة أمال جسده وأخرج كل ما تحتويه معدته، ثم استوى وقال بصوت عالٍ حاد كصراخ امرأة تلد:

– الصعلوك وصاحبته هنا.. أهلاً

ثم أشار لنا أن ندخل، يتكون المنزل من ممر طويل وعلى طرفيه أبواب مغلقة كثيرة، بابين متقابلين كل ثلاثة أمتار، وأعتقد أن الممر كان بطول عشرين متراً أو أكثر بكثير، لا لا بل كان أربعين متراً، سرنا خلفه حتى آخر الطريق، ثم فتح باباً في نهاية الممر وأشار لنا بيده كي ندخل، عند عبوري الباب قام بضربي على مؤخرة رأسي فألقاني على الأرض، ثم أشار لبتول أن تدخل قائلاً:

– بليز ست الكل تفضلي

غادر “فسوة” بعد أن أغلق الباب، نعم “فسوة” هو اسمه كما سمعت لاحقاً، في الغرفة لمحتُ وجه علاء المحطم، عين زرقاء وعين مغلقة، وقد لفت يده اليسرى إلى رقبته، وعند رقبته آثار لحرف العين، الانتفاخ والاحمرار المحيط يدل على أنه وسم منذ وقت قريب.

– مرحبا شباب.. (قلت بصوت واثق)

– الصعلوك رامي قهوجي.. أهلاً وسهلاً.. وصاحبته بتول.. يا عيني ع ها الجمال يا عيني

صحيح، في الغرفة أيضاً رجلان، أحدهم قزم ذو لحية طويلة وشامة سوداء مشعرة على أنفه، وقد بقي صامتاً حتى قامت القيامة، والرجل الثاني متوسط الطول ذو أكتاف عريضة جداً ولكن الكتف الأيمن مرتفع عن الأيسر بشكل واضح ومضحك، ولعينيه لونين مختلفين، وقد حلق شاربه كشارب هتلر.

جلس الرجلان على منضدة خشبية مهترئة، عليها آثار طلقات نارية، وحريق على أحد أطرافها، وآثار للمتة والشاي، وأمام المنضدة يجلس علاء مبتسماً وقد بدا بأنه تخلص من ضربهم منذ قليل.

عندما رحب بنا فشكة وبينما كنا ندخل الغرفة، هكذا دعاه فسوة لاحقاً، ضرط بقوة جعلتنا نتعثر بخطانا فالموقف كان غريباً، وبالتأكيد لم يحرك القزم ساكناً، فقط بصق من فمه، بعد أن تحول وجهي لتعبير يدل على أن الرائحة أزعجته بشدة.

– شو يا أستاذ رامي.. أزعجتك الضرطة.. صعلوك وتقرف؟!

– أولاً الصعلوك لا تعتبر مسبة يا جاهل.. ثانياً وهي الأهم بتول خطيبتي وليست صاحبتي.. مفهوم؟.. احترام قليلاً يا بهايم

لم يتكلم الرجل بعد بهايم، للأسف، بل وقف وسار نحوي، ثم وجّه لكمة قوية، قمت بصدها وردها بيدي الأخرى، فأصبته على فمه وجعلته يترنح ويتراجع، فوقف القزم وصاح وركض نحوي ثم قفز حتى غدت قدمه ملاصقةً لرأسي وركلني على وجهي فارتميت أرضاً بالقرب من علاء، ثم عاد إلى مكانه قبل أن يفتح فمه.

– تفضلي بتول خانم.. اجلسي.. (قال فشكة لها بعد أن بصق دماً من فمه)

– شكراً لك

جلست بتول بالقرب مني وهي تصدر صوت قرقعة من فمها لتسخر مني ومن منظر وجهي الملطخ بالدم، وما إن استقرت على الأرض حتى اقترب فشكة وقام بتكبيلنا بأصفاد مشتركة ثم عاد إلى موضعه الأول، بعد أن جلس الجميع في مواضعهم دخل فسوة ومعه حديدة الوسم وموقد كهربائي، وضعهما على الأرض بالقرب من المنضدة ووصل السخان إلى الكهرباء، وقال في أثناء ذلك:

– يبدو بأن الفروج الذي أكلته خربان.. ما هذا يا رجل!.. ألم مزعج في المعدة.. عليّ زيارة الطبيب اليوم.. سأغادر.. إلى اللقاء

– انقلع.. وأحضر معك علبة متة

– حاضر.. والزعيم أيريد شيء؟

كان يقصد القزم بالزعيم، لكن الزعيم أشار برأسه بالرفض ثم بصق ونظر إلى وجهي، فبادلته بابتسامة صفراء، ثم مسحت الدم من فمي، وقلت:

– طيب.. لماذا لا نزال هنا؟!.. أين جماعتكم؟!

– وتريد أن نأخذك للسجن ونورط الفرع بكم؟!.. أتعتقد بأن هذا الكمين السخيف لم تجربوه مسبقاً؟!

– هااا.. لهذا لا يزال علاء محتجزاً في هذا البيت الحقير.. وما المطلوب؟

قالت بتول الجملة بصوتها الرقيق، لكني قاومت شرود الذهن هذه المرة، ثم أكملت عنها:

– هل أخبرتم الفرع عنا؟.. أم تريدون المال؟

– يا صعلوك.. يا حمار.. أتعتقد بأننا قررنا من أنفسنا المراقبة وانتظار قدوم أحدكم إلى أحد أحبابنا الناخبين كي نأخذ المال.. هذه الأوامر من أعلى إدارة في الفرع..

قاطعته:

– ستقتلوننا؟

– لا.. شو نقتلكم.. له يا رجل.. عيب.. سنستضيفكم قليلاً ثم نرسلكم إلى أمهاتكم بعد أن نتفق

ثم قاطع نفسه الظريفة وعاد لنفسه اللئيمة:

– طبعاً سنقتلكم يا أوباش يا حيوانات.. ولكن ليس قبل أن نأخذ منكم كل المعلومات.. والتعذيب مهنتنا يا أكابر.. ولكن قل لي كيف اتفق وصار لك ما صار.. صعلوك وتعمل مع الشباب الطيبة

– الصعلوك يا غبي هو من اعتزل عالم التكنلوجيا وعمل بمهن بعيدة عن النظام المالي الغبي.. ونحن من أطلق هذا الاسم.. في عام ألفين وخمسين

لكنه قاطعني قبل ان أكمل الجملة:

– لك كول خرا.. هذا ما كان ينقص.. محاضرة في التاريخ

– بالمناسبة إبراهيم الطويل في منزل آخر

– إبراهيم أيضاً!

– بتول تقصد.. من إبراهيم هذا؟!.. لا نعلم عنه شيئًا

بالمناسبة، لقد اتفقنا أنا وبتول أن لا نأتي على ذكر إبراهيم، لعله استطاع النجاة بنفسه قبل أن يلاحظوه، وهذا سيعطينا أولوية ما، وأنا لغبائي الشديد نسيت أن أعطي عنوان المنزل لقيس، وبهذا غدا إبراهيم فرصتنا الوحيدة للنجاة.

– إنه في بيت مشابه لهذا البيت.. وبالتأكيد يجري التحقيق معه.. لكنه صلب البنية كالجحش.. لذلك للآن لم يعترف بأي معلومة لكن لا بأس فالشرس مسؤول عن تعذيبه

– يبدو بأننا علقنا مع مجموعة بهائم.. (أضافت بتول ضاحكة)

– شباب بلا مستحى من حضرتكم.. أيستطيع علاء أن يستحم لقد اختنقت من رائحته

قلت الجملة بعد أن لكمني فشكة على وجهي بسبب كلمة بهايم التي نطقت بها بتول، بالمناسبة يبدو أن الجماعة قد تبوّلوا على علاء قبل قدومنا، وقد ذبحتني رائحته لدرجة أنني لم أعد أستطيع احتمالها ويا ليتني استطعت، فقد فقدت ضرساً غالياً على قلبي، فكافور، اسم القزم بالمناسبة كافور، نهض بسرعة برق لا صبر لديه وخلعني لكمة جعلت الدوار من رائحة علاء يذهب مباشرةً بعد قولي “من رائحته”.

– المهم يا شباب.. أولاً.. أنت تدعى رامي قهوجي من الجيل الخامس ابن الحبيب والصديق والأخ السياسي المناضل قيس قهوجي

– نعم

– اي كس اختك عاختو

– تسلم يا طيب

– وأنت بتول السمكري.. من الجيل الثاني.. الثاني وقد سلموك مهمة كهذه.. برافو.. أحسنت يا غالية.. والدك.. والدك.. والدك

يبدو أن ذاكرته خانته عند هذه النقطة، ثم أكمل دون ذكر بعض صفات والدها:

– أريد أن تخبروني بالفريق الذي يعمل معكم كاملاً.. وكل المعلومات التي لديكم.. وموقع عملكم.. وماذا أيضاً يا شباب؟

– الهدف من العمل.. (أجبته)

– لا يا غبي.. الهدف معروف

لم يكمل جملته، سمعنا طلقتين ناريتين تبعهما أصوات أبواب تفتح وأرجل كثيرة تتحرك، ثم بدأت أصوات صراخ عالٍ ينطلق من الخارج، وكأن شجاراً قد اندلع، ثم زاد الصراخ ولكن بدأت الأصوات تبتعد وتختفي خلف جدران ظلام ذلك المساء، حتى أصبحت تبدو بعيدة ولا تفهم.

نهض القزم ثم اتجه إلى الباب، خرج وأغلقه خلفه بعد أن أشار بوجهه لصاحبنا فشكة أن يأخذ حذره.

– كافور هو الزعيم؟

فكر قبل أن يجيب، ثم قال:

– نعم.. تقريباً.. لنا الرتبة نفسها ولكن

– ولا يزال لكم رتب في الفرع؟

– بالتأكيد

ثم صمت وكأنه شعر بأنه يخبرني أكثر مما ينبغي، ثم بدأنا نسمع أصوات إطلاق نار عالية بعد أن اختفى الصراخ، في هذه اللحظة كنت أحاول إقناعه بفك قيدي مقابل المال الذي يريد، لكنه رفض وبشدة عجيبة، عدنا إلى صمتنا واستماعنا لأصوات إطلاق النار.

– لن تشارك في المعركة؟!

– لاا لاا.. فأنا عندي.. (ثم قاطع نفسه بنفسه).. اخرس يا بجمة.. قبل أن

ثم انشقت الأرض وقاطعتنا جميعاً، خرج منها مسنَّن مخروطي كبير، يبلغ قطره متراً واحداً، ثم خرج المسنن كاملاً وبدا من ورائه رجل أشاهده أول مرة، يمسك بمقبضٍ عرضي ملتصق بمؤخرة المسنَّن، لم يحرك فشكة ساكناً فقد كان، كما نحن، متحجر العينين فاغر الفم، يشاهد المشهد العجيب بدقة متناهية.

خرج الرجل من الحفرة مُسلحاً وتبعه قيس على الفور

– قيس!

– ألم أقل لك لا تذهب!.. سنناقش هذا لاحقاً

– أبي!

نظر إلي قيس وعينيه تقدح شرراً، فمن الممنوع أن أقول “أبي” في عملية وفي أثناء وجود الغرباء، فإن اكتشف الشباب هويتي فلا ضرورة أن تُكشف هويته، بل هذا الخطأ سيدخلني في جولة تحقيق لاحقاً، وبالطبع لم نكن نعلم، وكيف لنا أن نعلم، أن الغرفة مراقبة بأكثر من أربع كاميرات، ويا ليتنا لم نعلم.

المهم، بينما كنا نتشاجر رفع دياب ظريف، الرجل، مسدساً في وجه فشكة ثم أمره بأن يفكّ قيدنا، ثم قيده وأغلق فمه بقطعة قماش أخرجها من داخل علبة كانت موضوعة في بنطال جيبه، وبعد ثوانٍ من وضعها في فم فشكة سقطاً نائماً.

هبطنا في النفق وسرنا قرابة المئتي متر ثم صعدنا في حفرة مشابهة كالتي في الغرفة تلك، عند الحفرة انتظرتني يد ممدودة كي تحملني خارجها، وإذ أكتشف عند خروجي أنها يد “فسوة”.

– فسوة؟!

– عدي.. طارق عدي من فضلك

– إنه من الأصدقاء

قال لي والدي بعد أن ربت على كتفي ثم أكمل:

– الحمد لله على سلامتكم يا أولاد

غادر طارق عدي خارج الغرفة التي في منتصفها بالتمام تقع الحفرة التي خرجنا منها، غرفة واسعة لدار أرضية تقع قبالة بناء الفرع، ولا يفصل بين بنائنا وبنائهم إلّا شارع باتجاهين، نظرت عبر النافذة مشدوهاً مما شاهدت.

وقد سيطر على عقلي تساؤل واحد:

– كيف استطاع قيس في وقت قليل أن يعرف أين نحن ويحفر هذا النفق!

 في اللحظة التي نظرت بها عبر النافذة أخرج قيس من جيبه هاتفه النقال وأرسل رسالة صوتية قال بها:

– انتهت العملية.. يعطيكم العافية يا أصدقاء

ثم توقف إطلاق النار على الفور، كالسحر، وبدأت تصل سيارات الشرطة وحاصرت المقر الخاص بهم، وبينما رحنا نتابع دخل طارق ومعه إبريق شاي ومجموعة من الفناجين النظيفة.

– تفضلوا.. الشاي جاهز

***

عملية الإنقاذ

(قيس قهوجي)

– رامي المتصل؟

– نعم رامي

– وهو في طريقه إلى مارع إذن

– نعم إلى مارع

– من الجيد أنك لم تطلب العنوان الذي اتفقوا عليه

– بالطبع لااا.. تخيل أن أخطئ خطأً كهذا يا رجل.. الأمور تحت السيطرة لا تقلق

كنّا أنا وفراس الفرّان مجتمعين في مزرعة الرحيبة عندما اتصل بي رامي ليخبرني بما جرى مع إبراهيم وعلاء، لا أدري هل يعتقد رامي بأننا لا نمسك بكلّ خيوط القصة! بعد أن عملنا سويّةً في عشرات المهام تحت قيادة فراس، ولكن يبدو أن المشاعر لا تزال تتغلب عليه في الأوقات الصعبة، للأسف هكذا هم الشباب.

المهم، كنّا قبيل الاتصال نتشاور حول اعتقال علاء واختفاء إبراهيم، وقتها لم نكن ندري ما الذي حلّ بإبراهيم؛ فبعد أن عاد ابن المعمّر برجال الشمس اصطدم بهم إبراهيم رافضاً الانصياع واشتبك معهم بالأيدي تاركاً الفرصة لعلاء كي يحاول الهروب، وقد اتفقا على هذه الخطة في حالة انكشف أمرهما، وهذه القصة ستأتي في وقتها لاحقاً، ولكن أعتقد.

أو سأقصّ عليكم القصة بشكل مختلف.

تمّ الإمساك بعلاء وإبراهيم، ونحن مثل أيّ لاعب آخر في هذي الحياة له أوراق كثيرة يخفيها كي يستخدمها لحظة تصارع الأقدار، وإحدى أهمّ الأوراق التي في حوزتنا هم رجال من الجيل الأول يعملون في كلّ الأماكن الفاسدة في البلد، في كلّ مكان دون مبالغة، رجل من الجيل السادس مسؤول عن هذه الشبكة العملاقة، وأنا مرشح يوماً ما لأكون في موضعه، وعندما أقول كلّ مكان فأنا أقصد الأفرع الأمنية والأحزاب وبعض الشركات والمؤسسات، مؤسسات خاصة وحكومية بالطبع، وبالتأكيد كان لنا في كلّ مركز أو مقر أو مصنع أو معمل للشمس رجل من الأصدقاء.

