حسام عتال
مجلة أوراق العدد 13
قصص
مشيراً بإبهامه إلى طاولة وراء ظهره في ركن من أركان المقهى البحري:
– شايف هديك الطاولة على الزاوية؟
أجبته: إي شايفها شو قالولك عني أعمى؟
كنا أنا وقريب لي نحتسي القهوة ذلك اليوم الصيفي، وكانت تلك طريقتنا في إغاظة أحدنا الآخر، ورثناها من الصغر ولم تفلح السنون أو الشهادات الجامعية في تشذيب حواراتنا المبتذلة.
لم يأبه لسخريتي، فتابع هامساً وإبهامه ما زال معلقاً في الهواء:
– على تلك الطاولة قُتل الشهيد!
– مين؟ تساءلت وكأني لم أسمعه.
– الشهيييد. أعاد القول مشدداً على حرف الياء، متلفتاً حوله أولاً، ثم محدقاً للأمام في وجهي. قلت محاولاً عدم الاعتراف أنه قد أثار فضولي: بلا أكل هوا هلأ!
تابع، غير آبه بفضولي من عدمه: كنتُ جالساً على تلك الطاولة، وأشار إلى طاولة تبعد عشرة أمتار عن طاولة الحدث. نظرتُ إليها لأجدها بأربع أرجل كأي طاولة أخرى في المكان، ولكني كتمت التصريح عن تلك الحقيقة، فسألته:
– شو اللي صار؟
– كانوا أربعة يلعبون الطرنيب، وعلى طاولتهم شوية مازاوات وكام بطحة عرق… قرب منتصف الليل ارتفعت أصواتهم وبدأوا بالشجار… أخرج أحدهم مسدساً وخرطشه باتجاه أبو عبدو…
– العمى… على لعبة طرنيب؟
– كانوا سكرانين… المهم أبو عبدو وقف وقال: بدّك تقوص ولاك؟ اضرب لشوف.. اضرب لو كنت رجّال!
– وما حدا حاول يتدخل؟
– لك مين بدو يتدخل، عم قلك كانوا سكرانين.
– مو معقول. وبعدين؟
– سمعنا طلقة واحدة، ما عرفنا قصداً أو خطأً، المهم شفنا أبو عبدو انقلب على كرسيه، ثم انقلب هو والكرسي على الأرض.
– يا لطيف، مو معقول، وبعدين؟
– الناس شمّعت الخيط وهربت. ما حدا بدّه يكون شاهد بهيك جريمة.
– مو معقول!
– بعد يومين أعلنوا الوفاة، وعلقوا أوراق النعوات على عواميد الكهربا، ولزقوهم على الحيطان (الشهيد أبو عبدو. اغتالته عصابات الغدر الإرهابية، مدافعاً عن شرف الوطن).
– فعلاً مو معقول!
– شو اللي مو معقول، بتضل تقول مو معقول، مو معقول… لك وين عايش أنت؟
– طيب ما كان في شهود؟
– بلا شهود بلا خرا. رئيس الفرع ساواه شهيد مشان يطْلَع لأهله شوية مصاري، واحتمال بيت، ومعاش لعيلته، وبُكرة أولاده يدخلوا الجامعة بدون مجموع، أو يطلع لهم شي بعثة لبرّا.
– شكله واسطته تقيلة.
– مساعد أول بفرع أمن الدولة من عشرين سنة، شو بدك أكتر من هيك واسطة؟
شربت رشفّة ماء لأني أحسست فجأة أن ريقي ناشف. نظرت إلى البحر تحت المقهى. راقبت الموج يتمدد ويغمر الشط الصخري، ثم يتراجع بشكل شلالات صغيرة تنضح من مسامات الصخر، مرة تلو الأخرى.
– اي وبعدين؟
– ليلتها طلعنا أنا وابن خالتك، واحد يراقب الطريق، والثاني يكتب بقلم تخطيط عريض فوق كل نعوة (شهيد البطحة). ارجعنا البيت ميتين ضحك.
– يخرب بيتكم على هالعملة… مليح ما كمشوكم!
عدت إلى البيت وفي مخيلتي كيف مات أبو عبدو، مثل أفلام الكاوبوي. أصحاب اختلفوا على لعبة شدّة قام أحدهم قوص الثاني.. بُمْ!
انتابني شعور فج غريب، أو بالأحرى مزيج من عدة مشاعر صعبٌ وصفها. أشبه بالإنسان كيف أحياناً يبدأ يضحك على أمر ما، وينتهي بالبكاء، وبين الضحك والبكاء خليط من مختلف المشاعر.
