يصدر قريباً عن منشورات الجمل كتاب “السنوات” للروائية الفرنسية الفائزة بجائزة نوبل للآداب، آني إرنو، ترجمة: مبارك مرابط.. تتنقّل إرنو في الرواية بين صورٍ لها التُقطت بين العامَين 1941 و2006، وتمزج عبر هذه الرواية 60 سنةً من التاريخ الشخصي والجماعي في آنٍ واحدٍ. هنا مقطع منها ننشره بالاتفاق مع الناشر.
“لا نملك سوى حكايتنا، وحتى هي ليست لنا”
خوصي أورتيغا إي غاسي (فيلسوف إسباني)
“أجل، سوف يلفنا النسيان. هذه هي الحياة. لا حيلة لنا معها. ما يبدو لنا اليوم مهما، جسيما، وخيم العواقب، سيأتي عليه حينٌ ويطويه النسيان.. ولن تصبح له أي أهمية البتة. ولا نستطيعُ اليوم، يا للمفارقة، أن نعرف ما سيغدو يوما ما عظيما ومهما أو وضيعا وسخيفا (…) ويمكن لهذه الحياة، التي نحيى الآن، أن تُعْتَبر في يوم ما غريبة، مرهقة، وتعوزها النباهة، وتنقصها الطهارة، بل وحتى آثمة، من يدري؟”
أنطون تشيكوف
ستتلاشى كل الصور.
تلك المرأة المُقَرْفِصَة وهي تتبول في وضح النهار خلف كوخ يقوم مقام المقهى، على طرف الأنقاض بـ”إيفتو”[1]، بعد الحرب.. ترتب ملابسها الداخلية وهي واقفة رافعة تنورتها، ثم تعود إلى المقهى.
الوجه المبلل بالدموع بـ”أليدا فالي” وهي ترقص مع “جورج ويلسون”[2] في فيلم “الغياب الطويل”.
الرجل الذي صَادَفتْ على الرصيف في مدينة “بادوفا”، صيف 1990، ويداه مغلولتَان إلى كَتِفَيْه، والذي قدح على الفور ذكرى دواء “THALIDOMIDE” الذي كان يوصف للحوامل ضد الغثيان قبل ثلاثين سنة، وفي الآن نفسه، ذكرى تلك القصة الهزلية التي كانت رائجة: كانت امرأة حامل تحيك ثوبا لرضيعها المنتظر وهي تأخذ هذا الدواء. حبة مع كل صف يحاك. قالت لها صديقة فزعة: ألا تدرين أن جنينك قد يولد بلا ذراعين؟ فأجابت: بلا، أدرك ذلك جيدا. على أي لا أتقن حياكة الأكمام!
“كلود بيبلو”[3] على رأس فوج من عناصر الفيلق الأجنبي، وهو يحمل اللواء بيد، ويجر معزة بالأخرى، في أحد أفلام الفرقة الموسيقية “لي شارلو”.
تلك السيدة المهيبة المصابة بالزهايمر – التي ترتدي بلوزة مزينة بالزهور، إسوة بالنزيلات الأخريات بدار العجزة، ووشاحا أزرق على الكتفين – وهي تختال في الممرات، دون توقف، كأنها “دوقة غيرمونت”[4] في غابة “بولون”، وكانت هيئتها تذكر بـ”سيليست ألباري”[5] كما ظهرت ذات مساء في برنامج لـ”برنار بيفو”.
على خشبة مسرح بالهواء الطلق، تخرج امرأة حيةً من صندوق اخترقه مجموعة من الرجال برماح فضية. الأمر مجرد خدعة سحرية تسمى “استشهاد امرأة”.
مومياءات ملفوفة في الدانتلا الممزقة وهي معلقة على جدران دير “دي كابووتشيني” في “بالرمو”.
وجه “سيمون سينيوري” على ملصق فيلم “تيريز راكين”[6].
الحذاء الموضوع على قاعدة دوارة بمتجر “أندري”، بزقاق الساعة الكبيرة في مدينة “روان”، ومع هذه القاعدة تدور نفس الجملة باستمرار: “مع ‘بابي بوط’.. طفلك يخب وينمو سريعا”
الشخص المجهول في محطة “تيرميني” بروما، الذي أسدل ستار النافذة، في مقصورته بالدرجة الأولى، إلى النصف، حتى لا يبدو منه سوى نصفه الأسفل، وأخذ يلوح بعضوه في اتجاه المسافرات الشابات المتكئات على الحاجز في الرصيف المقابل.
