الشاعر عبد الله ونوس: القصيدة هي التفاتة للوراء

0

حوار: سوزان المحمود

شاعرة وكاتبة سورية

أوراق 11

أوراق الحوار

من دكانه المفتوح على المدينة المهمشة المنسية يطل الشاعر عبد الله ونوس، أحد أجمل شعراء “سلمية” المقيمين على حافة العدم السوري:

“كلُّ شيءٍ غدا غائماً/ من خلال الزجاج الغَبِشْ/ العابرون يمرّون في غبشٍ/ والتلاميذُ لا أميّز../ ألوانَ أوجاعهم في الصباحْ/ والذاهبونَ إلى ثكناتِ الغبار/ طُمستْ من وراء الزجاج ملامحهم/ والنساءُ اللواتي كنتُ أعدُّ../ نقاطَ الندى المتساقط عن شعرهنَّ/ أضعتُ تفاصيلهنّ/ وحدهُ الحزن../ لم تزل كلُّ ألوانهِ مبهرة/ وأراها بشكلٍ صريحٍ/ برغم الزجاجِ الغبِشْ.”

س – كيف تصف علاقتك كشاعر بالبيئة المحلية (المدينة سلمية) من طبيعة وأشخاص من جهة؟ وبالعالم ككل؟

– ربّما شاء هذا العبث أن أكون في هذا المكان الذي اسمه (سلميه)، تلك البلدة الحائرة بين متناقضاتها الكُثر، هي لم تكن مدينة (بمواصفات المدينة القياسية) ولن تكون ..! وليس فيها شيء يوحي بالريف … ليس هناك ما يُبرر بقاءها، ومع ذلك تتمدد ..! تاريخها الآني لم يبلغ القرنين بعد، هُدِّمت وعمّرت عشرات المرات، خرج منها القرامطة – وما بها عينٌ تطرف – ورمى المغول ما بقي من حاميتها في بئرٍ عظيمةٍ وسط قلعتها … يقول التاريخ أنها كانت قبل الميلاد بألفي سنة، ولكن أيام عمرانها هي أقل بأشواط من أيام خرابها، ولعل الشعر هو طابع المدينة الملصوق بإحكام عليها في شكلها الأخير .. منها ظهر ثلاثة شعراء ارتبطت بأسمائهم قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث .. (الماغوط، وسليمان عواد، واسماعيل عامود)، وكان أبو لهب – علي الجندي-  علامتها الفارقة أبداً … والأسماء كُثر …

على العموم … أن يكون مخاضك قد دفعك في مكان هو عبارة عن قبيلة من الشعراء، فهذا يصعّب مهمتك، ومن الطريف انني لا أحب هذا المكان، ولكنني لا أستطيع أن أتخيّل نفسي خارجه أبداً، وسلميه التي لا آلفها مكانٌ يعجُّ بمن أحب من الناس … ومن هذا المكان البائس أتأملُ في حبور العالم بحالة التمدّد والفوضى الذي هو عليه، بينما يضيقُ قميصُ الهواء الرتيب في هذه البلاد على رئتي !!!

 وكنت ُقد قلتُ عنها في نصٍ قديم نسبياً:

“بثدييها الضامرين ويديها المعروقتين ..

تقلّب سلميه وحيدةً في كتاب عطشها …”

 إذاً لا شيء يزداد في هذا المكان سوى العصيان والعطش والغبار .. والشعر إلى حدٍ ما …

س – كيف ترى علاقة الشاعر بالزمن؟

– في اعتقادي .. أن هاجس الزمن هو من أهم المُحرّضات الفعّالة لكل ما أُنِجز في الفن عامةً والكتابة خاصةً وعلى مدار ما وصلنا من تُراثٍ انساني منذ بدء الوعي البشري وحتّى هذه اللحظة … قصّة الخلق البابلية .. ملحمة جلجامش .. حتّى نصوص الديانات بشكليها التوحيدي والتعددي، ولن أقول الوثني، لم تخرج عن هذا الإطار … العهد القديم كتاب تاريخ بامتياز، والجديد إلى حدٍ ما … القرآن مُترع بفنٍ راقٍ من القص المختزل والمكثّف …