ولأنهم أصدقاء من الجيل الأول، فهوياتهم سرية حتى للأصدقاء إلّا بعض من يعمل معهم، ولا تُكشف هويتهم للعلن حتى تنتهي مرحلة الإعداد، ولأكون أكثر دقّة أو بساطة فإن أكثر ما ساعدنا على إنجاح الزراعة هي المؤسسات، نعم المؤسسات، فرغم خبرتها في البقاء والاستمرار والفساد والإفساد لكنها لا تزال تحتفظ بأسلوب اختيار الأفراد ذاته، الأسلوب القديم البائد، فالرجل المناسب غالباً لا يشغل المكان المناسب فيها، مع بعض الاستثناءات لأكون أكثر صدقاً، وفي جُلّها بقيت المراكز المهمة والمناصب الكبيرة لعوائل أو أفراد بعينهم، ولهذا وللأسف لم نتمكن بالتأكيد من زراعة رجال في مناصب حساسة، وقد ورثت الشمس الأسلوب من جدها الأكبر، فالمناصب الحساسة لأشخاص معينين موثوقين عملوا معه ثم ورث أولادهم ما كسبوه هم من مراكز وأموال وتناقل أفراد الأسرة الإرث معهم.

المهم، وكي لا أشتتكم سأكمل القصة، في مارع لنا رجل يدعى طارق عدي، أو كما أسموه “فسوة”، شاب في الثلاثين من العمر، صديق منذ عشر سنوات، من الجيل الأول ولكن كما قلت لا يزال في طور القبول، وبالتأكيد سنوات الطور متراوحة، وحتى عملية الإنقاذ كانت لا تزال هويته الحقيقية مخفية، هو بالتأكيد يتعامل بهويته الحقيقة أمام رجال الشمس ولكنهم لا يعلمون ما يخفي في قلبه، حتى جاءت لحظة الحقيقة، فاتصل بنا وأخبرنا بما جرى، ثم أكمل العمل على أساس الخطة البديلة المستخدمة دائماً.

أمّا ما هي الخطة البديلة؟

هي خطة لإنقاذ من يسقط في يد الشمس، وضعها سالم كوكش، من الجيل السادس بالطبع، وضابط متقاعد، تتكون الخطة من ثلاث خطوات، أو أربع أو خمس على حسب الظروف الطارئة، أمّا في ذلك اليوم فقد اعتمدنا الخطوات الثلاث لحسن الحظ.

 ولمَ هذه الفروق في عدد الخطوات؟

الجواب بسيط، هذا التعداد يتمّ وفقاً لما يعتمده رجال الفرع من إجراءات عند القبض على غريمٍ لهم، فهم يضعونه في القسم الذي اعتقلوه فيه حتى تجري له التحقيقات الأولية، إن لم يكن معروف الهوية، ثم يحوّل للقسم الرئيسي في الإقليم بعد التحقيق، أو يحوّل فوراً إن عرفت هويته أو كان مصاباً دون أن يمرّ بالقسم الفرعي، ثم يرسل إن كان ذلك ضرورياً إلى القسم الرئيسي في العاصمة دمشق بعد التحويلين الأولين أو يرسل فوراً إلى دمشق إن كانت الشمس قد رفعت باسمه تقريراً كاملاً، وكان لخطره تأثير من الدرجة الأولى.

ونقل المعتقل إلى دمشق من القصص النادرة جداً، طبعاً كل هذه التحويلات والتحقيقات ممنوعة قانونياً، إلّا بأمر قضائي أو مهمة متفق عليها، ورغم تكرار أفعال مشابهة من رجال الشمس لم نتمكن حتى الآن من إسقاطها، ولكن لأكون أكثر تفاؤلاً فقد استطعنا إغلاق بعض الأقسام المخالفة أو وضع بعض رجالها في السجن؛ فالقانون الدستوري واضح وصريح ومباشر، كما قال لنا القاضي شكيب عرفة يوماً:

– تُحدَّد المخالفة وفقاً لمرتكبها وعلى هذا الأساس يتم اختيار العقوبة.. فإن كانت من المؤسسة الأمنية فالعقوبة عامّة.. وإن كانت فقط فعلاً متهوراً لأحد الأفراد أو الأقسام، فتكون العقوبة وقتها على عاتق فرد أو جماعة أو قسم داخل المؤسسة.

عودة للخطة الموضوعة، الخطوات هي:

أولاً، استنفار كافة الأصدقاء المفروزين للخطة في المنطقة التي جرت فيها الحادثة، ثم إرسالهم للتجمع في أحد منازلنا في الجوار، وقد كانت مارع هي المنطقة المحظوظة، وبالمناسبة لتسريع أي عملية فقد طلبنا من رامي وإبراهيم أن يخبرنا كل منهم ما الهدف في اليوم التالي حتى نكون على أهبة الاستعداد، وبالمناسبة هم لا يعلمون بهذه الخطة خوفاً من أي ارتباك في أثناء التحقيق فتذهب استعداداتنا أدراج الرياح، ولهذا أشار عليّ فراس بأن لا أطلب العنوان من رامي، فيكون مستعداً لتدخل مفاجئ يقلب الطاولة.

وهكذا كان الجزء الأول من خطوتنا الأولى استنفار الشباب، أمّا الجزء الثاني فهو انطلاقنا أنا ودياب ظريف بطائرة خاصة إلى حلب ثم مارع، لإتمام المهمة في أسرع وقت ممكن، حتى قبل أن يعلم رامي بالقصة، لنجهز للخطوة التالية.

ثانيًا، هااا هاااا، وهي الأهم وكل الاعتماد عليها، ولكي أشرحها لكم عليّ أن أجيب عن السؤال التالي:

لمَ دياب ظريف هو، وفقط هو، من سيذهب معي؟

الإجابة وبكل بساطة، هو خبير حفر أنفاق، ومالك شركة الحفارات السورية الألمانية، الشركة الأهم كما تعلمون، وقد خصصنا أهم حفارة في العالم من أجل مهام مشابهة، سيقوم طارق عدي بإشعال جهاز تعقب في المنزل حتى لا نخطئ العنوان أنا والشباب المستنفرة، وسنأتي لذلك قريباً.

ثالثاً: إثارة شغب خارج الموقع المستهدف، سيتجمع الشباب أمام البناء، ثم سينطلق شجار يتحول لإطلاق نار، لاحقاً ستشتد الاشتباكات حتى تغرق الحي ببحر من الضوضاء العظيمة، وهكذا سنفرغ المنزل المستهدف، وسنزيد التشتت الذهني الذي سيصيب السجانين ويوقعهم في ارتباك لا نظير له، وسنقلل عددهم في الداخل إلى أقل ما ممكن. ثم نحفر النفق حتى نصل إلى موقع الإشارة الموجودة، بالطبع بدأنا الحفر قبل وصول الإشارة فنحن نعلم أين المقر ولكن لم نكن نعلم في أي غرفة سيكون رامي والشباب، ولذلك حفرنا حتى بداية البناء ثم انتظرنا الإشارة من طارق، التي زرعها في الغرفة المستهدفة، وبعدها حفرنا حتى غدونا أسفل الهدف، وقبل الانقضاض سنعطي الإشارة للشباب كي يبدؤوا المشاكل، ثم سننتظر إشارة منهم تؤكد بأن الهدف قد أكل الطعم، ثم سنحفر شاقولياً لنخرج من النفق ونحرر الشباب ونعود أدراجنا.

وهكذا زرع طارق جهاز التعقب في الموقد الكهربائي الذي أدخله إلى الغرفة، ثم غادر متذرعاً بوعكة صحية أصابته، وقد طلب منه ألّا يكشف هويته لرامي والأصدقاء مهما جرى، حتى ولو كان الموت نصيب أحدهم، ثم خرج واتجه بسيارته إلى شقتنا القريبة من الحدث.

في هذه الأثناء وصل العشرات من الأصدقاء وتجمعوا بأسلحة الصيد في موقع بعيداً عن الفرع في مارع، ثم أرسلوا ثلاثة شباب ادعّوا السكر، تشاجروا مع الحراس، فطردهم الحراس بعد مجموعة شتائم لا تذكر هنا، وبعد أن طُردوا توعدوهم بالقصاص، وهكذا بدأ الشباب يطلقون النار من بعيد بأسلحة حقيقية مليئة بأعيرة مزيفة لا تجرح أرنباً.

هكذا بدأت الاشتباكات واستدعيت التعزيزات واشتعلت المعركة الزائفة، ولكي نضمن عدم إصابة الأصدقاء بأيّ أذى اشترينا المرهم المضاد للرصاص، الذي كلّف ثروة بالمناسبة، هذا مرهم يُعدّ من أحدث التقنيات العسكرية الهندية، إذا دهنه الإنسان فإنه يشكل طبقة جلدية جديدة أعلى الجلد الأساسي، تعمل الطبقة الجديدة مضاداً للرصاص لا مثيل لقوتها، فعند اصطدام الرصاصة بها ترتد دون أن تحدث خدشاً واحداً ويبقى التأثير مقتصراً على الرضوض وكأنها رصاصة مطاطية.

وفي المقابل عملنا مع الصديق الدكتور فوزي الشلق محافظ مارع على تأخير وصول قوات الشرطة مدة نصف ساعة، حتى نستطيع إنهاء المهمة ثم الانسحاب بنجاح، ولأن المعركة دون أي قطرة دم ستدون في السجلات من فعل مجهول وستعد على أنها أعمال شغب، ولاحقاً سيتم إحضار الشباب الثلاثة السكارى إلى القضاء ليسجن كلّ واحد بحدود الثلاثة أشهر بعد أن يتم التأكد بأنهم لا يعلمون شيئاً عن ليلة المعركة، وهم فعلاً لم يشاركوا؛ فمن يثق بسكران يحمل بندقية، لذلك بعد أن أنهوا المشاجرة نُقلوا إلى حلب بسيارة مرفهة.

وهكذا دخلنا بسرعة وخرجنا من الغرفة بخمس دقائق، كما ذكر الأزعر رامي في قسم شهادته، ثم عبرنا النفق المزود بآلة سحب، تفرغ التراب الناتج عن الآلة في أثناء الحفر ثم سُحبنا خارج النفق بسرعة لا توصف، ولن أنسى الإحساس الرائع الذي أعطتني إياه، يربط بها الرجل بحبل ثم يستلقي على غطاء معدني مرن يستطيع الإنسان ثنيه كالمطاط، ويفرد ليكون صلباً بقوة جبل قاسيون، المهم استلقيت عليه ثم سحبت وكأني أمتطي بساط ريح عظيم.

أمّا فيما يخص الوقت الذي أنهينا به المهمة منذ اختراق الغرفة حتى هروبنا فتقريباً خمس وعشرون دقيقة، وفي اللحظة التي خرجت فيها أرسلت الإشارة المتفق عليها ليهرب الشباب قبل وصول الشرطة بدقيقتين تقريباً، وللعلم والمعرفة والتاريخ والأرشفة فالنفق يبلغ طوله خمسمئة متر وعرضه متر واحد.

– فسوة؟!.. (قالها رامي مستغرباً من وجود طارق معنا)

– عدي.. طارق عدي من فضلك

– إنه من الأصدقاء

قلت له بعد أن ربتّ على كتفه، ثم أكملت:

– الحمد لله على سلامتكم يا أولاد

بعد أن احتسينا الشاي وانتهينا من تجهيز أنفسنا، قال لنا دياب:

– هيا لا وقت لدينا لنضيعه

ثم خرجنا من الدار إلى حيث تنتظرنا المركبة، وانطلق بنا طارق عدي ونحن نتنفس الصعداء سعداء بالنصر المؤزر، لا ندري ما المصيبة التي تنتظرنا، مصيبة سترتب لها الشمس في الساعات القادمة وستصلنا على شكل رسالة مكتوبة بخطها لتقرئنا السلام ثم تنقل لنا تطور الأحداث، التي ستحيلنا لمطاردين أنا ورامي والشباب الآخرين.

– من أنت؟

سأل رامي طارق ونحن في طريقنا إلى دمشق، فأجاب وهو يقرع صدغه الأيسر بسبابته اليسرى:

– أنا الصديق طارق عدي

– من فسوة إذن؟!

– أحد رجال الشمس بالطبع.. (قلت له ساخراً)

– نعم نعم.. أنا أحد رجالها الأوفياء

– خازوق مبشَّم أكلت الحجة.. (أضاف علاء وصوته يتقطع من الألم)

– يوجد الكثير من طارق عندنا داخل الفرع

لحظتها سألت بتول بصوت أنثوي لطيف جعلني أكتشف سبب رغبة ابني في خطبتها:

– ولماذا لم تستخدمهم في حربك!

– لااا.. لا يمكن أبداً.. كلهم من مستوى فسوة

ثم دخل الجميع في موجة ضحك قاطعها رامي:

– الله يرحمو

– عفواً!

– رحم الله إبراهيم.. قتل وهو يدافع عن نفسه رافضاً الاستسلام

– إبراهيم توفي؟

قالت بتول الجملة بصوت مخنوق، بينما غرق رامي داخل قوقعة صمت أعرف ماهيتها جيداً، في ثوانٍ معدودات راح القلق يحلّق في الأرجاء منتظراً الانقضاض على فريسة ينهش عينيها بدموع الخوف والجزع، لكني أخرجت هاتفي النقال قبل أن أضطر لرؤية مشهد مقرف، وبعد لحظات من العودة إلى السجل الطبي الخاص بإبراهيم صحت بأقوى ما أملك طارداً اللعين من حيّنا.

– مستحيل.. (ثم أردفت بعدها بصوت هادئ متزن).. لا أزال أستقبل إشارة من الخلايا الإلكترونية.. كل المؤشرات الحيوية جيدة.. دقات القلب منتظمة.. السكر.. الكريات الحمر والكريات البيض.. ووو.. ولكن بالطبع لا يزال الكوليسترول مرتفعًا قليلاً ولكن في المستوى المقبول.. ثم.. (وسكتت)

– قل!.. (صاح رامي)

– يبدو أنه نائم.. أو فاقد للوعي.. لا إشارات حيوية من دماغه عن عمل أعصاب الرؤية.. ولكنه قد فقد القليل من الدم.. هو بخير.. فقط عدد الخلايا الإلكترونية ناقصة بنحو مقبول.. لا بأس.. لا خطر على حياته.. فهو كما يبدو قادر على

– أنا جائع

 قاطعني رامي بعد أن نفخ من فمه إرهاق سنواته الطويلة في العمل معنا.

– سوف تأكل.. (أجابته بتول، ثم أكملت) ما الذي جرى معكم علاء

– قصة طويلة

– كلنا آذان صاغية.. (قلت)

– لا بأس.. سأبدأ من حيث بدأت تتداعى الأمور.. كنّا في منزل معمّر يدعى أبو رباح.. رجل مقيم في مارع منذ سبع سنوات.. أي منذ سنة وفاته المتوقعة.. طبعاً كالعادة لم نستطع أن نعرف من أي البلاد هو.. هوية جديدة له ولعائلته.. فقد نقلت العائلة نفوسها منذ أن وصلت إلى مارع.. ولذلك لم نستطع أن نعرف من أين هو أبداً مع أني خبير لهجات ولكن كل شيء يبدو كامل التحضير.. لذلك وكالعادة لم نستطع التعرف على أي أحد من معارفهم القدامى.. سمعتهم جيدة في مارع ولكن كما تعلمون دائماً يقول الجيران.. همّ في حالهم لا يزعجون أحداً ولا أحد يزعجهم ولا علاقات لهم في المدينة.. حالة المنزل جيدة جداً.. أثاث جيد.. ويبدو عليهم البحبوحة.. كل العائلة تعمل.. كل العائلة تتقاضى أجوراً جيدة.. ولا ندري كم تتقاضى حتى تُبقي سرها محبوساً داخل تلك الجدران.. بينما كنا نجالس ابنة المعمّر الكبرى دخل شاب قوي البنية طويل القامة له بطن كبير وصدر متراجع إلى الوراء وكأنه عالق بوضعية رجل تلقَّى كرة قدم على صدره فعاد إلى الوراء كي يمتص الضربة.. المهم.. جلس ورحَّب بنا.. ثم بدأ يسأل أسئلة كثيرة.. أولاً من أي القنوات نحن؟.. شركة خاصة؟.. ماذا تريدون أن تعلموا؟.. هو بأسوأ أيامه وصحته متدهورة.. أكد لنا أنه في المستشفى.. ثم في دار رعاية.. ثم عند أحد الأقارب ثم في منزل آخر في مكان أقل برداً في الشتاء ترعاه ممرضة مختصة برعاية العجزة.. ثم أصرّ أن يرى هويتي وهوية إبراهيم.. ثم حاول أن يضيع الوقت كثيراً وهو يسأل ممسكاً بهاتف النقال.. ولم أكن أدري بأنه كان يعدّ لنا فخاً.. فجأة بعد ساعتين من الحديث معه قال لنا.. لا بأس سأخرج وأحضر والدي.. لقد وافق.. ثم رفع هاتفه النقال في وجهنا.. استأذن منا وغادر.. بعد دقائق دخل هو وشقيقين.. وقف قبالتنا ثم قال بصوت هادئ.. تفضلوا معنا يا جماعة.. الشباب من الأمن وعليكم أن توضِّحوا أهدافكم لهم

– قال الأمن!.. (سأله  رامي)

– نعم نعم.. قال الأمن

– وأين يعتقد نفسه هذا الأحمق؟!