ليلتها قررت أن أكتشف قصة أبو عبدو بشكل أعمق. ربما، أو على الأرجح، لأني أردت أن أكتشف نفسي وماهية مشاعري بشكل أوضح.
اليوم التالي بدأت بحثي عن معارف لأبو عبدو. نديم كان من جيرانه القدامى في الحارة التي نشأوا معاً فيها. الحارة على حافة مدينة جبلة القديمة، أبنيتها رمادية متلاصقة، يبدو أنها شُيّدت في عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي، لا توحي بأي طابع خاص. وكأن الذي صمَّمها كان يخشى أن يَكشف أسرار صنعته إذا أضاف إليها أي لمحاتٍ معماريةٍ فارقة، أو أنه ربما أراد أن يحمي ساكنيها من فضول الغير فجعلها بلا هوية. نوافذها مربعة ومزوّدة بأباجورات خضراء اللون كالحة. تتواتر بين كل نافذتين شرفة صغيرة كأنها خُصِّصت لأقزامٍ عوضاً عن بشر ٍبحجمهم الطبيعي. أبوابها ضيقة وطويلة، تنفتح على رصيف الشارع مباشرة، معززة بأطرٍ حديدية صدئة.
فتحَ نديم أحد تلك الأبواب وانزلق خارجا ليقف على الرصيف، ليس بعيداً عني ولا قريباً مني، كحارس مبنى في وقت مناوبته. كنت مسبقاً قد أخبرته هاتفياً عن سبب اللقاء، وكنت قد أقحمت اسم أحد أقربائي الذي له صلة عمل به، لأضغط عليه للموافقة. انتظرتُ ثوانيَ لكنه لم يَدعُني لدخول بيته فبدأت الحديث:
– أنت تعرف أبو عبدو منذ زمان؟
– آي. (اللهجة الجبلاويه تلفظها كما ال (i) بالإنكليزية)
– كيف كان بصِغره؟
– عادي…
– قصدي حبّاب، مشكلجي، شاطر، كسلان، اجتماعي، منطوي، وأشرت بهزة لولبية من رأسي بما يدل على التواتر.
– كنّا نلعب بالشارع، ونروح نسبح بالبحر، مشيراً بسبابته باتجاه البحر غرباً وكأن اتجاه الجبل الشرقي كان احتمالاً مماثلاً.
– وكيف كان بالمدرسة؟
– عادي، لا أشطر طالب بالصف، ولا كسلان كتير كمان.
– مشاغب؟
– كان حِرِك ويحب المزح، لكن مو مشاغب أكتر من غيره. عادي.
– أي مواد كان مميز فيها؟
– كان شاطر بالشعر العربي ويحفظه بصم فوراً، وكان حافظ جزو عمّ.
– حفّظوكم جزو عمّ بالمدرسه؟
– لا.. حفظناه بالكتّاب.
– أبو عبدو راح معكم على الكتّاب؟
– آي، مثله مثل غيره. أجابني وهو يمط شفته السفلى.
– وبعد المدرسة؟
– راح العسكرية الإلزامية وسمعنا أنه انفرز لشي فرع أمن بالحسكة. في ناس قالوا أنه تطوّع. المهم، بعد كم سنه انتقل مدير فرع الأمن من الحسكة لجبلة وجابه معه.
– جبلاوي مدير الفرع؟
– “لا. لا. المدراء الضباط لازم يكونوا من برّا البلد، بس أبو عبدو كان صف ضابط.
– بقيت على علاقة معه؟
– مو بشكل خاص، عادي…
أحسست أن فترة حراسة نديم للمبنى بلّشت تخلص، فقد صار ينقّل وقفته من رجل لأخرى، وينقّل عينيه حوالي المكان، فشكرته وسألته عن عنوان بيت أبو عبدو.
وأنا بوجهتي إلى هناك شممت رائحة ميلانة (حمص أخضر مشوي على الفحم)، على بسطة جانب سينما النعنوع، فوقفت واشتريت من البياع العجوز حزمة ميلانة بكم ليرة ورحت أفصفصهم بنهم وأنا في طريقي.