الشعرُ كمنجزِ فرداني هو امتداد لهذه الفكرة … ربّما أنا من أنصار ارتباط الزمن (شعرياً) بفكرة اللا جدوى …على اعتبار أن الموت هو متلازمة الزمان بحالة اللاوعي لدى الشاعر …

علاقتي بالتراث ممتازة … في استعادة بسيطة للمحطات التي وقفتُ عندها، أجد أن لا جدوى طرفة بن العبد تأسرني، وكذلك ماني الموسوس … الأسماء كثر … الزمن بمتلازمة الموت يأخذني إلى اللا جدوى دائماً … ما قيمة ما ننجزه إذا كان متشابهاً …!

أعرف أنني خرجتُ عن فكرة السؤال، ولكنني وباستعادة لما بقي مما كتبته وعلى مدار عقودٍ ثلاثةٍ انقضت، وباستعادة لتلك النصوص وبغضّ النظر عن قيمتها الفنية، أجد أنني أوثّقُ أيّامي بالشعر، وخارج النص لا يعني لي ما انسرب من بين أصابعي من رمل الوقت شيئاً …

فكرة الزمان أنك تسير على طريقٍ بلا معالم … القصيدة هي التفاتة للوراء .. بها تعرف كم قطعت، وبها تضع علامات فارقة على ذلك الطريق !!

س – كشاعر كيف ترى الدين؟

– مازال اختزال “كارل ماركس” بحالة الشاعر .. وليس الفيلسوف ولا المفكّر يشدّني حين يقول: “الدين قلب العالم الذي لا قلب له” …  ماركس أقر الفكرة ونفاها في ذات الآن، ولذلك اعتبرت أن هذا الكلام شعري ..

ما قلته هو مقدمة لما أراه، ربمّا ارتبطت فكرة التديّن بالوعي البشري، لذلك يبدو من المستحيل أن يعيش الإنسان بدون اعتقاد، وبغضّ النظر عن ماهية ذلك الشيء المُعتَقد به، البشرية تجدد ذاتها وتتوازن بالاعتقاد، والهاجس هنا هو البحث عن كمالٍ مفقود، ولا يمكن الوصول له أصلاً .. والدين أساساً هو فكرة، والأفكار كما كل شيء في هذه الدنيا لها دورة حياة ختامها الشيخوخة، الأيدولوجيات حينما تشيخ تتحول إلى دين والأمثلة على هذا الشيء نراها يوميّاً … حقي أن أعتقد .. وربما يلائم الشاعر الغيب أكثر مما يلائمه الواقعي والمحسوس، فالغيب وبعيداً عن فكرة الله أكثر تحريضاً للمخيلة وبالتالي هو أقرب إلى الشعرية … في الدين أجد نفسي على درجة عالية من الفصام … (أنا لستُ ملحداً، وفي ذات الآن لا أستطيع أن أخلد إلى قيلولةٍ تدخلني في غيبٍ لا أجده إلا هاوية بدون قرار) ما أجده في الدين، باقٍ وغير قابلٍ للزوال، هو بنيته الأخلاقية المتينة، التي تستطيع أن تتماشى مع ذلك الفضاء المفتوح للزمان والمكان..!

س – في بعض  قصائدك تستحضر شخصيات تاريخية إشكالية، كيف ترى علاقة الشاعر بالتاريخ؟

– على اعتبار أن الحداثة الشعرية العربية، كانت صدىً مُتأخر لِما حدث في الغرب، وكلّما استعدّت تلك التجارب المبكرة والتي حدثت بعدها لاحقاً، أضحك من هذا الحشد المُريع للأسماء والقصص والأساطير، والذي تحايل عليها النقاد بتسميته (بالإسقاط التاريخي) مثلاً قصائد السيّاب في مراحلها الحداثوية الأولى تُتعِب القارئ لما فيها من هذه الرموز .. جماعة مجلة شعر بالمجمل وقعوا في ذات الأمر.

