العَقد الجَليل

0

د. مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوريّ

مجلة أوراق العدد 12

نصوص

أنا العَقدُ الجَليلُ ذو النَّدبةِ المارِقة.. استيقظتُ في اليوم الأخيرِ من حياة الخوف، وقفزتُ دفعةً واحدة إلى المركبِ الخزفيِّ الغامض.. قالوا لي: العاصفةُ القادمةُ مُرعبةٌ، وأنتَ وحيدٌ في الميناء، فاكتفِ ببعضِ الأطعمةِ البسيطة، وأكثِرْ من الدُّعاءِ كي تنجوَ ممّا يُحيكُ لكَ المُناخُ على الأرصفةِ الموحِشة.. أجبتُ: تَنحّوا جانباً أيُّها المُرتعدونَ ذُعراً، وانحسِروا عن أطراف ظلِّي المُحارِبِ: أنا العَقدُ الجَليلُ، أخذتُ على عاتقي البحثَ عن طريقةٍ أفضل! وضعتُ الكُرةَ الأرضيّةَ مكانَ قلبي، وأطلقتُ قلبي مُتفرِّغاً للمَجازِ السّاحرِ عساهُ يبسُطُ مَدائِنَ لا تحتُّها ريحٌ أنَّى انبثَّتْ ثورةٌ ونبتَ جَناحٌ.. قلتُ: الفنُّ مُوجِعٌ كدربٍ من الأعشابِ النّادِرَةِ الضَّارَّة، والحُرِّيَّةُ المنسيَّةُ قد تستطيعُ لَيَّ مُفرداتِ العذابِ على حُروفِها الجامِحة.. هوَ الوجودُ المُغايِرُ، وقد اقتنصْتُ مفاتيحَهُ من أفواهِ النِّداءاتِ المُتصاعِدةِ بُخاراً رطباً كالثّاراتِ.. أشرتُ للجميعِ أنِ انصِتوا، فأنكَروا عليَّ ما أسمَعُ، لكنَّني صمَّمتُ على بلوغِ الجزيرةِ المَمنوعةِ في الجَمالِ، وكرَّرتُ مُحاولاتي لفتحِ عالَمٍ لم يَسبِقْ لهُ أنِ انكشفَ على هذا النَّحْوِ الغريبِ، مُردِّداً كحفّارِ قُبورِ القانطينَ: إنَّهُ انزياحٌ أخضرُ في إهابِ عشرِ سنواتٍ ملعونات، أو هوَ تخلُّعُ أبوابٍ مُوصدةٍ، وتمرُّدُ وردةٍ على الطَّوقِ المعدنيِّ الخانِق. هكذا؛ مسَّدتُ بأصابعي جدائلَ الهواءِ المريرِ، وحفرتُ اسمي على الخواءِ الحاسِمِ بإصرارِ الفُرسانِ الحالِمينَ، مُؤكِّداً أنِّي العَقدُ الجَليلُ الذي حمَلَ الهُمومَ الدَّمويَّةَ كما تُحمَلُ الهدايا الثَّمينةُ في قوافِلَ مهما تاهتْ تُغنِّي فيها اليمامةُ للسَّلالمِ إذ تتمايَلُ اكتظاظاً بالمُحالِ.. أنا ابنُ الاختباراتِ لا الابتهالاتِ، فلا مَهرَبَ من التَّحدِّي الجَماليِّ، ومن التَّنقيبِ عن مَخْرَجٍ في هذا الميناءِ الأشبَه باستديو يُصوَّرُ فيهِ فلمُ رعبٍ طويل: سأُدحرِجُ القارّات أمامي كأُسطوانات غاز تكادُ تنفجِرُ، وسأُقلِّبُ النَّظَريّات والأفكار بحثاً عن أكاذيبَ خالِدة نبقرُ بطونَها، فأنا العشرُ سنواتٍ الطّائِشات: البحارُ الهائِجة لا تشغلُني، ولا الغرقُ التَّراجيديُّ للعُشّاقِ.. المسافاتُ لا أقيسُها بالأمتارِ؛ إنَّما بالشَّهقاتِ، ولا تعنيني أبداً أزواجُ الحيواناتِ التي سأضعُها على ظَهْري المعدنيّ.. يا خُطى التَّجريبِ الأحمَرِ في ِفِناء الوجود.. يا سُطورَ الأماني المُقدَّدة من رحيقٍ: أنْ أُطلِقَ كينونةً، وأستدرِجَ فضاءً.. أنْ أظلَّ مُتحرِّكاً، وأُكرِّرَ، مَمسوساً، حتّى ينهارَ الجدارُ: أنا العَقدُ الأخيرُ للرَّغبة المُضنية: لنْ أُضمِّدَ جُرْحَ أُحجيةٍ سقطَتْ عن درّاجة الهُروب، ولنْ أرسُمَ لوحةً لفراشةٍ تُطفئُ النِّيرانَ المُحيطةَ بماءٍ مُعقَّمٍ كالخُطَبِ الرَّنّانةِ.. لستُ مُتعجِّلاً كي أُنصِّبَ الزَّيَغانَ المُثيرَ حارِساً على مَفازاتِ الجُنون، غير أنَّني أُفضِّلُ أنْ ينفضَّ المُطبِّلونَ، وأنْ تخلوَ الشَّوارِعُ، وأنْ تضَعَ الاستعارةُ تاجَ الانحراف على رأسِ الظُّنون.. أنا العَقدُ الجَليلُ: حاولتُ بكُلِّ قُوَّتي أنْ ألثُمَ انكساراتِ العدالة، زوَّدَني القلَقُ بالمُوسيقى، وابتساماتُ الجبالِ الشّاهِقة في المَنامِ شجَّعتني على اقتناءِ نيرانٍ عدوَّةٍ.. الموتُ بارَكَ انثنائي، والأحياءُ طعنوا في الأمَل، لكنَّ أقدامي أكملَتِ الانغراسَ في الرِّمالِ المُتحرِّكةِ البديعة، وأشرْتُ: هو ذا الكونُ يلتمِعُ كالبرقِ على حافَّةِ السَّماءِ، سأقطفُهُ، وأحتلُّ المُطلَقَ.. أنا المُنتصِرُ المَهزومُ الأعزَلُ المُريبُ؛ في كفِّي ليلٌ ونهارٌ ومُروجٌ وأقاحٍ وأفاعٍ وقُضاةٌ ومُجرمونَ وتظاهُراتٍ وحروبٌ ومذابِحُ وقصائِدُ غزلٍ، وعلى جبيني يثورُ ما بدا رخيّاً كجثَّةٍ: إطلالتي كمانُ الاشتياقِ، وتلويحاتي بداياتٌ.. حُنجرتي بيتُ الهوى الدّافئ، وحبالي الصَّوتيّة تتبدَّدُ فيما يُشبِهُ الله..