بيت أبو عبدو كان على زاوية قطعة أرض خضراء، ربما دونمين أو أقل بقليل، السور الأمامي من بيتون وله أعمدة بينها درابزين حديدي مشغول بزينة حلزونية. باقي السور عبارة عن أعمدة بيتونية بينها شبك معدني صدئ. البيت متوسط الحجم، مرتفع قليلاً عن الحديقة، أشبه بڤيلا صغيرة، شرفته الأمامية واسعة ومبلّطة، والحديقة حواليه مرصوفة بحصى صغيرة، ولها أقسام ترابية مجاورة للسور فيها زريعة معظمها ورد، وبعض الأشجار معظمها من الحمضيات. النوافذ عليها درابزين حديدي من نفس النمط الحلزوني الخاص بالسور، لكنها مقطّعة عشوائياً، فبعض النوافذ ذات الحظ السيء أتت حلزوناتها مبتورة.
الطابق الثاني كان قد عُمّر جزئياً، فيه أعمدة نتأت منها للأعلى قضبان الحديد الداعمة. بين أعمدة الزوايا خفّان مصفوف مترين تقريباً، لكنه ينحدر اطرادياً نحو وسط البيت فيبدو كقرص مقعّر ضخم وكأن مهمته الأساس كقالب لأقراص عجوة يستهلكها كائن خرافي عظيم الحجم.
نظرت في المرآه الخلفية فوجدت وجهي ملطخاً بشحوار الفحم من عواقب الميلانة المشويّة. مسحته بمنديل وركنت السيارة، ثم توجهت لقرع جرس البوابة الحديدية. خَرَجتْ من البيت طفلة بعمر ٦ او ٧ سنوات، وجهها ملطخ بمكياج فاقع اللون، وفي قدميها كندرة نسوانية كبيرة تجّرها وراءها شحطاً. تعاطفاً معها، تمنيت لو أني لم أمسح شحوار الفحم عن وجهي. – ماذا تلعبين؟ معلمة؟ طبيبة؟ مذيعة؟
بجدية أجابتني: آي، ثم بسرعة، لأ، لأ، مو آي.. عم بلعب عريس وعروس.
كتمتُ ضحكتي، وأنا أسألها: فيه كبار بالبيت؟
لم تجب، أدارت ظهرها وركضت نحو البيت صائحة: ماما، ماما، في رجّال على الباب.
بسرعة تَسلّقت الطفلة الدرجات الأربع الى الشرفة، احسست بلهفة في صدري خشية أن تقع، فكتمتُ نَفَسي حتى دخلت البيت سالمة.
بعد لحظات خرجت امرأةً ونَزَلت نفس الدرجات الأربع، بثقة أكبر هذه المرة، واتجَهتْ نحو البوابة. متوسطة العمر، والقامة، والوزن، ولون البشرة. كذلك تكوين سحنة وجهها كان متناسقاً بدون غلو. شعرها المتدلي حتى الكتف لا هو بالسابلِ ولا بالمجعّد. صفاتها تلك لم تمنحها جمالاً خاصاً ولكن، بنفس الوقت، لم تحرمها أياً منه؛ كأن بارئها أرادها أن تكون عيّنة أو إصداراً قياسياً لوالديها لكي يقرروا، بعد دراسة وتمحيص، إن أرادوا طَلَبَ مواصفات خاصة في محاولاتهم اللاحقة، أم القناعة والاكتفاء بالموديل الأساس.
– مرحباً، أبحث عن بيت فلان الفلاني ودُلِلتُ على هذه الجهة من الضاحية، هل تعرفين أين يقيمون؟
اخترعت اسماً ما من إحدى عائلات جبلة المعروفة.
– أهلاً، لا، لم أسمع بهم من قبل.
حتى صوتُها كان معتدل اللحن والنبرة، متماشياً مع الِسلِمِ الناتجِ عن توازن القوى في عالمها الخاص. تابَعَتْ:
– انبنى كثير من البيوت حديثاً في هذه المنطقة ولا أعرف معظم القاطنين فيها.
بعد وهلة قصيرة، وهي تنظر وراءها نحو البيت كأنها تريد التأكد من وجوده:
– منذ سنوات قليلة كنا الوحيدين هنا!
– منطقة رائعة وبيتكم جميل، تتهنوا فيه!
لاحظتُ مسحةَ حزن طفيفة مرّت بعينيها وكأن مغلاق كاميرا قد سجّل لها صورة عفوية قبل أن ترسم ابتسامة امتنان، طفيفة أيضاً. هذه امرأة لا تعرف الإفراط.
– آسف للإزعاج، وشكراً لك.
