هذا هو العنوان الذي اختارته د. سلام نجم الدين الشرابي، لكتابها الصادر عام 2022 عن دار الحكمة في لندن، ومن العنوان نستخلص وجهة نظرها عن السخرية التي هي عندها “البكاء الضاحك”، وهو ما أجده قريباً من تعريف الشاعر السوري الساخر الراحل محمد الشيخ علي، الذي عنون مجموعته الشعرية الأولى التي صدرت بداية تسعينات القرن الماضي “مقلوب البكاء”.
وترى الدكتورة سلام أن “قوة الصحافة الساخرة تكمن بأنها لا تعرف المجاملة، فهي ليست كالطرفة؛ فكم من طرفة أنقذت قائلها من الموت بين أيدي الخلفاء والولاة، وكم من نادرة أضحكت أميراً أو حاكماً فعادت على صاحبها بالخير والنفع والأعطيات.. فيما جلبت السخرية لقائلها السجن.. النفي.. والقتل”.
تأصيل المصطلح
في الباب الأول تؤسس الباحثة لموضوعها بالبحث في “البعد الفلسفي واللغوي للسخرية”، وتعرض لأهم تعريفات الكتابة الساخرة تاريخياً، ومنها:
*هي طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس المقصود حقيقة.
*السخرية: فن تبتدعه النفس البشرية لمواجهة ما في حياتها من شدة وقسوة وحرمان.
*تعريف سبنسر: النكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلفة واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكت التي تفيد النفس والذهن…
*السخرية فن الالتفاف على المحظور.
*السخرية سلاح للمعركة إذ إنها تعيد الثقة للمقاتل عندما تقضي على القلق.
وبعد بحث مستفيض في المصطلحات والتعريفات الفلسفية واللغوية، تخلص الدكتورة الشرابي إلى أن المصطلح الأكثر ملاءمة لهذا النوع من الكتابة هو “الصحافة الساخرة”، وليس صحافة “الهزء/ الهازئة” أو “الهزلية” أو سوى ذلك من المصطلحات التي أُطلقت على هذا النوع الإبداعي تاريخياً.
تاريخ الكتابة الساخرة عند العرب
في الباب الثاني، تعود الباحثة إلى تاريخ الكتابة الساخرة عند العرب، وهنا بالطبع سيبرز الأدب – بشعره ونثره الفني- ركيزة أساسية في البحث، إذ إن المُنتَج العربي -ما قبل الصحافة- اقتصر على هذين النوعين من الكتابة.
وتبدأ الشرابي استعراضها من نقطة شعر الهجاء في العصر الجاهلي، مستخرجة عناصر وسمات السخرية فيه. وترى أن السخرية في الهجاء تؤدي غرضين، أولهما: جذب المتلقي وإجباره على رواية ما سمع، وإن كان سبّاً في أهله!.. والثاني: دحر المهجوِّ بإضحاك الناس عليه.
ثم تنتقل الباحثة إلى “الأسلوب الساخر في القرآن الكريم”، وترى أن “سخرية القرآن الكريم ترسم دائماً في صورة أو تقترن بصورة محددة بحيث يشعر السامع كأنه يرى هذه الصورة بعينه، ويرى فيها موضع السخرية بارزاً”… مستشهدة بكثير من الآيات التي حملت صوراً شتى للسخرية، منها قوله تعالى: “فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حُمُرٌ مستنفرةٌ فرَّت من قسورة” (المدثر الآية 49-51).
وبعد استعراض مفصل تختمه بالحديث عن “مدى تأثير القرآن في تطوير الهجاء العربي”، تنتقل المؤلفة إلى تطور الهجاء في صدر الإسلام والعصور التالية (الأموي، العباسي، الأندلسي)، ومن أهم ما تلحظه هنا التغيرات القيمية التي طرأت على شعر الهجاء عند العرب بعد الإسلام، ذلك أن الإسلام استند إلى جملة من الضوابط الأخلاقية السامية التي أثرت جلياً في موضوعات الشعر ومعانيه، ومن ذلك شعر الهجاء الذي هو حامل السخرية آنذاك.
ولا يخفى أن العصرين الأموي والعباسي، شهدا ولادة نوع جديد من السخرية حُملت على “شعر النقائض” بين جرير والفرزدق والأخطل ومشايعيهم، ومن بعدهم في النثر الفني على يد الجاحظ وابن المقفع وآخرين.. ومن ثم تولَّد نوع جديد بابتداع فن “المقامات” الذي يقوم على السخرية معنىً حيناً ومبنىً حيناً آخر، وعلى مستوى الشكل والمعنى أحياناً.
الأسلوب الساخر في الصحافة
في الباب الثالث من الكتاب، تدخل الكاتبة في صلب موضوعها، مستعرضة بتفصيلٍ نشأة الصحافة الساخرة وتطورها ومفهومها، فتعيدها إلى عصر الفراعنة الذين عرفوا الصحافة الساخرة قبل 37 قرناً خلت، وفق الكاتبة.
ثم تنتقل إلى تاريخ الصحافة الساخرة الحديثة ونشأتها في عدد من الدول الغربية (بريطانيا، الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا..) وتعود تلك النشأة إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر.