– لا أدري!.. هالمجنون.. المهم.. وقف إبراهيم رافضاً المثول لهم.. فرفع أحد الرجال يديه ليمسك إبراهيم من كتفه لكنه وفجأة غدا تحت قدم إبراهيم اليمنى

– حلال عليه.. (قال رامي)

– المهم.. (فأردفت أنا)

– انقضَّ الرجل الثاني فأكل لكمة في وجهه من إبراهيم.. في هذه اللحظة صاح إبراهيم وأمرني أن أغادر على الفور وسيلحق بي.. كما تعلمون اتفاقية الافتراق مهمة ولا مناقشة فيها

– أي أنك لم تكن خائفاً!.. (قال رامي ساخراً منه)

– بالطبع لااا

– المهم يا شباب.. تفاصيل المراهقين عن الخوف والمشاعر حتى ننتهي.. (قلت لهم مقاطعاً)

– المهم.. عندما خرجت من باب الدار استقبلتني ضربة على رأسي فسقطت على الأرض مدعياً الإغماء.. في هذه الأثناء خرج إبراهيم من باب الغرفة إلى أرض الدار وحاول.. استطعت أن أرى بعينين مغبشتين كيف أنه قاوم بشراسة مقاتل قادم من كوكب آخر.. لا قلب لديه يا رجل.. ولحسن الحظ أخطر سلاح استخدموه

– السكين.. (قاطعته)

– كيف علمت؟

– خبرة سنوات طويلة بالصراع مع الشمس ورجالها.. لا يستخدمون الأسلحة الخطيرة القاتلة أبداً.. هذا هو أسلوبهم.. تفضل أكمل

– ثم غدر أحد الرجال بإبراهيم وضربه بالسكين في كتفه فترنَّح ثم سقط بعد ضربة سكين ثانية في خاصرته.. عندما سقط -وكما الأفلام- جانبت عيني عينيه فرأى عيني مفتوحة قليلاً.. أعتقد ولست متأكداً.. لقد  غمز غمزة لطيفة مع ابتسامة ساحرة ثم لا أدري ما حدث.. فقد استيقظت في غرفة التحقيق الخاصة بهم.. غرفة مجاورة للتي كنا فيها

– يبدو أنهم علموا أنك تدَّعي الإغماء.. (قالت بتول)

– نعم هذا صحيح.. (أضاف طارق).. كنت موجوداً في المعركة.. قاتل إبراهيم بصلابة عشرين رجلاً لكنه سقط في النهاية.. وأخذوه إلى المشفى الخاص بالفرع.. لم يأتوا به فهذه الحالة تستدعي إرسالها إلى فرع مدينة حلب.. ممنوع أن نتعامل مع مصاب.. أخذنا علاء إلى فرع مارع الذي كنتم فيه.. جميعنا كنا فيه جميعنا.. يا إلهي كم نحن أقوياء.. ياااااه لا أصدق ما الذي جرى.. أنا الآن رسمياً من الجيل الأول؟

– بالطبع.. (أجبته)

– سأكمل أنا.. (قال علاء)

– لاا لااا.. دعني أنا أكمل.. (أردف طارق)

– تفضل

– شكراً لك.. في غرفة التحقيق جلس فشكة ومعه كافور للتحقيق مع علاء.. أمّا أنا فقد كانت مهمتي أن أحضر الموقد الكهربائي ومعه حديدة الوسم.. ثم علي أن أحمّي الحديدة حتى يطلب مني أن أوسم المعتقل

– ولم هذا التصرف البربري!.. (سألت بتول بقرف باد على محيّاها)

– لا أدري.. عادة قديمة لكافور.. وقد أعجب بها قاسم الطالح مدير الفرع في حلب وأثنى عليها في  أحد الاجتماعات الإقليمية.. هكذا قال لنا كافور في اجتماع صباحي ما.. المهم.. بدأ التحقيق بكلمة واحدة.. أأنت من الأصدقاء؟.. فأجاب علاء “لا علاقة لك”.. فانهال عليه بالضرب.. يرفع يداً وينزل الأخرى حتى أغمي عليه.. اقتربت كي أوسمه فنهرني كافور قائلاً “عليه أن يستشعر الألم جيداً”.. ثم أمرني أن أحضر دلواً من الماء.. عندما عدت رأيت علاء وهو يفرغ كلّ ما احتوت عليه معدته وقد غزت بركة من البول مجلسه.. اكتشفت لاحقاً أنهم أيقظوه بالتبول عليه.. المهم قذفت الماء عليه محاولاً أن أنظفه قليلاً.. أعتذر منك يا علاء.. لم أستطع أن أفعل أفضل من ذلك

– لا بأس

– المهم يا أصدقاء.. هنا أمرني كافور أن أوسم علاء قائلاً.. “حان وقت زينة العروس.. هياااا”.. فقمت بتزينه عند رقبته كما ترون.. أنا آسف مرة ثانية.. ما باليد حيلة

– لا بأس.. ستزول لا تقلق.. (أردفت أنا بصوت المثقف الواثق)

– حقاً!

– وأين تظن نفسك تعيش.. في أميركا في القرن الثامن عشر!.. طبعاً ستزول يا رجل.. مرهم واحد كفيل بإزالة كل الخلايا الجلدية التالفة.. يومين وستقشطها جميعها لتنمو خلايا جديدة.. لا تقلق.. أكمل طارق العزيز

– ثم ابتعد عنه ونفسي تتخبط من الداخل.. سنوات وأنا أوسم الناس ولم أستطع حتى الآن أن أعتاد الموقف.. فجأة رّن هاتف كافور.. كان المتصل أحد الحرس.. أخبره بأن رامي وبتول ينتظران عند الباب الرئيسي.. فخرجت.. وفي اللحظة التي فتحت الباب خرج كلّ شيء من فمي كنت قد أكلته.. أنا آسف بتول.. آسف رامي

– أنا سأكمل من هنا.. (قال رامي)

***

السبت الأسود

(قيس قهوجي)

مضت أيام قبل أن نجتمع مجدداً في مزرعتي في الزبداني، حضر الاجتماع فراس الفرّان وأنا ورامي وبتول وعلاء، وثلاثة ممن تابع العمل من الجيل السادس ورافقتهم لانا الخطيب، نهض فراس وتحرك ذهاباً وإياباً بعد وصول آخر المدعوين للاجتماع، كان يحدّق بكل تفاصيل الغرفة، في وجوهنا وملابسنا وفي كلّ شي تمكنت عيناه من التقاطه، لكنه بقي صامتاً.

صمت زاد من توترنا، ففراس لا يتصرف بطريقة مماثلة إلّا في حال وقوع مصيبة، هو دائم التهيؤ والاستعداد ولكنه يفضل أسلوباً يساعدنا، كما يقول دائماً، على استقبال المصائب، وإذا انتهى من دورانه وذهابه وسبر الغرفة وتفقد الوجوه والتفاصيل، يقف رافعاً عصاه، ثم يبدأ بدق آخرها بالمنضدة إن وجدت أو بأي شيء خشبي آخر، في اجتماعنا هذا كنا نجلس خلف منضدة خشبية مربعة طويلة.

ثلاثون دقّة كما أذكر، ثم توقف وقال لنا بصوت قوي وواثق:

– كما تعلمون يا أفاضل.. كما تعلمون.. إبراهيم لا أثر له.. بحثنا عنه طويلاً.. حتى أننا صرفنا خدمات من معارف واستهلكنا علاقات من كل حدب وصوب.. استهلكنا طاقة ومعرفة اعتقدنا بأننا لن نهدرها قبل عشرين عاماً.. والنتيجة!.. لا أثر له.. فص ملح وداب.. ولكن.. صباح اليوم

ثم توقف عن الكلام وأخرج من معطفه ظرف رسائل، فضّه للمرة الثانية، ففراس يحب إعادة الرسالة إلى وضعها الأول بعد القراءة الأولى، ثم أخرج مجموعة أوراق ورفعها في وجهنا، وقال بغضب:

– ولكن صباح اليوم وصلتنا هذه الرسالة.. رسالة طبيعية.. ورقية.. من يستخدم هذه الأسلوب القديم غيرنا!

– لا أحد

قالت الجملة لانا بعد أن أبعدت نظارة القراءة عن وجهها، فيبدو أنها أنهت قراءة الورقة التي طلب منها فراس قراءها في اللحظة التي وصلت فيها إلى قاعة الإجتماعات.

– نعم لا أحد.. إلّا

ثم فتح الورقة وبدأ يقرأ:

– تحية طيبة لك يا فراس بيك الفرّان.. أيها الصديق العزيز.. أيها المقاتل اللطيف.. منذ أيام اقتحم السيد المغوار قيس قهوجي.. من الجيل الخامس إن لم أكن مخطئة.. مقرنا في مارع.. لم تكن مشكلتنا في اقتحامه أحد مقراتنا.. لا لااا.. أهلا وسهلاً به متى شاء.. العزيز صديق العزيز.. نعم.. ولكن أيضاً كن على ثقة بأن مشكلتنا لم تكن طريقة الدخول.. لا لاااا.. صحيح أنه أتلف أرضية الغرفة بعد أن اقتحم بحفارة أظن أنها على حسب ما أظهرت الكاميرات من

– الكاميرات!.. (قال رامي)

– نعم الكاميرات.. وكيف لك أن ترى كاميرا بحجم نملة!.. بحجم نملة وبلون صباغ الغرفة وموضوعة في السقف

– لكنها تقنية ممنوعة!.. (أضافت بتول)

– عفواً.. إنها الشمس التي نتعامل معها.. (أردف فراس، ثم أكمل يقول).. فلنعد إلى الرسالة.. أظن أنها على حسب ما أظهرت الكاميرات من الطراز ألفا واحد ومن التقنية السابعة عشر.. ولكن لا بأس.. حتى أنني لم أنزعج من الضرر الذي قد يسببه النفق الصغير المتواضع.. ولكن ما أزعجني فعلاً هو جريمة القتل التي حدثت داخل الفرع

– جريمة القتل!.. ما هذا الهراء

قاطعت فراس بصراخ دوّى في أنحاء المزرعة، نظر فراس إلي مبتسماً وكأنه يذكرني بأن أتدارك الغضب غير المبرر، ثم قال:

– اسمع يا قيس.. اسمع حتى النهاية ولا تغضب.. المهم.. جريمة القتل هذه التي حدثت بدم بارد.. أخي اقتحمتم مركزنا وقررتم تحرير السجناء.. هذا حق ونحن المخالفون هنا.. لقد أخطأ محمد علواني الملقب بكافور وهو الآن ينال عقاباً منا.. وإذا أردتم ارفعوا دعوى ضده فهو تصرف بمفرده وأخطأ وأنا على كامل الاستعداد لإغلاق قسم مارع نهائياً فالشباب في ذلك المكان مصدر إزعاج حقيقي.. وأخص بالذكر “فسوة”.. صحيح ما أخباره سمعت أنه نال شرف الجيل الأول أخيراً.. انقل له قولي “ألف مبروك” وقسم المحاسبة لدينا بانتظاره لصرف مكافأة نهاية الخدمة.. المهم.. ولكن جريمة القتل!.. ما هذا!.. أين نقطن نحن وفي أي العصور.. أنت تعلم بأن إقليم حلب هو الوحيد الذي لم يوقف حتى الآن حكم الإعدام في سوريا.. وجريمة القتل هي جريمة قتل ولم يكن من اللازم الدخول عنوة إلى الفرع وقتل الحارس وأخذ الشباب

– وكيف لها أن تحسب جريمة قتل؟!.. ومن القتيل أصلاً؟!

– اسمع ولا تتعجل يا رامي

صاح فراس ثم عاد ليكمل القراءة، لكنّ رامي أكمل كلامه:

– لااا لااا.. تقصد فشكة بالتأكيد.. لقد وضع دياب قطعة قماش فيها مخدر.. لم يضع سماً.. التحقيقات.. لا يوجد تحقيقات.. ما هذا التخبيص الذي

– رامي!

صاحت لانا كي تسكت رامي، ثم نظر فراس في عينيها مميلاً رأسه ليشكرها ثم أكمل القراءة:

– فلدي مكتب مفتوح أربع وعشرون ساعة.. لم كل هذه السرية.. خوفاً على انكشاف الخطة!.. أتريدون إسقاط جبهة الأحزاب العشرين ثم تغيير الدستور.. لا بأس.. فلنفعلها سوية.. أنا مستعدة أن أكون شريكة يا جماعة.. المهم.. أرفقت مع الرسالة فيديو ستشاهدون فيه فشكة -بعد أن وضع قيس على فمه قطعة القماش- يسقط صريعاً.. ما هذا الدم البارد الذي يقتل به صديقك الوفي قيس أحد رجالي الأوفياء.. ولماذا!.. المهم.. الوثائق التي تمتلكونها.. كلها والفيديوهات المصورة مع المعمرين.. وكل ما جمعتموه.. أريدها كلها عندي.. دون زيادة أو نقصان.. كلها.. ومن ثم أريد معها قيس ورامي فلنقل كرهينتين حتى أتمكن من محو الأدلة جميعها ثم تصحيح مسار الحزب وإرسال الموتى إلى مقابرهم شاكرين تعاونهم خلال السنوات السابقة.. ثم فلنتكلم بصراحة مالي ومال الحقيبة الوزارية فمنذ اليوم لا أريدها لا بأس فخسارة يد أفضل من خسارة الجسد كاملاً.. هذه قضية خاسرة .. وبهذا سنصمد لسنوات قادمة هذا إن لم نستمر حتى يرث الأرض وما عليها.. ولم لا!.. لم لااا!.. بالمناسبة سأكون أكرم منكم وستكون المهلة المطلوبة شهر واحد قبل أن تقدم الأدلة إلى المحكمة العليا في حلب ليتم الإقرار بجريمة القتل.. أو سنغلق ملف الجريمة وملف جبهة الأحزاب العشرين.. ولا أظن بأن دم قيس ورامي قهوجي وباقي الشلة رخيص عليكم.. وبالمناسبة لن يُعدم كافور بل سيُسجن في أسوأ الأحوال خمس سنوات وسيُغلق قسم مارع.. ولكن لا مبرر لقتل فشكة.. المهم أنتم تعرفون القانون.. وإن أكمِلت القضية لمعرفة أسباب اعتقال علاء وإبراهيم.. هاا صحيح أين إبراهيم؟!.. سمعنا أنكم تبحثون عنه.. هل وجدتموه؟!.. بحثت أنا عنه أيضاً.. لم يكن يومها مع علاء.. ولا ندري أين هو.. لا أثر له أبداً أبداً.. تخيلوا.. فص ملح وداب.. دااب كفص ملح.. المهم.. إن استُكمل التحقيق في القضية فستدخل جبهة الأحزاب العشرين المعركة القضائية نتيجة اختراقات طالتها منكم وهذا لن يكون جيداً لكم أبداً.. وقبل أن تسقطوا الأحزاب العشرين سيحال كثيرون إلى القضاء وسيدخلون السجون ومن ثم ستسقط الجبهة وتليها باقي القصص.. أجِّلوا المعركة واستسلموا في هذه الجولة.. ولتكن المواجهة لاحقاً.. بعد عشرين سنة مثلاً.. وإلى أن تقرروا يا صديقي فراس بيك الفرّان إلى اللقاء.. قبلاتي

– وباقي الأوراق!.. (قلت له)

– باقي الأوراق نصائح كتبَتْها وخطوات تُفضِّلها لكي نقوم بالعمل سوية.. تسليم آل القهوجي ومن ثم تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة القضية.. ومن ثم العمل على تدمير جميع الأدلة التي يحملها الطرفان.. بعد التأكد بأن جبهة الاحزاب محمية سيسجل في تقرير وفاة فشكة أنه مات منتحراً وهكذا تصبح جميع الأدلة لا طائل منها وتبدو وكأنها مزوَّرة بعد أن تُسجَّل القصص في أوراق رسمية ويكتب الطرفان إقرارًا بخلو المسؤولية كاملة من كل شيء وبأن أي ورقة ستظهر لاحقاً هي محض تزوير

– تزوير؟!.. (سألت بتول بصوت قلق)

– نعم نعم.. تزوير

– وما قصة الوزارة!.. (سألت بتول)

– ألم تسألي نفسك يا بتول.. ما فائدة تزوير أصوات المعمرين.. ولماذا لا تزوَّر أصوات الشباب الذين توافيهم المنية!