الرمز سواء أكان من التراث الإنساني، أو المحلّي، وروده ضمن سياقٍ لا تكلّف فيه يخدم النص ويُطلق مخيلة القارئ، ويكون متمماً للقيمة الجمالية للنص عموماً، أما وروده بغاية ابهار القارئ فهي حالة (تثاقف) غير مبررة إطلاقاً ..

نعم يرد ضمن قصائدي بعض تلك الأسماء، والتي أسميتِها أنتِ إشكالية، وبمراجعة بسيطة لتلك الأسماء تجدينها قليلة، وما أعيه تماماً أنني لم أشرع بكتابة نص وأنا أضع اسماً ما في ذهني، وإذا ما ورد اسمٌ ما وبعد الفراغ من الكتابة أنظر إلى النص وأقول كيف تسلل هذا المأفون إلى هنا ..

عامةً .. ليس هناك حدود لقراءات الشاعر لطاما قلت (القراءة وقود الكتابة)، أنا وبشكل شخصي شديد الميل لقراءة التاريخ .. لا أبالغ إذا قلت أن لدي (حس طللي)، في مجلة المزمار العراقية المخصصة للأطفال، تعرّفت على رواية آلة الزمن لهربرت جورج ويلز، وكنت حينها دون العاشرة، ما زلت لغاية هذه اللحظة استعيدها، ولكن ليس بشكلها المستقبلي .. بل بركوبها والعودة بالزمن إلى الوراء .. فكرة معاينة الحضارات والأشخاص والأفكار السابقة فكرة أليفة جدّاً بالنسبة إليّ.

س – تقول في قصيدة “تضاريس” “أقتلُ الأصدقاء/ يلوحونَ كالوشمِ في ظاهرِ القلبِ/ هكذا غادروا/ هكذا تركوكَ وحيداً وغابوا/على عجلٍ تركوا كلَّ أشيائهم في يديكَ/ ولون عيون حبيباتهم/ والمواعيدُ تلك التي قطعوها لهم/ ورمّان أحزانهم لم يزل حامضاً في سقوف الحنين/ ويبقى لحمّى القصيدة في القلبِ/ طعمٌ وجيع”. من هم الأصدقاء بالنسبة لك؟

– لا أدري أين قرأت وفي أي تراث، أنَّ أحداً ما تكلّم عن مرض (الجذام)، بأنه تلك الآفة التي تسقط فيها عنك أعضاءُ جسدِك، وأنا وكلّما فقدتُ صديقاً، وبحالة غيابه جسداً، أو غيابه روحاً أشعر أنني مجذومٌ بالفقد.

 أشكرُ لكِ استخدامكِ للمقطع الأخير من قصيدة تضاريس والذي كان خاصّاً بالأصدقاء … هم يلوحون كالوشم في ظاهر القلب … ربّما أعمق مما لاحت به أطلال خولة لطرفة بن العبد كوشمٍ على ذراع .. أصدقائي تمائمي التي لطالما وضعتها تحت ثيابي وعلى جسدي العاري مباشرةً .. بهم أضبط ساعة أيّامي .. وعلى ملامح وجوههم أعرف أين وصلت بالكتابة … أتعلّم منهم كمن يتدثّر بركامٍ من الكتب … نترك القناني التي نفرغها على الطاولة .. وأعود إليها لأجد أن يد الغيب قد ملأتها في اليوم التالي …

في العشر سنوات النازفة والتي تكاد أن تكتمل هنا في سوريا، ما عصف بالبلد عامةً عصف بروحي كذلك، تشرّد أصدقائي العصاة في منافيهم القسريّة، ولاذ بالموت آخرون، والسجون التي يكون الموت عندها (جنّةٌ ورواحٌ وطوبى) أخذت بعضهم، والأخطر هو بوصلات بعضهم الخاطئة والتي رمتهم في مجاهيل يصعبُ الرجوع منها، كل ذلك لم ولن يمنعني أن أكون بينهم، ورغم ما جرى وسيجري، كصفٍ قليلٍ من الأشجار على وتر الأفق المشدود …

