محمد طه العثمان
شاعر وناقد سوري. صدر له أربع مجموعات شعرية وثلاث كتب نقدية إضافة لرواية. مؤسس دار موزاييك للدراسات والنشر.
أوراق 11
أوراق المقالات
يقول بول فاليري “إن قيمة الأدباء تكمن في قوة التقاطهم بالكلام لما يرونه باهتاً في أفكارهم”، وهذا ما يؤكده مالارميه أيضاً بقوله “إن الإبداع لا يكون بالأفكار، بل بالكلمات”.
لذلك في غمرة التحولات الكبيرة التي عاشها الإنسان السوري بعد عام 2010، تفجرت طاقات وأفكار خلاقة في فضاء مخيلة الكاتب السوري، كانت قبل هذا التاريخ باهتة أو غير مسموح الاقتراب منها أو التعبير عنها، فنضجت هذه الأفكار، وأفرزت معها حمولات التغير وحلم التحول.
إن التحول الذي أراده الشعب السوري نحو المدنية والحرية والتعددية في الحكم والمجتمع والحياة، فتح مسارات جديدة وآفاقاً مسدودة للكاتب السوري، نعم لقد كانت الثورة في ربيع عام 2011، فكانت ملامحُ تشكلٍ جديد لبنية هذه الحياة في كل مناحيها.
ولأن الأدب الجيد هو الأدب الذي لا يقف متفرجاً إزاء هذا التحول العظيم فقد واكب العديد من الشعراء هذا التحول، وانخرطوا فيه، فمنهم من وقف مع هذه الثورة وتبنى أفكارها، ومنهم مع ارتد خطوة إلى الخلف ورأى أن هذه الثورة عبارة عن مؤامرة لتفتيت بنية هذا المجتمع وأصر على الانغلاق والتقوقع ضمن بوتقة الماضي، ومنهم من وقف على الحياد.
فعكست نصوص كل فئة من هذه الفئات الثلاثة ملامح وصور هذا الانقسام، فظهر لدينا أدب سوري خاص، متنوع، ومتعدد المصادر.
لتطغى قصيدة النثر على الأشكال الأدبية الأخرى عند الشعراء الذين تبنوا فكرة الثورة ومبادئها، فراحت ترصد اليومي والتفاصيل الدقيقة لحياة الإنسان السوري في المعتقلات والسجون، والنزوح والتشرد في أصقاع الأرض، أو في الحديث عن القصف ورحى الحرب الطاحنة، لتكون أقرب للنصوص التسجيلية التصويرية التي ترصد الأحداث وتشاكل الوقائع مع استخدام بعضاً من فنيات قصيدة النثر المعروفة في الإيحاء والتكثيف.
هذا الشكل في الاستخدام أعطى مساحةً أوسع للشاعر في تفجير هذه التقنية والاستفادة من كامل طاقتها على مساحات النص، فالشكل النثري الجديد كان وعاءً مناسباً لتطوير عناصر التعبير التي تحتاج بالضرورة إلى مناخ مناسب لتفعيلها أكثر وإعطائها أبعاداً ديالكتيكية جديدة ودلالاتٍ بلاغيةً أغنى لتؤثر بالقارئ؛ كون قصيدة النثر تشبه إلى حدٍّ ما في مساحةِ بياضِها السيناريو في النص المسرحي الدرامي.
لكن الملاحظة الأبرز التي تؤخذ على الشعراء الذين كتبوا ضمن هذا الإطار أنهم أوغلوا في الحدثية واليومي والتفاصيل المعيشة، فكانت هذه الأمور أحياناً تهمش جمالية الإيحاء المستخدم أو البعد الثاني للنص.
وكما نعلم أن الشاعر مطالب بأن يكون ممتلئاً بالمعارف السيسيولوجية ومهارات قصيدة النثر الفنية أيضاً، حتى يستطيع أن يفجر مكامن القصيدة المغايرة للآخر ويمتص هذا التحول فيرصد الوقائع بعين شاعرة.
والملاحظ ظهور اسماء شاعرات جديدات وقد أبرزت الثورة أسماءهن بقوة، لكن هذه الأسماء غلب على كتابتها الاستسهال والجنوح نحو الفكرة على حساب المبنى ونمو النص العضوي والفني.
أما عن الشعراء السوريين الذين وقفوا على الحياد، فقد أخذوا فرصة ليستوعبوا ما يحدث من حولهم ويمتصوا زخم هذا التغير، فنراهم عكفوا على كتابة نص ضبابي غير واضح الإشارة، فكانت أغلب نصوصهم تمجد الإنسان والقيم الحضارية، أو تحاكي ايديولوجيات المجتمعات المتحضرة، وأصرت على جوهرة الشعر ضمن قالب الأنسنة.
وحافظت على أنماطها الشعرية وأساليب القول لديها في الشكل والمضمون، وبقي نصها متعالياً على الشارع والحدث الجلل الذي هدم كثيراً من القيم والمفاهيم التي تبنوها، فكان صوتهم غير مؤثر ولم يكن له وقع بين الجماهير.
وفي حديثنا عن الشعراء الذين وقفوا مع النظام ضد الثورة، فكان خطابهم قائماً على المؤامرة وضرورة التصدي لها، فاستخدموا النوستالجيا والفكر الرجعي بتذكير الناس بالأمن والأمان الذي كانت تعيشه البلاد قبل هذه (الفورة) كما ادعت خطابتهم، ليكون أسلوبهم التعبيري مشابهاً للوسائل الرسمية في إعلام النظام المرئي والمسموع وفي صحفه المكتوبة، فظهرت النزعة التخوينية والتصعدية في قصائدهم.
1- لذلك أكثر ما تميز به الشعر السوري في هذه المرحلة هو ظهور أسماء شابة جديدة بكثرة، فتحت النار على السائد القديم وحركت الجثة الهامدة للأدب المؤدلج.
2 ـ نلاحظ استخدام أشكال شعرية جديدة في التعبير كالنص المفتوح، وخلط الأشكال ببعضها البعض، فقد نجد عند أحد الشعراء نصاً قد جمع فيه بين النثر والتفعيلة والقصيدة العمودية القديمة.
3 ـ برز صوت الأنثى بقوة، من خلال محاولتها مواكبة هذا التغير والتحول، ونلاحظ أن أغلب هذه الأصوات من الشابات الصاعدات.
4 ـ محاولة بعض الشعراء ولوج قضايا وجودية كبيرة، فمنهم من تحدث عن عوالم البرزخ؛ فرافق الضحايا في قبورهم لينقل لنا مشاعرهم بعد قتلهم وموتهم، ومنهم من تحدث العالم الآخر، باحثاً عن العدالة والقصاص للأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلوا من دون ذنب.
5 ـ نجد آليات انتقال حقيقية عند الشعراء السوريين في الخطاب الشعري من النزعة الذاتية الفردية إلى الموضوعية، مما صعد الملامح الدرامية في النصوص فكانت مكوناً أساسياً في إنتاجها، مصرين على أن يكون الآخر الشريك الرئيسي والفعال في إنتاج النص، محاولين تخطي لحظة الانكسار، واستشراف مستقبل جميل يكون فيه الوطن المدمى فردوسهم المفقود.
6 – انخفاض المشهد الرؤيوي للنص الشعري في الحديث عن فجائعية الصدمة، واعتماد الشعراء على الصوت التسجيلي وتفعيل مكوناته الحدثية مع اللحظة الشعورية الصادقة.