– لا

أجابت بتول بخجل، فأردف فراس يكمل:

– في عام 2070 أصدر البرلمان قانوناً يقضي باحتساب أصوات الثوار القدامى بنحو منفصل في الانتخابات البرلمانية المركزية.. على أن يكون عمر المعمر في عام 2011 تجاوز الثامنة عشر وهذا شرط ضروري.. وبهذا يبدأ الحساب في عام 2070 لكل من تجاوز عمره سبع وسبعون عاماً.. عند الفرز يحصل من تجاوزت أصواته من الأحزاب الخمسين ألف صوت من أصوات الثوار القدامى على حق المشاركة في تشكيل الحكومة المركزية القادمة فيحق لهذا الحزب أن يأخذ حقيبة وزارية واحدة على الأقل.. وضع هذا القانون تقديراً لجهود المعمرين واحتراماً لرغباتهم بعد أن ضحوا لنصل إلى ما وصلنا إليه

– ألا يعد الخمسون ألفاً رقماً متواضعاً؟.. (سأل رامي)

– أشارت الإحصائيات إلى أن عدد الثوار القدامى في تلك السنة نصف مليون تقريباً.. وعلى الحزب أن يجمع خمسون ألف صوت منهم ليضمن مشاركته في الحكومة وغالبية الناخبين القدامى منتسبون لأحزاب قديمة.. لقد كان قانوناً منهكاً فقد اضطررنا للعمل ليلاً نهاراً لنجذبهم للأحزاب الجديدة وقد تمكنا من أن نبعد الكثير منهم عن جبهة العشرين.. المهم.. وهكذا مع الأيام وكل أربع سنوات وعند كل دورة جديدة لانتخابات البرلمان يقل العدد المطلوب عشرة آلاف.. أي يؤخذ بعين الاعتبار الوفيات.. في الدورة الثانية التي تلت القرار أي في عام 2078 قرر عدد لا بأس به من مناصري أحزاب جبهة العشرين أن يلتحقوا بحزب الجماهير فقط ليصنعوا تكتلاً لأصوات الثوار القدامى فيضمنوا دخول الحكومة.. بالمناسبة تم تأسيس حزب الجماهير في سنوات الثورة الأولى خارج سوريا في دولة مجاورة وكان له مراكز في العديد من الدول العربية والأوروبية.. ومنذ تأسيسه ركّز على استمالة السوريين الفقراء ممن بحاجة إلى مساعدة.. إضافة إلى فئة الشباب وبهذا شكّل بماله معروف المصدر في ذلك الوقت جماهيرية عريضة استمرت مع الأيام بسبب ما كان له من علاقات مع شركات ساهمت في إعادة الإعمار.. وقد حاولت الكثير من الأحزاب الوطنية الحقيقية التي تشكلت بعد عام 2040 القضاء على جماهيرية حزب الجماهير.. كان الهدف صعب المنال إلا على الزمن.. فالوقت كان كفيلاً بذلك.. لكي أكون واضحاً فالمختصر المفيد في السؤال التالي.. ما أهمية الحزب بالنسبة للشمس؟.. بكل بساطة كي تستطيع بتحالفها مع جبهة العشرين دخول الحكومة.. فهذا التحالف يساعدها على استمرارية الحصول على عمل وعقود.. ومنذ سنوات ونحن نحاول دون فائدة تأميم تجارة الحشيش وزراعته.. ونحاول أن تكون عقود حماية المنشآت النفطية والبحرية لصالح وزارة الداخلية المركزية.. وهذا ما كان صعب المنال بسبب مشاركة حزب الجماهير في الحكومات المتعاقبة.. ولذلك سيمكننا الكشف الحاصل في التزوير من إسقاط جبهة الأحزاب العشرين مما يساهم في القضاء نهائياً على قانون الأفرع الأمنية وإلى الأبد.. قصة معقدة لا تهمكم يا شباب.. والآن اقرئي الورقة التي بيدك لانا خانم

– بالتأكيد فراس بيك.. هذه الورقة هي تقرير من قيادة الشرطة في إقليم درعا.. وهي تقول: عثر في صباح يوم الجمعة الموافق 5 شباط 2089 على جثة شاب دون تشويه.. أكد تقرير الطب الشرعي أنه قتل بسبب جرعة زائدة من الكوكائين.. وبعد التحقق من صاحب الجثة تبين أنها تعود لشاب من ريف دمشق.. القلمون.. يدعى إبراهيم محمود الطويل ويبلغ من العمر

– مستحيل!

صاحت بتول بصوت قوي ثم نهضت واتجهت إلى الشرفة وهي تحاول كبت دمعتها الواقفة على شرفة أخرى.

***

مقتل الصموأل

(رامي قهوجي)

كما قلت لكم سابقاً فإن المسؤول عن ملاحقتي هو عكرمة الصموأل، أو هو المسؤول عن البحث عنّا في دمشق، الفريق كاملاً، ولكن وقبل الدخول في صلب قصة مقتله الظريفة سأخبركم ما الذي جرى بعد الاجتماع في ذلك السبت الأسود، كما أسماه فراس بيك الفرّان.

بعد يوم النحس ذاك تكررت الاجتماعات على مدى ثلاثة أيام متتالية، وبعد اجتماعات على مدار أربع وعشرين ساعة قرر المجلس الأول ما يلي، وسأكتب كما يكتب والدي العزيز:

أولاً: عليّ أنا وقيس أن نختفي عن الوجود، بَحْ، دون أيّ أثر لنا، بالطبع لن تزوَّر شهادات موت أو أي شيء من هذا القبيل، فقط ممنوع أن يعلم أي إنسان أين نحن إلّا قليلون جداً، لانا الخطيب وفراس الفرّان وشاب سيجلس معنا في الشقة ليؤمن احتياجاتنا ويدعى فواز حديد، وستختفي عن الوجود أيضاً المجموعة كاملة ومعهم دياب ظريف، ولكن خارج البلد فمهمتهم قد انتهت الآن ولا حاجة إليهم، وقد جاء وقت إجازة النقاهة، وفي كل مهمة لا أدري لماذا أنا رامي قهوجي أكون أول المتطوعين وآخر المنسحبين، وقد حاولت أن أقنع قيس على الأقل أن يغادر هو وأبقى أنا.

– لااا لااا.. هذه هي النهاية.. إمّا أن نكمل حتى نهاية الحرب هذه أو سيؤجَّل موتها عشرين سنة تالية إن انسحبنا.. أبداً لن أسافر

هذا كان جوابه بالطبع، المهم، وتتضمن الحركة الأولى بعد اختفاءنا رفضنا تسليم الوثائق الخاصة بالأحزاب الثلاثة، رفض لن يعلن خلال مدة الشهر، وأكد فراس الفرّان بأنه بالطبع، وقد قالها ثلاثة مرات متتاليات.

– بالطبع.. بالطبع.. بالطبع لن يُدفع أحد بساقيه إلى الموت

– فالإقدام على الموت مرفوض في قوانينا

كما أضاف الدكتور طلال حيدر رئيس المجلس الأول.

ثانياً: ستشكل لجنة من كبار المستشارين والخبراء من الجيلين الخامس والسادس لمتابعة القضية، وسيُعلن استنفار كامل لكل الأصدقاء، الكل، ومن جميع الاختصاصات للتفرغ والعمل في قضيتنا، ومنهم ستُشكَّل فرق كاملة تعمل ليلاً نهاراً في أثناء شهر المهلة.

وللفرق العاملة مجموعة من الأهداف المتعلقة بالوصول إلى خيوط جديدة وجيدة في القضية لتستخدم في الهجوم الأخير، كما وصفه قيس قهوجي، وهي: كيف قتل فشكة؟ فالمادة المخدرة الموضوعة في قطعة القماش لا تقتل قطة لطيفة، كما أكدت الدكتورة سلمى قصب باشي، خبيرة تخدير وعارضة أزياء محتملة إن سُحبت منها الشهادة -لا سمح الله- إن سقطنا في المحاكم، وأضافت في أول اجتماع عقدناه.

– من المستحيل أن تكون الكمية زائدة عن حدها فهي تجهز بأيدٍ خبيرة

وهكذا بدأتْ بوضع احتمالات شتّى، أيهما الصحيح: هل مات نتيجة مرض يحمله مسبقاً وكان للمخدر أثر قاتل، أم قتلته الشمس ورجالها بعد هروبنا ومن ثمّ زوّروا وثيقة مخبر الطب الشرعي وباقي الوثائق؟ والجميل في القصة أن الوثائق بلا تواريخ، خبيرة فساد وعلينا القضاء عليها. من ثم، كيف قتل إبراهيم؟! كيف قتل! بالتأكيد ليست جريمة كاملة، لا جرائم كاملة في هذه الحياة، ومن هنا ننطلق إلى الفكرة الثانية، ما الأدلة الممكن جمعُها لحل قضية موته؟! فقد عُثر عليه في منطقة اللجاة، مرميّ بين الصخور، جثة هامدة وبالقرب منه سيارته التي سافر بها إلى حلب، ووثائق المركبة تؤكد أنها انتقلت من إقليم حلب إلى إقليم درعا بنحو طبيعي، راكب واحد، ولقطات له يعبر الحدود بين الأقاليم في اليوم الذي سبق موته بيوم واحد، والأنكى أن الشمس قد وضعت فيديوهات قديمة، فساد في فساد.

ولكن من الجيد أننا لا نعيش في زمن السطوة الكاملة لأفرع المخابرات وإلّا كنا الآن موتى كلنا، المهم، في موقع الجثة لا وجود لكاميرات مراقبة، ولا إنسان، فقط وكما ذكر في تقرير موته، عَثر عليه راعي غنم وقد فارق الحياة ساعتها.

أمّا ثالث مهام الفرق، متابعة أخبار الشمس وتحرُّكاتها، من يراقب من، وما هي آخر أخبارهم، تنشيط الارتباطات والأصدقاء داخل الفرع، جمع المعلومات، الكثير من المعلومات، حتى العثور على مدخل أو نقطة ضعف ما، وهذا ما حدث لاحقاً.

ثالثاً: وهي خطة الانقضاض، وسيأتي وقتها لاحقاً، فقد قال فراس الفرّان في آخر اجتماع:

– أمّا ثالثاً .. فهي خطة الإنقضاض

– وهي؟!.. (سأل والدي)

– وهي التي سنتعرف عليها لاحقاً بعد تحقيق أولاً وثانياً

فلنعد للسرد اللطيف الذي عُرفت به منذ أن صرت صعلوكاً،

مساء ذلك اليوم شاهدته قادماً من بعيد، مساء ذلك اليوم الذي واجهت به عكرمة الصموأل، يوم قتل، يومها وقفت أفكر، هل رآني؟! أم هي صدفة لا أكثر؟ أم أنه يعلم أين أنا؟ ثم أمسكت الشارب المزيّف وخلعته من مكانه، بصقت عليه ثم ركضت محاولاً الفرار، لكنه وكما كنت أسمع عنه، استطاع وبلحظة واحدة الهروب من السكر؛ فغدا أكثر صحوة مني، وأكثر رشاقة وهمّة ودقة، ركضت فركض خلفي ولحق بي حتى حاصرني في حيّ لا مخرج من طرفه الآخر.

وفي اللحظة مواجهتنا وكان لا مفر لي إلّا بمواجهته، عاد فجأة إلى سكره، وصاح قائلاً:

– ألستَ ابن العقربة.. صاحب العلم والمعرفة.. أم الصعلوك سارق الأرغفة؟!.. قل يا ابن الحيوان الذي أعلن الحرب ضد السيدة.. شمس الشموس وربة الأرباب.. أيهما أنت؟!

وكان العرص يعلم من أكون، ابتسمت ثم أجبته براحة بال:

– أتسرق الشعر يا صموأل؟!

– لا هذه لحبيبك.. حسين جيرود.. أتعتقد بأننا لا نعرف عنك كل شيء؟!.. كلّ شيء

– بالطبع تعلمون يا أبناء الصرامي

ثم اقترب أكثر، بين المسافة التي تفصلنا وفي أثناء اقترابه أخرج زجاجة ويسكي من جيبه، شرب منها ثم رفعها وقال لي:

– تشرب يا عرصا؟

فأجبته بقرف مبالغ به:

– أكيد لأ يا خرا

– حرام؟

– لا.. حلال.. ولكن مشكلتي أني أقرف منك

– مشكلة بسيطة.. يا رجل أتعبتني حتى عثرت عليك.. معلومات معلومات معلومات

ردد كلمة معلومات وهو يترنح من السكر أو الطرب أو القرف، فأضفت مقاطعاً تمايله:

– معلومات.. برافو.. أأنت وحدك تعمل في القضية؟

– لا بالطبع فريق كامل.. (ثم جلس على الأرض وقال لي).. انقبر اقعد.. (ثم راح يكمل بعد أن جلست بالقرب منه).. ولكن أمن المعقول يا رجل.. كل يوم في بيت شكل.. ومكان شكل.. تستيقظ في شقة وتنام في شقة ثانية.. وتتحرك كثيراً ونحن نتابعك.. هلكت ربنا

في أثناء حديثه أخرجت قطعتي شوكولا من كيس الأغراض:

– تأكل؟

– أكيد.. (أخذ القطعة وأكمل حديثه) والمصيبة أنه ممنوع أن نمسك بك.. ممنوع منعاً قاطعاً حتى تنقضي الأيام الثلاثون.. هكذا هي الأوامر.. ولكني لم أفهم ما الذي أخرجك من جحرك؟!.. خليك مقبور أنت ووالدك في منزل عربين

– حتى قيس يغير منزله باستمرار

– ولكن بطريقة أخف منك.. فنحن بحاجة إلى أيام كي نكتشف موقعه؟

– وكيف استطعتم مع دقة تصرفاتنا الكشف عن موقعه؟

– مراجعة سجلات الصرف الصحي في دمشق كل يوم.. أي تغير غير منطقي لأي منزل يغدو مراقباً حتى نستطيع رصد المنزل الذي.. (فقاطعته)

– يا إلهي.. الشيطان الرجيم لم تخطر على باله فكرة كهذه.. لكن كيف تكشف لي سر كهذا!