س – وتقول في القصيدة نفسها “أقتلُ الحُبَ/ أن تراهُ صلاةً/ والحبيبةُ معبدها سجادةً من مسامير/ تمرغُ حلمكَ فوقَ مفاتنها دامياً/ ومبتهلاً/ وما من عليمٍ/ وما من سميع.” هل يختلف الحب بين الشاعر والإنسان العادي خاصةً أن شريكتك في الحياة السيدة عبير خديجة شاعرة أيضاً؟

– لا أعرف لماذا يأخذني الحديث عن الحب دائماً إلى اللوحة، ولكي أكون دقيقاً في كلامي، إلى فعل اللون الممزوج في اللوحة، ليس بإمكان المرء أن يكون بلا حُب … وليس بإمكانه كذلك أن يظل ذاك العاشق المولّه على مدار ساعات وقته، هو بالضبط ما كنت قد عبرتُ عنه في قصيدة … فأقول:

“الكراهية كما المحبة/ لا أراهما سوى لوناً ممزوجاً”

للحب احتمالات كما أن للكراهية احتمالات، واعتذر من فان كوخ الذي قال: أن للرمادي احتمالات …، لا أدري كيف سأحيط بهذه الفكرة، أنا بطبعي أتمنى أن أكون أكثر قسوة، ولكن دائماً أفشل في ذاك .. في التفاصيل الشخصيّة، دائماً أنزاح باتجاه الرمادي .. ليست المشكلة في الحب ذاته، ولكن المشكلة في القدرة على التعبير وبشكل دائم عن ذاك الحب ..

فكرة مريم (إني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم أنسيّا)، هي بالتأكيد مضادة لخط الحب الرتيب والمنساب في نسق الحياة اليومي، وعلى اعتبار أن الفكرة تستهويني، فلطالما كانت مشكلة لدي أمام الآخر الشريك .. وعبير (الشاعرة) .. ليست خارج هذا السياق كذلك .. كثيراً تكون واقعة تحت ظلامتي .. وكذلك .. رّبما أقع أنا تحت ظلامتها ..

من المؤكد أن الحب، هو العلامة الفارقة للشاعر، وعلى مدار الأزمنة والأمكنة الكثيرة في هذه الدنيا، ولو كان فعل الحب عند الشاعر متشابهاً مع الأشخاص العاديين، لكان كل الناس شعراء، أو أن الدنيا خالية تماماً من هؤلاء العصبة من المأفونين !!

توقيع كتاب “من الرواية السرية لحياتي”

س – كالغالبية العظمى من المواطنين السوريين تعمل بكد لتكسب رزقك وتعيل عائلتك، كيف توفق بين حياتك اليومية وحياتك الابداعية؟

– كثيراً ما أقرأ عن طقس الكتابة لدى الشعراء، فكرة أين تكتب ومتى تكتب، تثير استغرابي لم يبق لدي من الخرافات في رأسي وعلى مدار ما قرأت واطلعت وما حشى الأهل والمدارس والاعتقاد والإيديولوجيات به من ركام، سوى خرافة واحدة، هي أن الكتابة فعل تلقين، جميعها زالت وبقيت هذه الفكرة  .. ثمّة شيطان يُملي على الشاعر … لا يهم هذا الشيطان حينما يأتيك بالوحي أين تكون ..

أهم ما كتبتُ من قصائد، إذا كان هناك شيءٌ مهم، هو في الدكان … ذلك المكان الذي تعاقب على كراسيّه الثلاث، العديد من الشعراء والكتاب والفنانين، أحياناً أظن أنني موجود في هذا المكان لأكتب الشعر .. وفي أوقات الفراغ أقوم بالبيع والشراء … لو دققتِ في قصائد المجموعة لوجدت الدكان وما به من تفاصيل، ابتداءَ بزجاجهِ الغبش والذي كان يطلُّ على مقبرة، رُحّل منها موتاها وغدت وللمفارقة حديقة بائسة جدّاً باسم محمد الماغوط، مروراً بوجوه الناس في عرضها المتكرر، وليس انتهاءً بهذا الكم الأليف من الأصدقاء والذين غدوا شيئاً من أثاث المكان، وبدونهم لن يكون لهذا المستطيل الصغير أي معنى …