– أبداً ما في إزعاج، قالت وهي ترفع يديها الاثنتين لتدخل أصابعها في شعرها وتدفع به للخلف عارضة الخط الأنيق بين جبهتها وبين خصلات الشعر الحبيسة بين أناملها.
توجهتُ ببطء ودخلت السيارة العابقة برائحة الميلانة. عند زاوية الشارع نظرتُ في المرآه الخلفية لأجِدَها ما زالت أمام البوابة، تخيلتها كتمثال إغريقي.
واثقاً أنه وهم لا أكثر. نظرتُ كرة أخرى في المرآه: هذه المرة تراءى لي أنها تلوح بيدها بخفة. انطلقت بعجل.
أيهم خَدَمَ عسكريته كعنصرٍ مجند في فرع الأمن. وجدته دمثاً بدون تصنّع عندما التقيته في كراج الباصات قبل توجهه إلى دمشق. سرّني أن الباصات بَدَت حديثة الصنع، لا تشبه في شيء باصات الهوب الهوب التي اعتدت عليها في صغري. لكن رائحة الكراجات المميزة لم تتغير: تلك الرائحة الصادرة من أكوام القمامة وبقايا الطعام المتناثرة في زوايا المكان.
أخبرني أيهم أن أبو عبدو كان مسؤولاً عن الشؤون الإدارية في فرع الأمن، وأنه كان يدَ مدير الفرع اليمنى ومحل ثقته. كان الوحيد الذي يدخل على المدير بدون استئذان. لم تكن مهمته التحقيق مع المعتقلين، لكنه كان يساعد “أيام العجقة” في تدبير شأن الدولاب الأولي الذي يفترض على كل معتقل أن يتذوقه، أو بعض التحقيقات الروتينية السريعة: الخلافات الشخصية بين الأفراد، أو السرقات البسيطة، أو النزاعات على تقسيم الأراضي أو ما شابه. ضاحكاً قال: مشان نخفف شوي على قضاة المحاكم، كنّا نحلّ بيوم واحد قضايا بدهم سنين ليحلّوها.
أيهم كان يختلف جسدياً شيئاً ما عن كثير من شباب جبلة الذين أعرفهم، معظمهم تَشكّلت أجسامهم على شواطئ البحر الصخرية وفي رحب مياهه المالحة فنَمَتْ رشيقة كما الأسماك؛ هو كانت عضلاته أكثر بروزاً، ولكن بشكل غير متناسق مما يعطي انطباعاً أنه يتأرجح ويكاد “يتفركش” ويقع جرّاء كل حركةٍ يقوم بها. عندما ودّعته أحسست أنه يتوجب عليّ أن أمشي معه حتى يصعد الباص، ماداً ساعديَّ محيطاً به في حال أن اتّخذ خطوة خاطئة. أعطاني أيهم عنوان إيميله وقال لي بمروءة عفوية: أي شي بيلزمك، دكتور، نحنا دوماً موجودين!
– كلب ابن كلب، حقير، سافل، منحط، وبعد لحظة وكأنه طالِبٌ تَذَكّر جزءاً لا يتجزأ من نشيد وطني يلقيه في باحة الصفّ الصباحي أضاف، وابن ألف شرموطة!
بهذا بادرني محمود عندما قابلته أمام بناءٍ “على العظم” كان قد تعهّده كمعلم بيتون. ولأنه أعطاني النتيجة من البداية، بوضوح الشمس التي كانت فوق رؤوسنا، رغم كثافه غبار الورشة، وجدتُ نفسي في موقف الجندي الذي جرّدَه أعداؤه من سلاحه قبل بدء المعركة. لذلك تركُته يسترسل عسى أن أَجِد ثغرةً أستطيع من خلالها إعادة المناورة. واصلَ كلامه بسرعة تكّات عقرب الثواني ولكن بدون دقّتها: لو، لو كان عنده شرف أو أخلاق، أخلاق، أو دين، دين، ما كان اشتغل معهم.. بس في آخرة، آخرة… الله كبير. شوف شلون مات متل، متل الخنزير… الله لا يردّه.
أخرج من جيب قميصه، المصنوع من جينز فضفاض باهت اللون، علبة سكاير مالبورو طويل وعَرَضَها عليّ عند مستوى أنفي، ربما لأتأكد أنها من التبغ وليس من مادة أخرى، وقال بجدية: بتدخن؟
– لا… شكراً، أجبته مقتنعاً الآن أني لن أُحصِّل منه أي معلومات غير توصيفية، فحاولت تغيير الموضوع:
– شو أوضاع العقارات هالأيام؟
– نااااار!