 – لا سر ولا بطيخ.. يومين وستنتهي المهلة ولن نتواجه إلّا بعد عشرين سنة.. وقتها ستتطور الأدوات والأفكار..

– كان علينا أن نغادر البلد

–  حجي ألا تعلم أنك وقيس قهوجي.. والدك.. ممنوعان من السفر؟!

– ما هذا الكلام التافه

– على أساس لا تعرف

– نعم.. تخيل أني لا أعلم بهذا الموضوع

صحيح، إبراهيم عندما عثر عليه منتحراً، كما جاء في التقرير، قرر محامي الدفاع أننا (أنا وقيس) من المقربون، يبدو أنه محامي فاسد ومن رجال الشمس، بالطبع ثلاث سنوات كاملة من العمل سوية تحوّل العدو إلى صديق، فكيف بصديق كإبراهيم، لكنه لم يضَع بتول أو علاء في القائمة، وهذا ما يؤكد أنه فاسد يعمل لصالح الشمس بعد تعيينه من قبل المحكمة للتحقيق، فبتول وعلاء يساوي وزنهم صفراً في القضية المشتعلة، بالطبع ضمَّت القائمة أصدقاء له وأهل وأقارب، وكما ينص القانون السوري فإن الانتحار يعد جريمة غير مباشرة، يعيَّن بعد الحادث محامٍ يدير فريقاً من المحققين للبحث عن أسباب الانتحار ومسبباته، والبحث عن مسببين أو دافعين، أو حتى عمن سمع عن نيته بالانتحار لكنه لم يفعل شيئاً، ويترتب على هذه القضية، حظر للسفر لكل الأشخاص المدرجة أسماءهم في القائمة، ومجموعة واسعة من العقوبات تبتدئ بالأعمال الاجتماعية ودفع غرامات وسجن لسنوات يحددها القاضي.

بالطبع كان بالإمكان ذكر القصة سابقاً عندما قلت لكم أن والدي قال:

– لااا لااا.. هذه هي النهاية.. إمّا أن نكمل حتى نهاية المغامرة أو نؤجل موتها عشرين سنة ثانية.. أبداً لن أسافر

بالطبع قيس قصد ما قاله بالتحديد أن مهام كل من سافر انتهت إلّا نحن، ولكن الحظر هو سبب ثانٍ وقد اتفقت مع قيس أن أذكره أنا زيادة في التشويق، فوافق.

فلنعد إلى حديثي مع الصموأل،

– أنت تكثر من الشرب يا صموأل.. ضع الزجاجة جانباً ودعنا نحتسي فنجان قهوة في مقهى ما كي تصحصح ونتكلم رجلاً لرجل..

– لا أستطيع أن أتوقف عن الشراب يا رجل.. مستحيل

– صحيح سمعت عنك كثيراً.. ولكن ما السبب؟!

– ايييييييه.. (قال ايييييه ثم ارتشف رشفة كبيرة وأكمل).. أسمعت يوماً بدوار اليابسة؟!

– هاااا.. أتقصد من يعيش في البحر طوال حياته ثم

– وهل هنالك من يعيش بالبحر طوال حياته يا جحش.. (قال جملته بغضب ثم أردف) لا لااا.. أنا عندما أكون صاح أشعر بدوران الأرض حول نفسها.. أرى كل شيء يدور ويدور.. كل شيء.. أشعر بها.. المباني تتحرك والناس تتحرك وأنا.. يا إلهي أنا.. أخاف وأنقبض وأتمسك بالأرض.. كل شيء يتحرك.. دوار الأرض ألعن مرض.. ألعن من ألعن فوبيا في الوجود.. أصعب من فوبيا التنفس

– فوبيا التنفس؟!

– الرجل الذي يخاف من نفَسه.. أيأخذه ثم يموت.. أم يخرجه ثم يموت.. ناس مجنونة يا رجل

– بالفعل.. (ثم ابتسمت ساخراً من حاله)

– لم تقل لي.. ماذا تفعل هنا قرب منزلي؟!

– منزلك! إذن منزلك اليوم هنا.. في حيينا.. يا أهلاً ويا سهلاً.. قل لي الآن.. لماذا تركت والدك وبدأت تترحل.. خلاف بينكما؟.. مستحيل.. ولا تقل لي بأنك صعلوك.. يعني شي بخري الصراحة وهذا السبب كذب.. أتدري بحثنا كثيراً عن هذا السبب.. لماذا كل هذا التحرك والتجول.. ما الذي دفعك لكل هذا.. والمشكلة.. تحركاتك عشوائية ومن المستحيل أن يكون عملك مدروساً.. يا رجل كلفت عالم رياضيات ليكتشف وجود أي متتالية عشوائية تعمل عليها.. ولكن لااا.. كل شي عشوائي بالكامل.. دون أي متتالية.. قل لي ما السبب؟.. فوبيا اليوم الكامل!.. وأين كنت أول ثلاثة أسابيع!

بالمناسبة فوبيا اليوم الكامل، هو اضطراب البقاء في أي مكان مغلق مدة تزيد عن الأربع وعشرين ساعة.

– الأسابيع الثلاثة.. عشت على الأدوية والمنومات.. ولكن لأكون صريحاً معك.. هكذا هي الأوامر وهذا هو المطلوب مني

– أكيد

ثم ابتلعَنا الصمت لدقائق، قاطعه الصموأل:

– أنت تعلم بأنه ممنوع أن نمسك بك.. وأنت لن تهرب من القضية أبداً وأنا أعلم هذا الشيء جيداً.. فقوانينكم واضحة.. القانون السوري أولاً

– لا لااا لن أهرب بالتأكيد.. ولكن

أخرجت لفافة تبغ ثم أشعلتها، وبعد نفس ثانٍ أكملت:

– أتعلم أن التعامل مع مجرم أمر مقلق

– أتخاف أن أقتلك؟.. بالطبع لن نقتلك.. أصلاً يدنا هي العليا.. (ثم رفع يده وأنزلها بسرعة وكأنها آلمته من الخدر)

– أدري أني لن أقتل.. ولكن أنت تعلم سر المهنة

 – ايييييييييه.. ولكن لم أقتنع بفوبيا اليوم الكامل.. سيدي.. الأوامر أن نراقبك فقط.. وإلّا كنت اقتلعت رأسك من مكانه

ثم أخذ رشفة أخرى، نهض وراح يغني مبتعداً عني، وفي هذه اللحظة أخرجت، من كيس الأغراض التي اشتريتها من عند العم رأفت زكريا، مسدساً ورفعته ثم أطلقت النار منه ثلاق طلقات متتاليات.

لا لاااا، أنا لا أغدر، أبداً، فالقصة ناقصة، سأعود بكم إلى الوراء قليلاً حيث كنت أجلس أنا وقيس وفراس الفرّان قبل أسبوع واحد من مقتل الصموأل.

– أمّا ثالثاً وكما أخبرتكم سابقاً فقد أصبحت الخطة جاهزة

قال الجملة فراس وهو يقف حاملاً عصاه كالعادة، قالها متفاخراً بما أنجر في مهمته الأخيرة قبل أن يصبح رئيساً للمجلس الأول، ثم أكمل يقول:

– باقي عشرة أيام لنهاية مهلة الشهر.. بالطبع لا جديد بالنسبة لقصة موت فشكة ولا يمكن حتى الآن أن نقدم دلائل تثبت ماهية المادة التي وضعت في قطعة القماش تلك.. ولكن

ثم تحرك من مكانه محركاً عصاه للأمام والخلف، وراح يكمل:

–  ولكن تمكنا من إمساك خيط ثانٍ أو أهم.. أهم بكثير.. إن تمكنا من إحضار فيديو كامل من منطقة اللجاة لحظة وضعت جثة إبراهيم هناك

– لا يوجد كاميرات في تلك المنطقة.. (قلت أنا ثم قال قيس مؤكداً)

– ولا حتى كاميرا واحدة

– أعلم.. هذه المعلومة قديمة جداً جداً.. ولكن أنا أتحدث عن أقمار صناعية

– أقمار صناعية!.. واتفاقية برلين الثانية!

لمن لا يعلم، اتفاقية برلين الثانية أو كما تُسمى أيضاً اتفاقية حظر التكنالوجيا جاءت بعد أزمة المعلومات التي حدثت بعد خلل عظيم بسبب أنظمة الذكاء الصنعي متعدد الاستخدامات، التي انتشر استخدامها في كل المرافق العامة والخاصة، تلك الأزمة سببت ضياعاً كبيراً وخطيراً في المعلومات، فحظر تطوير واستخدام التكنلوجيا إلا في مجالات محددة وضمن أنظمة مراقبة دولية، كما حظرت الأسلحة النووية قبل عقود.

وهكذا عاد التباطؤ في التطور التكنلوجي إلى طبيعته، وأعتقد أنا وكل صعاليك العالم، أنه ضمن قرار أممي كبير لمحاولة ضبط العولمة والتطور الذي سبب موجة وعي عالمي لم تكن موضوعة بالحسبان.

المهم، في الاتفاقية فقرات أخرى، منها أن صناعات الفضاء والسلاح من المحظورات على قائمة دول منها سوريا لمدة مئة عام، أي حتى عام 2135، وبهذا نحن لا نمتلك أقماراً صناعية واستخدامها أو الولوج إليها من المحظورات علينا.

فلنعد إلى الحوار بيني وبين قيس وفراس،

– فيديو كامل

قال فراس بصوته الواثق المتفاخر، ثم أردف بعد أن نهض على ساقيه وتحرك جيئة وذهاباً:

– هبط عكرمة من السيارة ثم أخرج منها كيساً أسوداً.. فتح الكيس وأخرج منه جثة إبراهيم وألقاها قرب السيارة.. ثم بدأ بكاشف البصمات فمحا كل دليل على وجود بصمة لغريب ما.. ثم برمج الصندوق الأسود ليتناسب مع إبراهيم.. وزن السائق وطوله ووو.. ثم غادر

– وهل الفيديو مفيد؟

– أكثر من اللازم.. ندبة يده اليمنى.. ملابسه.. صلعته.. أنفه.. ضحكته.. كل شيء.. بصمة حركته ومشيته وأفعاله اللاإرادية.. وبصمة حرارته وهي المعلومة الأهم

– وكان وحيداً.. (سألت)

– نعم

– كيف؟.. هل باستطاعته أن ينفذ مهمة ك.. (لكن فراس قاطعني)

– هذا عكرمة بركات يا رجل.. عكرمة الصموأل.. إنه السوبرمان.. شديد القوة والملاحظة.. ذكاؤه في السكر أكثر من غالبية البشر في صحوتهم

– ينقصه أن يكون صديقاً 

قال قيس، ثم أكمل فراس:

– ستتعرف عليه

– أنا.. (قلت وعيني متحجرتان)

– نعم.. المهم.. فلندخل في صلب ثالثاً.. سوف تذهب إلى شوارع دمشق.. وستحمل معك ملفاً كُتبت فيه الخطة كاملة.. أين ستنام كل يوم وأين ستكون كل ساعة.. وماذا ستقول ومن ستلتقي.. كل ساعة وكل دقيقة مخططة.. حتى كلامك.. سيجري تعيين مجموعة كاملة لتعلم أين أنت وتُلاحقك.. الخطة كفيلة بتضييعهم.. ستتحرك في أزقة مظلمة لا تحتوي على كاميرات لتضيِّعهم وستسير في شوارع مراقبة وفي أوقات مناسبة ليعثروا عليك.. سنعطيهم اليد العليا معك.. ستكون صعلوكاً كامل المواصفات

– أنا صعلوك بالأساس.. (قلت جملتي متفاخراً)

– وهذا هو المهم.. أن خروجك وتصرفاتك مقنعة

– لا أعتقد بأنها مقنعة

– بلى.. كل المنازل التي ستتنقل فيها ملك لصعاليك.. سيكتشف الصموأل هذه المعلومة ولكن متأخراً.. ثم لا تنسى بأن لديك فوبيا اليوم الكامل

– أنا!

– نعم بدأنا بنشر الشائعة.. ولكن المهم عليك أن تكون شديد الالتزام بخطوات الدفتر وأهمها التوقيت.. لا تقلق لن يعتقلوك ولن يتعرضوا لك إلّا في اليوم الحادي والثلاثين وفي ذلك اليوم ستكون في مرحلة تنفيذ الجولة الثانية من الخطة

– ممتاز.. (قلت بصوت كله ثقة)

– المهم.. في اليوم التاسع والعشرين سيقتل الصموأل

– ما!.. ماذا!.. من.. من سي.. من سيق.. أنا!

– نعم أنت ستقتل الصموأل

– ممنوع القتل.. لن أخالف العهد.. لن.. لااا لاااا.. لاااا

– سيُقتل الصموأل هذا هو الحل.. اسمع لا وقت لدي.. كل شيئ موجود في الملف.. ولكن لا تقلق.. فالأصدقاء لا يقتلون

– الأصدقاء لا يقلتون.. (ردد قيس وراءه بابتسامة لطيفة أراحتني)

– والخطوة الثانية؟!.. (سألت)

– سيأتي وقتها لاحقاً.. الآن اذهب ونفِّذ ما كتب في الملف بكل حذافيره

في الملف أوراق وصور وخرائط، في ورقة التعليمات كتب أنه وبالصدفة البحتة عليّ أن أزور دكانة رأفت زكريا، وهو سيتكفل بالحديث اللطيف حيث أنني قد اخترت المكان مصادفةً، وسيزودني بما أريد من طعام وشارب، إضافة إلى مسدس من نوع خاص، سأستخدمه في إطلاق النار على الصموأل من الخلف، كغدار وغد، ولكني لست غداراً ولا وغداً والدليل ما ستقرؤون، سأكمل لتعلموا من هو رامي قهوجي يا أعزائي.

أطلقت النار فسقط كخرقة قماش بالية، لم تفده عضلاته ولا خبرته الإجرامية ولا حتى نسبة الكحول المرتفعة في دمه، سقط فقط، لم يعطس حتى، ركضت اتجاهه، حملته كما كتب ثم انطلقت إلى سيارة مركونة مقابل الحارة المغلقة التي حاصرني بها الصموأل، بالطبع الحارة المغلقة لا تحتوي على كاميرات مراقبة على عكس الشارع الذي فيه السيارة، وهكذا التقطت الكاميرات صوراً لنا وللسيارة ولكل تفصيل مهم.

فتحت الباب ثم وضعته وانطلقت، وبالتأكيد اتبعت الطريق المرسوم في الدفتر بحذافيره، وفجأة وعند تقاطع الشعلان اصطدمت بي سيارة من طرف الباب المقابل لي فقلبت سيارتي، وكما تعلمون المقاعد الرجاجة وأكياس الصدمة كان لها عامل الأمان الكامل.

وهكذا غبت عن الوعي واستيقظت تقريباً بعد ساعتين حين بدأت الشمس الحقيقية بالشروق، وقد طُلب مني أن أذهب إلى منزل أخي، أو طليقة أخي، لنتوجه إلى مزرعة فراس بيك الفرّان في الرحيبة.

بالمناسبة ستعلمون أني لست بغدار ولكن لاحقاً، فقد قام قيس بحذف شهادتي التي كتبتها هنا عمّا جرى عندما كنت غائباً عن الوعي، وقال بأنه ليس من اللائق أن أكتب شهادة لم أرها بأم عيني حتى إن كانت حقيقية.