حقيقة ً ليس لديّ مشروع بمعالم واضحة في الكتابة، أنا أكتب لأظل على قيد الحياة .. لا أحتفظ سوى بالنذر اليسير مما كتبت .. ربما ضاع الكثير، واحتفظ َالأصدقاء بمسوّدات لا أتذكرها … ورّبما غاب عنّي شيطاني مُدداً … بالكتابة أرى وأسمع وأشم وأتحسس .. وبعد انقضاء هذا الفعل، لا يعنيني أي خلودٍ سيكتُب لِما قد أُنجِز ….!!

س – من مكانك النائي برأيك ما الذي يقدمه الشعر للعالم؟

– حاولتُ جاهداً أن ابتعد عن السياسة في اجوبتي، الآن أجد نفسي مضطراً لأكون ذلك الكائن الذي يعيش في مكانٍ خرجَ ومنذ عقود من دائرة الحياة الإنسانيّة بشكلها الحضاري … ليس هناك مكانٌ ناءٍ … بل هناك زمانٌ ناءٍ .. وشاءت الأقدار أن أكون في ذروة هذا الزمان التافه .. أنا ولدتُ وترعرعتُ وتعلّمتُ وكبرتُ في زمن الصحيفة الوحيدة، والمحطّة التلفزيونية الوحيدة، والحزب الوحيد، والمعلّم الذي هو فنان ومثقف ورياضي وعالم وبطل … وحيد … (ليس كمثلهِ شيء)… ربّما كان الشعر هو منجاي الوحيد من هذا المطهر … حين أكتب – وللأمانة – لا أفكر ماذا سيقدّم هذا النص للآخرين … فقط أفكّر بما سأقدم بهذا الفعل لنفسي … أنا أتوازن بما أكتب … ربّما وفي معظم ما أنتجته البشرية في هذا الفن … كان خلف الشعر كفعل،  هو ذات هذه الفكرة … الشاعر ليس طبيباً ولا مهندس جسور، ليس رجل دين يساعد الناس في الاعتراف، ولا بطلاً ملهماً تتغنى بأمجاده الناس … الشاعر يرى ما يراه الجميع، ولكن بعيني سمكة وبكشفٍ أوضح .. يسمعُ ما يسمعهُ الجميع، ولكن بأذني حمار .. الشعراء هم انبياءٌ بلا مريدين … وإن غدا لهم أنصار، فلنكن على يقين، أنهم .. خرجوا عن جادة الصواب ..!!

س– يعتقد الشاعر الامريكي ستانلي ميروين أن الكلمات مجرد مفاتيح خلفها تقبع فضاءات لا تسعها اللغة، كيف ترى علاقة الشاعر باللغة؟

– أتذكّر أنني وضمن إحدى قصائد مجموعتي الشعريّة، قلت وبما يقارب الرأي باللغة:

“ستكدّس على جسدكَ أسمالاً ..

لكي يراكَ الآخرون …

في فقدها …

إمّا أن تكونَ عارياً ..

وإمّا أن تكونَ أثيرياً!!”

أي علاقة الشعر باللغة، ومن وجهة نظري، هي شكل من اللا إفراط … ولا تفريط؟ سلفاً اعتبرتُ أن الكلام أسمال ..والشاعر هو من يجد الطريقة المتوازنة لجعل تلك الأسمال البالية مفيدة (بما قلَّ ودلّ … !).

نعم، لا شكَّ أنَّ الكلمات مفاتيح … والكلمات هي مادة اللغة … وبالتالي هي وسيلة وليست غاية، وسيلة لولوج ذاك العالم الرهيب، والذي اسمه الشعريّة، وبمجرّد وجودك في هذا العالم، تكون اللغة تحصيل حاصل …

قد تصل إلى ما يُسمّى فضاءات الشعر باللون والتشكيل .. وقد تصلها بالموسيقا .. وكذلك بصوتٍ غير مفهوم لكائنٍ بدائي سبقنا بآلاف السنين … الشعريّة خيطُ مسبحة جامع به تترى حبّاتٌ لا تشبهُ بعضها البعض .. ذلك الخيط هو ما يجعلها منسجمة وفق هارموني يصعب تفسيره، بل ويستحيل الإحاطة به وفك ألغازه وفق قوانينٍ نقدية، وتلك القوانين، هي بالأصل موضوعة لعلومٍ مجرّدة وجامدة كالفيزياء والرياضيات…!