– ليش؟
– ما فاه مواد أولية. وللغرابة سكت للحظة، ثم عاود: لأ، فاه، بس بدك تدفع رشوات ربّنا لتحصل طن شمينتو واللا شوية قضبان حديد!
– يعني السوق واقف؟
– شو واقف؟ السوق ناااار قلتلك! في ناس بتجيب مصاري ما بعرف من وين. إذا حابب تعّمر بساعدك.
– والله حابب أشتري أو عمّر بجبلة، بس ما بعرف وين… مفكّر نواحي الجبيبات… شطّها حلو. هنيك خالي علمني السباحة قبل حتى ما اتعلم المشي!
نظر محمود إلي وكأني جنّي قد تجليت قدامه لحظتها عندما فرك سيكارته، وظننت أنه سيطلب مني ٣ أمنيات؛ ولكنه، بدلاً، شفط سحبة سيكارة استهلكت ثلثيها، حتى اليوم لا أدري أين استقر كل ذلك الدخان!
استحسنت الانتقال من مكان الورشة الحارّ المغبّر إلى صالون ڤيلّا الدكتور سعيد الواسع المكيّف، لأني كنت قد بدأت بالشعور ببعض الصداع، ربما بسبب ضربة شمس خفيفة. الصالون كان مفروشاً بطقمين “ستيل” وبعدد من الترابيزات الجانبية الزجاجية السطح ذهبية الأرجل، تماثل طاولات القهوة المغطاة بمفرش من الدانتيل. النوافذ عريضة ومزينة بستائر ثقيلة مزركشة.
– تفضل، عصير ليمون طازج.
– شكراً عمو، منعش فعلاً.
– الله يرحم الوالد. قال بصوت دافئ حميم.
– تعيش، كان يحبك ويذكرك بكل خير.
– كنا أصدقاء طفولة وشباب.
– نعم، وبنظرة لعوبة، كان يحكي لي عن مغامراتكم!
ضحك الدكتور وبدا كأن سريرته قد انشرحت. اغتنمت الفرصة وسألته:
– عمّو شو قصة أبو عبدو؟
أجابني ببطء وبكلمات حَسِبتُهُ أحصاها قبل التفوه بها، كأنها تخرج من ميزانية بنكُ كلماتٍ محدودة:
– أفضل من غيره.
– شو بتقصد؟
– الواقع أنه كان يساعد الناس، ثم استدرك، قدر الإمكان.
هززت رأسي معقّداً جبيني علامة الاستفهام والتعجب معاً!
– ابني، الموضوع معقد. إذا كان عندك شخص معتقل فخياراتك محدودة. في ناس دفعت مصاري كومة، حتى باعت بيوتها، حتى تدينت، فقط حتى يعرفوا شو صار مع ابنهم. صمتَ فترة وكأنه يراجع رصيده ليعرف كم بقي من كلمات في حسابه:
– أبو عبدو، كان، بطريقته الخاصة، يفهِّم الناس إذا في خواص من تعبهم واللا لأ… ما كان يستغل مصايب الناس. وبعد حساب جديد للكلمات، وبنبرة أخفض ولكن ليست أقل وقاراً، عاد لنفس جملته الافتتاحية:
– كان أحسن من غيره! ووضع كأس عصير الليمون على الترابيزة بتأن شديد، وكأن لقاء قعر الكأس مع سطح الترابيزة الزجاجي سينتج عنه شرخ عميق في إحداهما.
مصراً، قررت الضغط عليه أكثر:
– معقول يعني يشتغل مع المخابرات؟
نَظَرَ عندئذ عبر النافذة برصانة القبطان الذي يبحث عن منارة في الأفق:
– عمو… في وضعنا القائم كلنا مخابرات، أنا وأنت وكل اللي شايفهم حواليك… مخابرات!
خرجت من عند الدكتور، أفكاري تعصف في رأسي كأنها في ماكينة خلّاط مولينكس؛ مشاعري غمرت كياني وكأني رجعت الطفل الذي كان يلقيه خالي في مياه البحر أمتاراً بعيداً عنه، ويطلب منه السباحة تجاهه.
فتحت باب السيارة وجلست داخلها، لتحيط بي رائحة الميلانة المشوية من جديد.
كوريا الجنوبية، نيسان 2021