***

اللقاء الثاني

(ديما قهوجي)

على الطريق الواصل بين حمص ودمشق تقع منطقة تسمى القلمون، يقسم الطريق الدولي الأول القلمون إلى منطقة شرقية وأخرى غربية، في كلتا المنطقتين لدينا مزارع تعمل ليل نهار في زراعات متنوعة، في القلمون الغربي الكرز والمشمش والتين والزيتون، أمّا في الشرقي فزراعة البطاطا والعنب هي الرائجة، تتبع المزارع لشركة تسمى “الفرات”، تأسست الشركة عام 2035 بالشراكة بين والد جدي صلاح قهوجي وتركيا مع الحكومة المركزية، تأسست الشركة بعد مشروع تقدم به جدي في البرلمان لشق نهر الفرات بخطوط طولية وعرضية لتغطي مساحات واسعة من سوريا لاستغلال الأراضي الزراعية طولاً من دير الزور إلى الغوطة ودرعا وعرضاً من تدمر إلى حمص ثم طرطوس، وغدا الفرات يحتوي على حلقات تنطلق إلى الجنوب ثم تعود لتلحق به مرة أخرى، ومن الحلقة الأساسية تخرج حلقات فرعية تغطي العرض السوري، وافقت الحكومة التركية على دعم المشروع على أن تنال نسبة أربعين بالمئة من استثمار الأراضي الزراعية البور التي تملكها الدولة على أن تنال دولة قطر الأربعين بالمئة الثانية من المشروع وتتكفل بدفع التكاليف كافة، والعشرين بالمئة المتبقية تنالها شركة صلاح قهوجي.

وافقت دمشق على المشروع على أن تستثمر الدول مدة خمسين سنة في المشروع منذ لحظة توقيع العقد ثم تنتقل ملكية المشروع بنسبة ثمانية بالمئة للدولة وتحافظ الشركة على نسبة العشرين بالمئة.

توفي والد جدي وأخذ عنه جدي عاتق العمل جدي، ثم جاء دوري، توليت العمل في الشركة وإدارتها منذ ثماني سنوات، أي منذ أن كنت في الثانية والعشرين من عمري، مع متابعة من عمي الأكبر مرتضى قهوجي، وبالطبع منذ أربع سنوات انتهت مدة الخمسين عاماً وانتقلت ملكية الثمانين بالمئة للدولة، وأكملنا العمل على إرثنا كما يجب، حتى حصلت القصة التالية.

كنت أركب السيارة مع جورج متجهة إلى مزرعة فراس الفرّان كما اتفقت أنا وأخي الذكي، كنت لحظتها مشغولة البال على والدي، صحيح أني ابنته وأني من الجيل الخامس ولكن هذا لا يعطيني الحق بمعرفة ما يجري، حتى أخي حازم أعتقد أنه لا يعلم أكثر مما عليه أن يتولّى، هذا الشيء مقلق، لا يختفي قيس بهذه الطريقة اللئيمة إلّا إن حدث أمر جلل، والمصيبة أن رامي قتل أمس الصموأل وهذه المصيبة الأكبر

– رامي قتل الصموأل.. يا إلهي.. (قلت الجملة بصوت عالٍ)

– عفواً.. (قال جورج)

– أسمعت بخبر مقتل الصموأل؟

– بالتأكيد

بالطبع أشار لي بابهامه الأيسر عندما نقره على صدغه وكأن حازم سيرسل غريباً في وقت عصيب كهذا.

– الجيل الاول؟

– بكل فخر

– ألف مبروك

– الله يبارك فيك

– إذن عندك خبر؟

– تقريباً.. سمعت أن الصموأل مات ولكن الخبر لم ينتشر بعد في دمشق.. عندي مهمة ثانية

– هممممممم.. الجيل الأول وأخطاؤهم المعتادة.. (حدثت نفسي ثم قلت بصوت عالٍ) أستخبرني بمَ كلفت؟!

– لا بالطبع.. ولكن أنا كنت سائق سيارة الإ.. (قاطعته قبل أن يكمل ماذا فعل)

– لا تكمل

– أرجو ألّا تخبري السيد فراس

– بالطبع هذه الشيء معتاد.. ولكن الثقة مطلوبة.. تعلِّمكَ من كيسك يا جورج

– بالتأكيد.. شكراً لك

ثم ابتسمت في وجهه بلطف وكأني أخبرته بأني غير قادرة على مواصلة الحديث، إنه لطيف ولكن كما يقال “متلازمة الجيل الاول”.

بعد نصف ساعة من الحوار عبرنا بوابة المزرعة حيث ينتظرني الخبر اليقين، هبطت من المقعد حيث يقف فراس بانتظاري بردائه المعتاد، رفع عصاه مرحباً:

– وأخيراً وصلت السيدة الأولى

– شكرا لك فراس بيك الفرّان

– تفضلي يا عزيزتي.. مزرعتك هذه

– قل قصراً وحدائق.. ما شاء الله.. منظر رهيب.. والجسر فوق الحلقة الفراتية.. شيء عظيم

– نعم نعم.. أحجار فرنسية أصلية تعود إلى القرن الثالث عشر.. تفضلي

في الصالة الكبيرة داخل القصر لوحة كبيرة رسمت بخط يد ماهرة لا توصف، تبخرت الكلمات ولم تخرج، فقط وقفت أمامها محدقةً متعجبة حتى قاطعني قائلاً:

– جميلة؟

– يا إلهي.. هذه صورة جد جدك؟!

– نعم.. توفيق بيك الفرّان.. رحمه الله

– ياااااه.. في أي عام توفي؟

– عام 1980.. بعد عام من وفاة ابنته.. عمتي أسماء الفرّان

– الله يرحمهم

– تفضلي إلى مكتبي

– شكراً لك

بعد أن دخلنا وقبل أن يغلق الباب وراءه قال وبصوت مختلف عمّا سبق:

– والآن.. حان وقت العمل.. تفضلي اجلسي

– شكراً لك.. (ثم جلست وبدأ يتكلم)

– طبعاً أول زيارة لك للمكتبة الأم؟

– ممم

حركت شفاهي ووجهي وكل عضلة في وجهي ولم أستطع النطق، المكتبة الأم، يا إلهي لم أحدق جيداً بالجدران الأربعة المحيطة بالمكتب الكبير، المكتبة الأم! هذه هي إذن.

– المهم

– أكيد

– تعلمين بأن الصموأل قُتل؟

– طبعاً.. أنت تعلم فقد وصلتني الرسالة البارحة

– بالطبع أعلم.. المهم.. القصة طويلة جداً جداً.. ولكن والدك

– أين هو؟!.. أعتذر على المقاطعة الوقحة؟

– لا بأس.. لا تعتذري.. والدك بخير.. إنه في حلب الآن

– في حلب؟!.. وماذا

– ستعلمين كل شيء في وقته.. لا تقلقي.. المهم.. ما أخبار شركة الفرات؟

– جيدة جداً.. أرسلت لك الدراسة الأخيرة

– بالتأكيد.. قرأت كل شيء.. المهم.. عند مكتب لانا الخطيب

– السكرتيرة الأولى؟!

– نعم نعم.. على مكتب لانا توجد أوراق عليك توقيعها

– بالتأكيد سأوقع.. ولكن ما هي.. إن أمكنني السؤال؟

– بالتأكيد تستطيعين السؤال.. هي أوراق تنازلك عن حصتك من شركة الفرات

– تنازل؟.. لمن؟

– ستعلمين لاحقاً كل شيء.. موافقة؟

– طبعاً.. أكيد موافقة

– جميل جميل

ثم نظر إلى ساعة يده وقال:

– أعتقد بأن اجتماع حازم ولانا قد انتهى.. فلنذهب إلى مكتب لانا.. تفضلي

نهضت ثم نهض ورائي واتجهنا إلى مكتب لانا الواقع في الطرف الآخر من الردهة، وفي الطريق إلى مكتبها، قال لي:

 – صحيح.. البارحة تناولت الغداء مع القاضي مازن عزّ الدين.. وقد أخبرني أنه سيوافق على طلبك أنت وسوزان

– عنجد؟!

– نعم.. علينا أن نعترف.. نحن في عام 2189

– بالتأكيد

ثم أكملنا صامتين حتى وصلنا أمام باب مكتب لانا، ولحظة غدونا أمام الباب خرج حازم يحمل ظرفاً وكله سعادة لا توصف:

– ديما هنا.. يا أهلاً ويا سهلاً

– أهلا.. ما الأخبار؟

– ألم تسمعي الخبر.. المجنون رامي قتل الصموأل

ثم قبلني على جبيني كالمجانين الذين تلقوا خبراً عجيباً، ثم أكمل يقول:

 – أنا ذاهب إلى اللقاء

– إلى اللقاء

غادر بسرعة كما خرج من المكتب، ثم أشار لي فراس بيده كي أدخل.

– تفضلي

***

الانقضاض

(حازم قهوجي)

بعد حديثنا الطويل أنا والسيد فراس توجهت إلى مكتب لانا الخطيب حيث يقع في الجهة المقابلة تقريباً إلى اليمين من المكتبة الأم، دققت الباب ثلاثاً ثم انتظرت، وبعد لحظات خرج رامي دون أن ينطق بحرف واحد، نظر إلي حرّك رأسه مودعاً ثم غادر، لأول مرة أراه قلقاً إلى هذا الحد، بعد ابتعاده وما إن هممت بالدخول حتى لامست يد كتفي، نظرت إلى الخلف وإذ رامي قد عاد وقد علت ابتسامة وجهه وقال لي:

– قررررررربت

ثم أكمل طريقه وهو يقول:

– يسعد الله .. أنا دائماً في الواجهة

ثم دخلتُ،

– السيدة لانا الخطيب .. تحياتي

– أهلاً.. تفضل سيد حازم

– ما الأخبار؟

– جيد

كانت إجاباتها مختصرة وسريعة دون أي تعابير تذكر على وجهها، وقلت في قلبي لحظتها “فعلاً تستحق منصبها بجدارة”.

– هذا الملف يحتوي على مهمتك

– بالتأكيد.. أنا مستعد لأيّ.. (لكنها قاطعتني)

– نعم.. أعلم.. رامي قتل الصموأل وجتى الآن لم تُنشر القصة.. في الملف كل تفاصيل الجريمة.. وفيديوهات كاميرات الشارع عندما حمل جثته وانطلق بها في سيارته.. حتى وصوله إلى المستشفى.. وبالطبع يوجد وثائق من المستشفى قد تفيد أيضاً.. وفي داخل الملف ستجد ورقة بأسماء صحفيين وكتاب وروائيين وإعلاميين.. عينة من المجتمع الثقافي ممن له متابعين كثر.. عليك أن تتواصل معهم كي تبدأ بحملة تنشر بها تفاصيل الجريمة كاملةً في وسائل التواصل والإعلام كافة

– ماذا!

– كما سمعت

– ننشر خبر مقتل الصموأل ونفضح أخي؟!

– أعندك أي اعتراض؟

– طبعاً لا.. ولكن أريد أن أعرف ما القصة

– وهل تعتقد بأننا قتلة؟

– أكيد لاااا.. مستحيل

– إذن ثق بي

– وكيف سأثق بالقائمة؟

– كلهم من الجيل الأول ولم يعلن بعد عنهم

– أوووووه.. ممتاز

– وبالمناسبة يوجد مهمة أخرى.. عليك أن تسجل شهادات لهم

– شهادات بماذا؟!

– كل شيء موجود بالتفصيل في الملف.. لا تقلق.. أما الآن فقد أصبح الوقت لألتقي بديما قهوجي.. ستجد جورج في الخارج كي يأخذك حيث تريد

ثم نهضت وتحركت إلى المكتبة التي خلفها، أخرجت كتاباً، فتحته وأخرجت من داخله ورقة، ثم عادت إلي، رفعت الورقة في وجهي كي آخذها، ثم قالت:

– في هذا المنزل ينتظرك عكرمة الصموأل.. إلى اللقاء

– الصموأل؟!.. من؟!.. جثته؟

– في الملف.. في الملف يا حازم بيك قهوجي

– إلى اللقاء

خرجت والتقيت بأختي في الردهة،

– ديما هنا.. يا أهلاً ويا سهلاً

– أهلين.. ما الأخبار؟

– ألم تسمعي الخبر.. المجنون رامي قتل الصموأل

ثم قبلتها على جبينها بسعادة لا توصف؛ فالحقيقة الآن بين يدي، سعادة مؤرخ حصل على حقيقة عجز لسنوات عن الوصول إليها، هذا أنا في هذه اللحظة، ثم أكملت أقول:

– أنا ذاهب إلى اللقاء

– إلى اللقاء

أكملت طريقي عبر الردهة إلى أن خرجت فرأيت جورج ينتظرني، انطلقنا إلى دمشق، كما كتب على ورقة التعليمات، أولاً عليّ زيارة الأشخاص الموجودين في القائمة، كلهم في انتظاري، وكل واحد له وقت محدد ومكان مخصص له، في أول القائمة علي حمزة، الروائي الأشهر في الوطن العربي، الأزعر صديق مقرب ولم يقل لي شيئاً.

من منزل حمزة انتقلت إلى منزل خالد الهجانة، إعلامي كبير في التلفزيون السوري، ومن منزله إلى منزل آخر ثم آخر، أعطيت كل شخص فيهم نصاً أو فيديو أو مهمة ما، عليهم كلهم أن يخرجوا الجريمة للعلن، على سوريا أن تعلم الحقيقة في تمام الساعة الثامنة مساءً، في هذه الساعة تقرر انطلاق الأخبار المتتالية بنحو مدروس ومعلوم، خبر كإشاعة، ثم سينطلق خبر وتعليق ثم لقاء مع طبيب، ثم سيظهر الفيديو المتعلق برامي عندما كان يحمل جثة الصموأل، وهكذا حتى يصبح أخي مطلوباً في جريمة قتل.

أنهيت كل القائمة الطويلة ثم كُتب في آخر ورقة التعليمات “زيارة العنوان المكتوب على الورقة المنفردة”، وهكذا فعلت.

يقع المنزل المتواضع في يبرود، يقبع في وسط مزرعة زيتون بسيطة لطيفة، يقف أمام البوابة الصغيرة الصدئة من الداخل رجل يبلغ الثمانين من العمر إن لم أكن مخطئاً، عندما تجاوزنا البوابة بسهولة لا توصف، على عكس ما اعتقدت، وتوقفنا أمام باب المنزل، اقترب الرجل من نافذتي ورحب بي، قائلاً:

– أهلاً بالسيد حازم قهوجي

– أهلاً بالعم

– الضيف ينتظرك في الداخل.. تفضل من فضلك

– أنا بانتظارك هنا.. سيد حازم.. (قال لي جورج بلطف مبالغ)

ترجلت من السيارة، أملت جسدي للأمام قليلاً كي أرحب بالعجوز بلطف، ثم دخلت حيث أشار لي بيده.

فتحت الباب الرئيسي للمنزل؛ فلم أجد سوى غرفة كبيرة نسبياً، يتكون المنزل من غرفة واحدة فقط، تحتل الغرفة مساحة المنزل كاملة، في نهايتها عند الزاوية اليمنى باب صغير، اعتقدت أنه لحمام صغير وقد كان اعتقادي صحيحاً، داخل الغرفة لا يوجد سرير خشبي صغير يعود لحقبة قديمة وضع عليه رداء ما، وأمامه كرسي خشبي صغير وبجانبه منضدة يوجد عليها كتاب قديم وقرب المنضدة وعلى الأرض يوجد صحن داخله حبة بندورة كاملة وأخرى مأكول منها قضمتين مع رغيف خبز بالقرب من الصحن.

في المنتصف بالتمام والكمال، يجلس على أرض الغرفة رجل ضخم الجثة كثيف اللحية، يرتدي ملابس زرقاء كالتي يرتديها المرضى في المستشفيات، كان ينظر إلى الأرضية عندما دخلت، لكنه رفع رأسه عندما سمع صوت الباب يفتح وفي اللحظة التي دخلت التقيت عيناي بعينيه.

– مرحبا.. حازم قهوجي معك

– أهلاً حازم بيك.. تفضل على الغدا.. حبتي بندورة كما ترى ورغيف خبز.. أعتذر فأنا أشعر بالدوار وهذا الطعام.. فقط هذا الطعام يريحني.. طلبت

لكنه سكت وبدأ يفرك رأسه كمدمني المخدرات، ثم حاول الوقوف لكنه سقط، ساعدته على الفور ونقلته إلى السرير، وبعد أن استلقى أكمل كلامه.