أما في العالم العربي، فتقول المؤلفة إن أول صحافة ساخرة ظهرت في مصر عام 1877، مع مجلة “أبو نظارة” التي أصدرها يعقوب صنوع، ثم توالت الإصدارات مع “النديم، التنكيت والتبكيت”، و”الابتسام” و”الطرائف” و”المسلة” إلى عشرات الإصدارات التي ازدهرت في النصف الأول من القرن العشرين.
وفي سوريا، انطلقت الصحافة الساخرة بدايات القرن العشرين، مع صحيفة “حط بالخرج” التي أصدرها فخري البارودي ومحمد عارف الهبل في دمشق عام 1901، ثم تبعتها مجلات وصحف “أعطه جمله 1909، النفاخة 1909، المكنسة 1910، ضاعت الطاسة 1910، مسخرة 1910، كشكول 1910، حمارة بلدنا 1910، البغلة 1913، جراب الكردي 1914، عكاز أبو نواس 1911، بردى 1911، انخلي يا هلالة 1910، جحا 1911، النديم 1911، العفريت 1911، الطبل 1919، المرسح 1911، الزمر 1921، الثعبان 1926، الخازوق 1928، الحوت 1926، السهم والتجدد وكلاهما صدر عام 1927، المضحك المبكي 1929، الضاحك 1941، عصا الجنة 1947، السنابل 1954، الكلب.. ومعظم هذه الصحف لم يعمر طويلاً بسبب ملاحقة السلطات لها.
وفي هذا الفصل نستغرب من الكاتبة عدم الوقوف بالتفصيل على تجربة “عصبة الساخرين” التي تشكلت في سوريا عام 1947 أو 48 على يد الأديبين عبد السلام العجيلي وحسيب كيالي وعشرة أدباء آخرين، وكان لها الدور الأبرز في الكتابة الصحفية والأدبية الساخرة في ذلك الوقت وما بعده، حتى إن معظم الكتاب الساخرين الآن متأثرون بشكل أو بآخر بتلك التجربة.
وبعد استعراض تاريخ الصحافة الساخرة في السودان والمغرب وتونس وبعض دول الخليج العربي، تنتقل الباحثة إلى فن “الكاريكاتير” بوصفه جزءاً أصيلاً من الصحافة الساخرة، وتقدم الدكتورة الشرابي للموضوع بالقول إن “الكاريكاتير فن قديم جداً نشأ بنشوء الإنسان على الأرض، حيث ما زالت كهوف كامبرل في فرنسا وكهوف جنوب الجزائر تحتفظ منذ ثلاثين ألف سنة مضت بالعديد من رسومات إنسان العصر الحجري ذات النزعة الكاريكاتيرية الواضحة”.
أما النشأة الحديثة لهذا الفن فكانت -وفق الباحثة- في القرن التاسع عشر مع تطور تقنيات الطباعة.
وخلصت الدكتورة الشرابي إلى أن للكايكاتير وظائف اجتماعية اتصالية أبرزها: تحقيق الانتشار، التأريخ، الوقوف في وجه الفساد.. إضافة إلى وظائف إخبارية وجمالية واقتصادية.
الصحافة الساخرة الآن
من التاريخ، تنتقل المؤلفة إلى واقع الصحافة الساخرة عالمياً وعربياً، ففي حين ترى حاضراً مزدهراً لها في الغرب ومستقبلاً أشد توهجاً، ترى في المقابل أن تاريخ الصحافة الساخرة أفضل من واقعها في العالم العربي، بسبب افتقار المناخ العربي إلى الحرية التي هي الضرورة الأولى لهذا النوع من الكتابة.
وتعدد الكاتبة أسماء بعض الصحف والمواقع الساخرة في العالم العربي، وتستعرض أبرز أسماء الساخرين العرب من أمثال “المصري أحمد رجب، والشاعر والصحفي العراقي أحمد مطر، محمد الماغوط، محمود السعدني، الكاتب الأردني محمد طملية، القاص الكبير زكريا تامر، وآخرين…
الصحافة الساخرة والرأي العام
تخصص الدكتورة الشرابي الباب الرابع والأخير من كتابها ذي الأربعمئة صفحة، لدراسة تأثير الصحافة الساخرة في الرأي العام، وهو المحصلة المرجوة من العمل الصحفي، وتخلص إلى أن “الصحافة الساخرة تعد واحدة من أهم وسائل الإعلام الفعالة في المجتمع، والتي لها تأثير كبير فيه إذا وُظفت بشكل مناسب من حيث الأفكار والأهداف والكتّاب والأساليب والإخراج، ومن جهة آخرى لا بد لكي تقوم بدورها كما ينبغي أن تتم إماطة اللثام عنها من خلال توعية المجتمع بماهيتها وأهميتها ودروها الكبير والمؤثر في المجتمع”.
وتؤكد على ضرورة إزاحة سيف الرقابة بعيداً عنها حتى تكون سيفاً مسلطاً على سلبيات المجتمع بمؤسساته وهيئاته، فلا يسلم منها إلا من يسير على الطريق القويم.
والدكتورة سلام نجم الدين الشرابي كاتبة سورية ساخرة، تحمل شهادة دكتوراه في الإعلام/ تخصص صحافة ساخرة، وهي صاحبة أول منهاج جامعي لتعليم الصحافة الساخرة على المستوى العربي.
*تلفزيون سوريا