* صدر للشاعر عبد الله ونوس مجموعة شعرية وحيدة عن دار التكوين في دمشق 2014، تحت عنوان “من الرّواية السّرية لحياتي”.

*****

مختارات من قصائد مجموعة “من الرّواية السّريّة لحياتي”

المزهريّة التي اسمها قلبي

-1-

صدري نافذةٌ بقضبان

خلفها تركتُ مزهرية قلبي

لا يرى العابرون سوى جانبها الوحشي

ولي أنا.

تركتُ الجانب الأكثر وحشة!

-2-

جسدي تابوت …

في داخلهِ

مزهريّةٌ اسمها قلبي ..!

-3-

المزهريّة التي اسمها قلبي ذوت ورودها

ولم يبقَ فيها

سِوى تلك السيقان الصاعدة والنازلة …

ترتعُ في هذا السائل الآسن

الذي اسمه دمي …

ومشدودةٌ إلى بعضها بإحكام

بسلك!!

-4-

المزهرية التي اسمها قلبي …

أتألّم …

كُلّما رشحّ من زجاجها العتيق …

وشلُ الشّعر!

-5-

ليسَ في مزهريتي ورود

فمنذ الأزل …

وخراف الأنبياء

تقضمها…!! 

*****

ارتباك

ارتباكي…

حطَمَ آنيةَ الورد

وانداحَ ماءٌ على شُرفةِ الصمتِ

إذ تصعدينَ على درجِ البيتِ

وخلفكِ كنتُ ألمُّ خُطاكِ

وما يتساقطُ من ياسمين …

وإذ أتحسسُ نبضَ حذائكِ …

ونسغاً أيفاً ببنطالكِ المخملي

يفلتُ من جسدي أبهرٌ …

ويلوَن بالاخضرار …

السنينَ الثلاث اللواتي هربنَ

وخلفنني أتعثرُ في نهاوند اللهاث …

وما بيننا يُزهرُ الليلُ

وتنمو غصونُ الظلام …

وأنتِ تشيلين بينَ يديكِ الصباح.

*****

    جنَة الدمع

في جنَة الدَمع

تُربُ المعاني أخضر

فأقول:

لمن كلُّ هذي المراثي …

والحبًّ نقّط بالشهواتِ القصائد …

لمن أجمعُ الكلمات …

وأطلقها في هواء الهباء

لمن سوفَ أقرأ شعري

ومن سوف ينظرُ مغتبطاً

حاسداً

ساخراً

أو محبّاً… 

وأيّان تخلدُ للنوم بين يديكِ …

(أناي)؟!

إذا جنّة الدمعِ

أنهارها قد جرت …

والقطفُ دانٍ

-يداي تُجرّحُ شوك السياج-!!

وها جسدي عطر تفّاحةٍ كان …

..

هل تنامين:

طوّقتُ بالرقص خصرك

طوقتُ صدرك

يعلو ويهبط

-هواء ً وحيداً أخذتِ وأطلقتِ ألفاً- 

طوقت صمغ الظهيرة 

-أترك عمري يرتاحُ قيلولةً …

في ظهيرة هذا الكرز-

طوقتُ تفاحة تركت عطرها

هوساً في القميص

حينها…

إذ تنامين …

إذ أنام أنا …

والقصائد

والرقص …

وصدركِ يعلو ويهبط …

وصمغ الظهيرة

ورائحة العطر فاحت

من فصدِ تفّاحةٍ

….

حينها …

إذ ننام جميعاً …

وثمّة قيلولة سوف ندخلُ جنتها

وفي غفلةٍ عن (أناي)!!

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here