– طلبت أن يحضروا لي ويسكي وبيرة ونبيد.. نبيد أحمر.. يا إلهي مشروبي المفضل.. ما هو مشروبك المفضل؟

– فودكا مع ليمون والملح

– ايع.. ما هذا القرف يا رجل.. ملح؟

– نعم نعم.. من أنت؟

– أنا من.. لا تعلم من أنا؟

– لا.. أعتذر.. ولكن لم.. لم أستطع أن

– أنا عكرمة الصموأل يا رجل

***

اللقاء

(قيس قهوجي)

كنا نتابع العملية أنا وفراس الفران عند الصديق غياث علي، رئيس قسم شرطة دمشق، أمامنا شاشة تعرض ما تصوره الكاميرات التي تغطي الشوارع التي تجري فيها العملية، ولابتوب فراس يعرض كاميرا ثبتناها في الحي المغلق.

بعد أن اصطدمت السيارتان فقد رامي وعيه بسبب نظام الحماية، ثم وصلت سيارتا إسعاف، إحدى السيارتين أسعفت رامي ومعه الصموأل إلى المستشفى، سُجلت شهادة وفاة الصموأل في المستشفى وسُجل دخول رامي، ثم خرجا دون تسجيل الخروج بسيارة لنا كان يقودها جورج، وانطلقت إلى يبرود حيث يعمل والد غياث علي في مزرعته الصغيرة.

في عملية القتل استخدم رامي مسدساً يطلق رصاصاً يخترق الجلد في حدود سنتيمتر واحد ويخرج مخدراً قوياً يخفض سرعة دقات القلب لدرجة لن يتمكن طبيب من قياسها، ولكن لا بأس ففي المستشفى التي يمتلكها فراس الفرّان ينتظره طاقم طبي من الأصدقاء، سيقومون بالإجراء الروتينية كلها ثم سيخرجون الشابان دون -كما قلت- تسجيل خروجهم، ثم كانت الخطوة التي لم تسجَّل على الورقة التي سلِّمت لرامي، إذ إن نهاية المهمة هي وصوله للتقاطع في الشعلان.

عند استيقاظ رامي صباح اليوم التالي في يبرود حيث كنا نجلس منتظرين، خرج مع جورج إلى منزل حازم من أجل إكمال بنود الجزء الثاني من الخطة، وخرج فراس إلى الرحيبة، سيصل الشابان إلى المزرعة، سيلتقي كل منهما مع لانا الخطيب كي يتلقى جزأه من الخطة ثم ستلحق بهما ديما لتأخذ جزأها المخصص.

في ذلك الوقت، ذلك اليوم، وهو اليوم الثلاثون، أي نهاية الشهر، المدة الموضوعة لنسلم أنفسنا مع وثائق الأحزاب كاملة، استقليت سيارتي وانطلقت إلى حلب، إلى الفرع الرئيسي للشمس، حيث مكتبها الموجود في برج عالٍ يتكون من مئة طابق، هو المقر الرئيسي للفرع.

سأصل في الساعة الثامنة مساءً إذ إن خبر مقتل الصموأل قد انتشر في كل مكان، خبر مقتل الصموأل على يد الصديق رامي قهوجي، سينشر الخبر مجموعة كبيرة من الأصدقاء، من الجيل الأول، مجموعة موثوقة المصدر وكثيرة المتابعة، ستنقل جميع المحطات الخبر، وسيتداول الجميع الفيديوهات والوثائق.

في هذا الوقت العصيب على الشمس ورجالها سأصل أنا، المقاتل العنيد، إلى مقرها، إلى مكتبها حيث تجلس مشغولةً تخطط هي ومجلسها الأول، ما الحل؟ سؤالهم الذي سيشغل المجلس، فبعد هذه المفاجئة من العيار الثقيل جداً قُلبت الطاولة على رؤوسهم، أمن المعقول نحن نقتل؟! لااا هم يعلمون ولكن ما الهدف؟ سيتساءلون، وهذا أنا، هنا، الآن أقف منتظراً السماح لي بالدخول إلى مكتبها لنجتمع في موعد لم يحدد ولم يكن متوقعاً، أبداً، وبالمناسبة، أنا لا أحمل الملفات المطلوبة، ولم يأتي رامي معي، بل أحمل ملفاً صغيراً سيكون هو الحل الأخير لها؛ فأنا من سيجد لها الحل وليس رجالها عديمي الفائدة، كما صرخت في وجهها يوماً في إحدى المحاكم التي سجنتني سنة كاملة مع بعض الأعمال المجتمعية.

دخلت، إنها أمامي تقف مبتسمة بسعادة لا توصف، هي تعلم أني أحضرت الخازوق العثماني معي، وأنا أعلم بأنها تعلم بأني لم آتي إلى هنا كي أفاوض بل كي أقاتل، وقفت بجسدها الرشيق أمامي وبوجهها الناصع اللطيف، لم أرً أيّة تجاعيد، اللعينة يبدو أنها تستخدم تكنولوجيا محرمة، لا بأس، جرمها مبلغ كبير من المال، ولكن أنا أحضرت لها جرماً سيدخلها في دوامة لن تخرج منها إلا إلى مكبٍ لنفايات الأنظمة البائدة.

– مرحبا بالرفيق.. (قالت لي)

– أهلاً بالرفيقة

– انصرفوا

بالمناسبة عندما دخلت، كانت تقف في الجهة المواجهة لي، وراءها لوح كالألواح الدراسية البيضاء، لكنه كبير جداً، يغطي الحائط تقريباً، ثم ضغطت زراً من الجهاز الذي كانت تحمله فارتفع اللوح واختفى، ثم قالت “انصرفوا”، كانت تكلّم عشرة رجال تقريباً يجلسون على يميني، على منضدة خشبية كبيرة جداً، في وضعية لطيفة ينصتون لها قبل أن تسمح لي بالدخول، عندما قالت لهم “انصرفوا” وقف الجميع باحترام لا يضاهيه احترام ثم غادروا مكتبها على الفور، وقد أشار لي كل رجل برأسه عند الخروج، ثم

– الجبان قاتل الأصدقاء.. (بابتسامة لطيفة صفراء قالت الجملة)

– هذه المشاهد.. انصرفوا.. ثم ينصرفون.. حتى أسوأ الأفلام العالمية لم تعد تستخدم مشهداً مماثلاً

– أنا كلاسيكية.. تفضل

– شكراً لك

– شاي أم قهوة؟

– مع أو دون سم؟

ابتسمت وقد استشعرت قرفاً يلوح من عينيها، ثم قالت:

– دون ولكن إن شئت.. لا بأس.. تكرم عيونك صديق قيس قهوجي

– من فضلك.. رفيق أفضل من صديق.. قال

– أعلم.. أعلم.. المهم.. أين رامي؟.. وأين الملفات.. أنا أعلم بأنها كثيرة جداً.. وهي لا تتسع في جيبك الصغير.. أليس كذلك؟

– حاولنا أن ندخلها في جيبي ولكن فشلنا.. عزيزتي ال

– رفيقة أيضاً.. عزيزتي هذه لا أحبها

– رفيقة الشمس.. رفيقة شمس أفضل.. فرفيقة الشمس ثقيلة على اللسان

– ولكن أفضل.. وأوجب يا رفيق.. تفضل

– نحن رفقاء بماذا؟

– هذه عادة

– أعلم.. المهم يا رفيقة.. جلبت معي.. في هذا الجيب.. فقط أمراً بسيطاً.. رقم تسلسلي

– ذاكرة رقمية

– لا لااا.. لا تسمى هكذا

– ولكنه الأفضل أعتقد

ثم نهضت واتجهت إلى باب المكتب، فتحته وأخذت صينية موضوع عليها كوبي قهوة، وعادت بها.

– أهلاً وسهلاً بك.. منزلك الصغير

– فرعي الصغير

– نعم هو فرعك.. نعلم أنك تحب القهوة السادة.. تفضل

– شكراً لك

– إذن جئت لنناقش مقتل الصموأل

– نعم

– إذن رجل برجل؟

– لا أبداً.. المهم.. ادخلي إلى الذاكرة المخصصة له.. وانظري جيداً.. جيداً في الفيديو الموجود

فعلت ما قلت لها وهي تبتسم كامرأة منتصرة، لكني درستها كما درستني، هي كذابة، خائفة، مرتجفة القلب، ولكن لا بأس، في الفيديو الموجود صورة واضحة للصموأل وهو ينزل جثة الصديق إبراهيم الطويل، ثم يمسح أي أثر له، ويغادر سيراً على الأقدام وهو يترنح سكراً، بالطبع كما تعلمون هو سكران دائماً، يستيقظ لحظة العمل ثم يعود لسكرته.

– جميل.. وهل نشرتم الفيديو؟

– لا لااا.. الفيديو لا يزال بحوزتنا

– ومن أين لكم.. أن.. أنت تعلم بمسألة الحظر

– نعم بالتأكيد.. لفراس علاقات مضحكة

– فراس الفرّان؟

– نعم.. فراس الفرّان.. له علاقات كثيرة

– نعم.. يحسد عليها

– بالطبع.. المهم تخلى عن ثروته مقابل أن يأتي بهذا الفيديو من طريق صفقة عقدها مع مخابرات دولة ما

– دولة ما.. وهي؟

– لا أعرف.. قلت لك كل ما لدي

– فساد دولي.. يا سلام.. أعتقد بأنك ستواجه سجناً طويلاً أنت وفراس بيك

– بالطبع لا.. اتفاق بين حكومتين.. أخذ فراس الفيديو بعد اتفاق شخصي مع الحكومة على ثمن معين وقد جرى ذلك بإشراف رجال من الحكومة السورية.. وهم بالمناسبة من الأصدقاء.. ولكن لم يكن الأمر على نطاق موسَّع.. ثلاثة رجال سوريون وحكومة أجنبية أبقت الأمر سراً.. على أن تكشف الحكومة الصديقة الصفقة على أنها طلب رسمي من حكومة دمشق كي تكمل تحقيقاً ما.. وهذا أصلاً ما جرى.. ولكن لم نكشف فقد لا نضطر.. كما أعتقد

– واثق بنفسك يا رفيق.. ولكن المهم.. الصموأل لقي ما يستحق

– بالطبع.. لقي ما يستحق.. ولكن

– ولكن؟

– اعتقد بأننا مضظرون أن نتصل بأحدهم

***

الانطلاق إلى المواجهة

(رامي قهوجي)

خرجت من عند لينا الخطيب قاصداً عصام الفرّان، ابن فراس الأصغر، حيث كانت مهمته أن يوصلني حيث أريد، لكن وقبل التوجه إلى الوجهة الأساسية انطلق إلى دمشق، العدوي، البناء السادس والخمسون، الطابق الثالث، الشقة الأولى، حيث تقطن بتول السمكري.

دققت الباب ثلاثاً ثم تراجعت إلى الوراء، فتح الباب وخرجت منه السيدة الأولى، لي، بالطبع، لا يوجد في سوريا لقب السيدة الأولى حتى الآن، يوجد لدينا زوجة للرئيس ولكنه ليس لقباً رسمياً، هذه المعلومة كي لا يتفذلك حازم حين يقرأ شهادتي، ولكن سأطالب بذلك كي أعِدَ بتول بهذا المنصب، المهم، اقتربت منها فابتسمت كالعادة، لكنها تراجعت عن ابتسامتها قائلة:

– ما بك؟

– هااااا

– عيناك

كنت أعلم، لم ترى لهما مثيل من قبل، بالمناسبة، ورقة التعليمات -أي الخطة الموضوعة التي سلمتني إياها لانا مسبقاً في صباح اليوم- لا تشمل المرور لرؤية بتول، وهذه مخالفة سأبعد بسببها سنة كاملة عن الأصدقاء، ولكن لا بأس، لن أكون متفرغاً وقتها، فسأكون مع بتول في سنة العسل، فالاتفاق أن نتزوج بعد انتهاء المهمة، وذلك كي لا يبعد أحدنا عن الآخر، وبالطبع هي ستبتعد فأنا البطل، والقصة كالتالي، الحبيبين، مسموح، ولكن الزوجين، ممنوع، وهذا القانون سأحاول أن أعدله إذا أصبحت يوماً ما، وهذا مستحيل، رئيس المجلس الأول، المهم.

أمسك يدها، ثم رفعتها للأعلى، حتى وازت مستوى شفتي، فقبلتها، فتراجعت الجميلة إلى الوراء، فلحق بها جسدي لا إراديًا، فقالت:

– ممنوع.. لم تنتهي المهمة بعد

صحيح، بتول لم تسافر خارج سوريا، هي فقط سافرت قانونياً -أي في السجلات- خارج البلد، حيث تقضي إجازة غير معروفة النهاية في هاواي، ولكن يحق للصديق أن يسافر أو يبقى في البلد، بعد أن يسافر ورقياً، وهي قررت البقاء.

عودةً إلى القصة:

– ممنوع.. لم تنتهي المهمة بعد.. أتريد أن؟!

– فلتذهب المهمات إلى الجحيم

– خطر؟

– لاااا.. خطر وأنا موجود.. لا لااا.. شوق

ثم غافلتها، وقبل أن أغافلها في الحقيقة، مسموح الحب ولكن فقط الحب العذري، قال لأسباب مدروسة، والقصة تؤثر وووو، المهم، ثم غافلتها، رفعت يدي ووضعتها خلف رأسها ثم دفعت رأسها إلي ودفعت جسدي إليها حتى تقابلت شفاهنا، ثم غطست وارتويت ولم تقاوم، ثم اقتربت أكثر واقتربت حتى انطوينا كمجرتين وليس جرمين في هذا العالم الاحمق، مولاي الشاعر، ولكن لحسن الحظ قاطعنا اتصال.

– ماذا تفعل في شقة بتول؟

– هاااا.. (إنه فراس الفرّان)

– ارتفاع في الهرمونات في دمك

– كريات الدم الزرقاء اللعينة.. (بصوت عالٍ صرخت)

– انقلع إلى الهدف.. وعند انتهاء المهمة سأخرج منك الخلايا الإلكترونية وتعود إلى طبيعتك

– أمرك فراس بيك الفرّان

وعدت بتول بقبلة على وجنتها اليمنى، وطلبت منها انتظاري على أحر من الجمر، ففعلت كما قلت لها، أشعلت الموقد وانتظرتني في شقتها حتى عدت، وانطلقت أنا ووصلت بعد الموعد بساعة تقريباً فخصم من رصيدي عديد من النقاط.

أتمنى ألّا تُحذف القبلة من الشهادة عندما تتحول إلى كتاب، وشكراً.

***

المواجهة

(رامي قهوجي)

مساء ذلك اليوم، عندما وصلت إلى المكان المقصود بعد القبلة العظيمة، دخلت إلى المرحاض لأقضي حاجة خاصة، وعندما خرجت.

– رامي؟

– نعم نعم.. أهلاً بك يا حازم بيك قهوجي.. أراك في موعدك.. يا أهلاً ويا سهلاً.. ما الأخبار؟

– جيد.. وأنت؟

– لا بأس

– أحضرا لي ويسكي.. ويسكي من فضلكم.. أو نبيد.. أو خرا.. خرا مخمر مسكر.. لا مشكلة.. المهم أريد أن أسكر.. رجاءً يا عرصات

– هل الأحمق هكذا طوال الوقت؟.. (سألني حازم)

– نعم نعم.. طوال الوقت.. عكرمة الصموأل.. الخرا.. هل أتممت المهمة يا أخي العزيز؟

– كل سوريا تعلم الآن أنك من قتل الصموأل؟

– أنا ميت؟.. (سأل الصموأل كالأبله)

– على الورق

– وجئت كي تأخذ.. وتكتب.. في كتاب للتاريخ؟

– بالطبع لااا.. أعطه شيئاً ليشربه.. يبدو أنه شديد الغباء

– نعم.. نعم.. هذا أنا.. غبي وأحمق.. دون سكر

– أعلم.. وهل تدري أننا لا نعلم

قلتها بصوت الواثق وأنا أتجه إلى صندوق خارج المنزل، أو الغرفة الكبيرة، ثم حملته وعدت إلى الداخل، وأنا أصيح:

– تفضل.. اسكر

ثم بدأ يشرب كالحيوان المصاب، يكرع الزجاجة دفعة واحدة، يعيدها ثم يلتهم واحدة أخرى، وعندما أنهى الزجاجة الخامسة وهو يقف كالجبل الذي نقف نحن عليه، سقط مغشياً عليه، وبعد لحظات رفع رأسه مبتسماً وبدأت ألاحظ الصموأل الذي قتلته، هذا هو وهذه هي ابتسامته، ثم أخرج من معدته بعضاً مما شرب وبعد أن انتهى انقض على الرغيف والبندورة وأكلها على دفعات كبيرة وكالمجنون.

أنهى الصموأل طعامه ثم قام بتنظيف المكان كما أمرته، وعاد، وفي هذه الأثناء تلقى أخي حازم اتصالاً هو الأهم خلال مسيرة حياتي المهنية.

– ألو.. هل تسمعني؟

كان اتصال صوت وصورة بالمناسبة.

– مرحبا.. حازم ورامي قهوجي.. ما الأخبار.. (هذا قيس ومعه الشمس من حلب)

– أهلاً وسهلاً قيس بيك.. معك.. (وفي كل مرة ذكر اسماً وجَّه كاميرا الهاتف إليه).. هذا رامي.. وهذا.. الصموأل

وعندما قال الصموأل سمعنا صوت شهقة خفيفة من الشمس.

– الشمس.. أتريدين الاطمئنان على رجلك التافه.. الصموأل.. (قال قيس بصوته الواثق الثابت)

– لا لااا

– أنا بخير سيدتي.. أنا بخير.. (قالها الصموأل بعد أن قذف السكْر عن وجهه)

– أحسنت صنعاً.. (قالتها له وكأنه كانت تتمنى لو أنه ميت بالفعل)

– المهم.. (قال قيس ثم تنحنح وأكمل).. الصموأل بخير كما ترين وهو.. (فقاطعته الشمس)

– وما أدراني بأن هذه المحادثة مسجلة؟!

وفي هذه اللحظة رن هاتف الشمس، وقد كنت أنا من يتصل، فقد توقع قيس هذا الشيء، ولمدة دقيقة واحدة راح الصموأل يعتذر منها، ثم أكمل قيس كلامه.

– كما ترين على قيد الحياة

– والتقارير والفيديوهات.. وسجل المستشفى؟.. (سألت)

– كل شيء مزيف.. كما تمّ تزييف شهادة وفاة إبراهيم وشهادة وفاة فشكة.. كما تعلمين.. فشكة ما هذا الاسم الغريب.. (قيس كعادته يقاطعه نفسه لذكر معلومة لا أهمية لها).. اسم غريب.. المهم.. كل تفاصيل الموت الذي زورتيه لفشكة وإبراهيم تمّ تزويره للصموأل.. وإذا كنت تريدين.. لا بأس.. هل الفيديوهات جاهزة على الذاكرة يا حازم؟

– نعم يا قيس

– هيا فلنتابع.. (قال قيس بسعادة)

وخلال ساعتين شاهدنا فيديوهات لكل من عمل على تزوير المعلومات المخصصة بجريمة مقتل الصموأل، الإعلامييون والصحفيون والكتاب، كلهم ظهروا يؤكدون تورطهم في هذا التزوير، وقد أكدوا بأنهم دُفعوا من الشمس كي يقوموا بما قاموا به، منهم من أجل الخدمة ومنهم من أجل المال فقط.

– وهكذا أنتِ قمت بتلفيق جريمة مقتل فشكة.. صاحب الاسم المقرف.. وكما تعلمين فيديو الصموأل يبرِّئنا من الانتحار.. ويورطك.. وإضافة إلى ذلك كل من شهد ضدك في الفيديوهات مقربون منك.. أصدقاء معارف.. أشخاص يعملون معك.. وكلهم من الأصدقاء

– الجيل الأول؟

– طبعاً.. الجيل الأول.. المهم.. (لكنها قاطعته)

– وما المهم.. أنتم قتلتم ونحن قتلنا.. ولا دليل لديكم بتورطي في قتل إبراهيم.. تصرف فردي

– لاا لاا.. لن أتورط وحدي يا ست الكل.. (قال لها الصموأل)

– بالتأكيد.. (أجابته الشمس)

– حسناً.. المهم.. أنت زورتِ وفاة فشكة كما زورنا نحن وفاة الصموأل وهذه تؤدي إلى تلك وستتورطين.. وأنا مستعد أن يتم إعدامي في حلب

– وأنا مستعد

هذه أنا قلتها وقد أمرني قيس أن أقولها عندما يقول هو ذلك، المهم.

– ورامي كذلك.. أنا ورامي نعدم مقابل مقتل فشكة فرضاً إذا لم نستطع أن نقنع القاضي بقضية الصموؤل وفشكة.. وكيفية التزوير مع أن القضية واضحة.. نموت نحن وأنت قتلت إبراهيم وجبهة الأحزاب العشرين تنتهي.. والفرع يغلق.. وتنتهي الحرب بانتصارنا.. أو

ثم صمت قيس فجأة وأشعل سيجاره الكوبي، وأعتقد أنه تقصد ذلك ليكسب بعض الوقت فقد تأخرت الضربة الأخيرة.

– أو؟

– أو

ثم رن جرس السكرتيرة قائلة:

– سيدتي..ضيف جديد

– جميل.. ضيف.. فليتفضل.. (قال قيس)

– حسناً فليتفضل.. (أجابت الشمس)

***

التوقيع

(ديما قهوجي)

في الطريق إلى حلب عشرون مزرعة ومقراً تتبع لشركة الفرات، عددتها وودعتها خلال رحلتي الطويلة نفسياً، القصيرة زمنياً إلى حدّ ما، أمام بناء في الساعة التاسعة والنصف مساءً تقريباً هبطنا أمام بناء ضخم، أعتقد أنه مكون من عشرين طابقاً ثم اكتشفت أنهم اثنان وعشرون من المصعد.

لم يكن الدخول هيناً، فقد أوقفني الحرس، وهذا أصلاً ما توقعته، تحققوا من هويتي ثم أدخلوني إلى قسم الاستقبال حيث رحّب بي رجل يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، متوسط الطول، لا شعر لديه أبداً، ويرتدي بدلة سوداء وتبدو عليه علامات الغضب، ولا أدري لماذا، ولم يجبني عندما مازحته لحظة سمح لي بركوب المصعد.

أول الأمر، طلب مني هويتي ثم سبب الزيارة، أعطيته ورقة موجودة داخل الملف الذي سلمتني إياه لانا الخطيب، أخذ الورقة وهويتي ثم غادر القاعة التي أجلسوني فيها، انتظرته قرابة العشرين دقيقة قضيتها أحتسي قهوة سيئة الصنع، أعتقد أن المسؤول عن البوفيه بخيل، أو أحمق، أو ذائقة الجمهور العامل هنا في البناء سيئة، أو طلبوا منه أن يصنعها لي، فأنا ديما قهوجي وهذا شيء سيء بالنسبة لهم.

بعد أن عاد طلب مني بلطف شديد أن أتبعه إلى خارج القاعة، ثم سرنا إلى قرب المصعد لكننا لم نستخدمه، ثم سرنا إلى باب مقابل للمصعد فتحه وأدخلني، بين الباب الذي عبر منه وباب آخر ممر طويل جداً، يبلغ الأربعين متراً والغريب أنني لم أرَ باباً واحداً أو مخرجاً واحداً من الممر إلّا البابين الأول والثاني، سألته فابتسم مخرجاً مقدمة أسنانه ثم أكمل طريقه.

فتح الباب ثم دخلت إلى قاعة كبيرة مرتفعة السقف، ثم رفع يده مشيراً لي أن أتقدم إلى أحد المصاعد التي تبلغ الثلاثين، على ما أعتقد، بالتأكيد اتبعت إشارة يده ثم تبعني، أمام المصعد أعطاني مفتاحاً وأمرني أن أستخدمه عندما يتوقف المصعد، ثم غادر بعد أن تأكد بأني قد انطلقت في رحلتي إلى الأعلى.

دقيقة واحدة ثم توقف المصعد، بحثت عن مكان لأضع المفتاح فيه، فلم أجد شيئاً، ثم فجأة خرج نتوء صغير من منتصف الباب وفيه غمد المفتاح، أدرت المفتاح، ورجعت إلى الوراء حتى فتح الباب، في الطابق الذي وصلت إليه يوجد شجرتي نخيل أمام المصعد وخلفهما حائط زجاجي يطل على مدينة حلب، على يميني قاعة كبيرة جداً لا تحتوي على شيء أبداً، وفي نهاية القاعة باب خشبي يميل لونه للسواد، عندما وصلت إلى منتصف القاعة فتح الباب، فعبرت إلى الطرف الآخر حيث رأيت منضدة خشبية تجلس فتاة جميلة القد قبيحة الوجه تجلس خلفه.

– مرحبا.. أنا

– ديما قهوجي.. أهلاً وسهلاً بك.. إنهم بانتظارك

– شكراً لك

طبعاً على يسارها باب خشبي مشابه للأخير، فتح لحظة وقفت قبالته، وخلف الباب كما أعتقد أنكم غدوتم تعلمون، يجلس قيس ومعه الشمس.

– أهلاً بالرفيقة.. (رحبت بي الشمس بصوتها الثقيل الهادئ)

– أهلاً بالرفيقة

– مبروك موافقة القاضي.. (قالت لي)

– الله يبارك فيك

نظر قيس إلي وعلامة استفهام كبيرة تعلو وجهه، موافقة القاضي هكذا أظن راح يكلّم نفسه.

– الملف ديما.. (قال قيس)

أخذه على الفور، ثم جلست بالقرب منه، أخرج منه الأوراق وراح يتكلم.

– عزيزتي الشمس.. من الواضح لك بأني انتصرت تقريباً.. تقريباً

– لا تقرر.. أكمل وفقط .. (قالت الشمس لوالدي بنبرة أخفت خلفها توتراً يساوي الجبل التي تجلس عليه قلعة حلب)

– المهم.. يا عزيزتي.. ما الذي سيجري لو أن المعركة استمرت.. حسناً.. سأقول لك.. أولاً أنا ودياب سنموت لجريمة قتل ارتكبناها.. أمّا رامي ورفاقه سيدخلون السجن والقضية تتراوح من سنة لعشرة وسيرافقهم فراس الفرّان بسبب اختراق بيانات خاصة بهم.. أنت والصموأل ستقتلون وبضعة رجال ممن تورط بقتل إبراهيم الطويل.. ثم سيقضي بقية الأصدقاء على الجبهة العشرين ثم سيقضى على الفرع.. في البداية

ثم نهض وراح يتكلم ملوحاً بكلتا يديه.

– في البداية.. أعترف.. لم أكن مستعداً أنا أو أي أحد أن نموت.. نموت!.. لا لااا.. وأن يعتقل ابني لعشر سنوات وفراس.. ما هذه الخسارة القاتلة.. قاتلة لنا.. ولكن لباقي الأصدقاء.. فلا.. العمل سيستمر وسوريا ستكون بخير.. نعم كنا فرضاً قررنا التضحية.. لا بأس.. ولكن أنت ستنجين بفعلتك.. ستتأخر عملية الإيقاع بالأحزاب العشرين لأن أطراف القضية ذهبوا ولكن ستبقى الجبهة وهذا أكيد.. ثم سيُقضى على الفرع.. ولكن المصيبة كانت فيكِ وبرجالكِ وبمعارفكِ وفسادك.. ستبقين وستعملين إلى الأبد.. وستورثي عائلتك الخراء الذي تعملين فيه.. ولكن.. اكتشفنا قضية مقتل إبراهيم فكان هذا سبيل القضاء عليك.. ولكن.. نحن لا نفعل شيئاً واحداً يودي بحياة أحد حتى ولو كانت تضحية.. فنحن لا نضحي بالحياة بل نعمل للإبقاء عليها.. نحن لا نعبد آلهة نحن نعمل من أجل الغد.. ولذلك.. أمسكي هذا المظروف.. ستوقعين على أوراق تنازل بشركة الفرات.. ستكون لك.. على أن لا يعمل

– موافقة

***

الغروب الأخير

(قيس قهوجي)

نعم وافقت، وافقت دون أن أكمل الاتفاقية، وقعت الشمس على الأوراق بعد دقائق من موافقتها، هي أذكى مما يتخيلها أحد، عبقريتها جعلتها تصمد خلال سنوات طويلة من الحرب.

نعم وافقت، ووقعت على اتفاقية استسلام تخرجها بأقل الخسائر، خسائر تبقيها على قيد الحياة، تتمتع هي وعائلتها ببعض المال والوقت الذي كانت ستخسره لو أكملت الحرب حتى النهاية.

نعم وافقت، كما يوافق الشجعان لحظة يعلمون الحقيقة، لحظة يرون أن النهاية أتت، وأن الهزيمة باتت وشيكة، وافقت وقد اعترفت بهزيمتها، هي تعلم بأني على استعداد أنا والجميع أن نموت أو ندخل السجن، فلا حل آخر، وهي تعلم بأن كل شيء أصبح واضحاً ووشيكاً، فوافقت.

بعد أيام من التوقيع، نُقلت ملكية شركة الفرات إلى اسم الشمس الحقيقي، رائفة حيدر، وأصبحت شريكة حقيقية للحكومة الاتحادية، ثم رفعت الدعوة ضد حزب الجماهير، وبعد عشرة أسابيع من القضية سُحبت رخصة الحزب وأغلِق إلى الأبد مع زج الكثيرين في السجون، رُفعت القضية على شكل فيلم وثائقي لمجموعة من الصناع الشباب، كفضيحة إعلامية جرى الإعداد لها من داخل المحاكم وخارجها، وهكذا سقطت جبهة الأحزاب العشرين.

لاحقاً وبعد شهر واحد طُلب من البرلمان التصويت على إلغاء قانون الأفرع الأمنية فلم تستطع اللجنة المخصصة البت بالقرار بسبب نقص العدد فسقطت اللجنة وألغيت، وتقرر أن يجري التصويت في البرلمان، وقد جرى ما خططنا له، وتمّ إلغاء قانون الأفرع الأمنية إلى الأبد.

كانت تنص الاتفاقية مع الشمس ألّا تعمل مع أحد رجالها، وأن تعطينا قائمة بالرجال الذي يعملون معها داخل الحكومة، قوائم برجال الفساد وقضايا تسقطهم، ثم سيتم الأمر بالمغافلة، لن تستلم عملها الجديد إلّا بعد أن يتم القضاء على الجميع، سيُلاحق الفاسدون في قضايا متنوعة، ستخسر في وقت لاحق ترخيصها الأمني، ثم عملها في تجارة الحشيش وستسحب منها جميع المناقصات والمشاريع والعقود الموقعة.

وبعد أن تستقر الأمور وبضمان منا أنها لن تمّس أبداً بسوء ستعود إلى منزلها لتدير كما تشاء شركة الفرات.

بعد ثلاثة أشهر طويلة في أروقة المحاكم والبرلمان، وفي اليوم الذي تقرر فيه إلغاء قانون منح التراخيص الأمنية للأفرع جلسنا أنا وأولادي الثلاثة في مزرعتي في الزبداني، ورحنا نراقب الغروب الأخير، الغروب الذي سيودع دمشق، لتأتي شمس تشرق على سوريا لأول يوم منذ مئات السنوات دون أفرع أمنية تجثم على صدور أهل هذا البلد العظيم.

كانون الأول 2017

(تمت)