ذلك الشخص الذي ظهر في إعلان بالسينما لماركة “PAIC” الخاصة بغسيل الأواني، وهو يهشم بحيوية الأطباق بدل غسلها.. وصوت يقول له بصرامة “هذا ليس حلا !”. فينظر ذلك الشخص صوب الجمهور يائسا: “ولكن، ما هو الحل إذن؟”.
في شاطئ “أَرِينِيسْ دِي مَارْ” بمحاذاة خط السكة الحديد.. ذلك النزيل بالفندق الذي يشبه “زابي ماكس”[7].
المولود المرفوع في الهواء مثل أرنبٍ عارٍ في صالة الولادة بمشفى “بَاسْتُورْ دُو كُودِيرُونْ”، والذي نجده بعد نصف ساعة مرتديا ملابسه ونائما على جنبه في مهده، وإحدى يديه خارج الغطاء الذي يغطيه حد الكتفين.
المظهر المفعم بالحيوية للممثل “فيليب لومير”، عند زواجه بـ”جولييت غريكو”[8].
في إعلانٍ تلفزيونيٍّ، أبٌ يحاول عبثا، وهو مختبئ خلف جريدته، رَمْيَ حبة من حلوى الـ”Picorette” في الهواء والتقاطها بفمه، كما تفعل ابنته الصغيرة.
بيت بعريشة عنب، كان في الستينيات فندقا، بالرقم 90، على رصيف “زَتيري” بالبندقية.
المئات من الوجوه المشدوهة المصورة من طرف الإدارة قبل الرحيل صوب معسكرات الاعتقال، والمعلقة على جدران قاعة من قاعات قصر طوكيو، وسط الثمانينيات.
المراحيض الموضوعة عند النهر، بالباحة الخلفية للمنزل في بلدة “لِيلْبُونْ”، والماء المتدفق ببطء حاملا الأوراق الممزوجة بالخراء.
كل تلك الصور الغسقية للسنوات الأولى التي تتخللها بقع مضيئة ليوم أحد مشمس.. صور الأحلام التي يُبْعَثُ فيها الوَالِدان أحياء.. الأحلام حيث نحث السير على طرقات مجهولة.
صورة “سكارليت أوهارا”[9] وهي تجر على الدُّرج جثة “اليانكي” الذي قَتَلَتْ للتو. ثم وهي تجري في أزقة “أطلنطا” باحثة عن طبيب لـ”ميلاني” التي توشك على الوضع.
صورة “موللي بلوم”[10] المستلقية إلى جانب زوجها وهي تتذكر أول مرة قبلها أحد الفتيان وتقول: نعم، نعم، نعم.
صورة “إليزابيث دراموند” التي قُتِلَتْ رفقة والديها على إحدى طرقات منطقة “لُورْسْ” في 1952
الصور الحقيقية أو المتخيلة. تلك التي تلاحقنا حتى في المنام.
صور لحظة من اللحظات. تلك الصور التي تسبح في ضياء ليس لسواها.
ستتلاشى كلها دفعة واحدة كما تلاشت ملايين الصور التي كانت متراكمة خلف جباه الأجداد الذين رحلوا منذ خمسين سنة، والآباء الذين ماتوا هم أيضا. صور نظهر فيها أطفالا بين صور أناس آخرين رحلوا حتى قبل أن نولد، تماما مثلما يحضر في ذاكرتنا أطفالُنا وهم صغار إلى جانب والِدَيْنا ورفاقِنا في المدرسة. ولعلنا سنكون ذات يوم في ذكريات أطفالنا بين صور حفدتنا وأشخاص آخرين لم يولدوا بعد. إن الذاكرة مثل الرغبة الجنسية، لا تنضب أبدا. تجمع بين الأموات والأحياء، بين الكائنات الحقيقية والمتخيلة، وبين الحلم والتاريخ.
[1] “إيفتو” (YVETOT) مدينة فرنسية تبعد عن باريس بـ166 كلم إلى الشمال الغربي وهي البلدة التي ترعرعت فيها الكاتبة “أني إرنو”.
[2] “أليدا فالي” ممثلة إيطالية و”جورج ويلسون” ممثل ومخرج فرنسي.
[3] “كلود بيبلو” (CLAUDE PIEPLU) ممثل فرنسي.
[4] “دوقة غيرمونت” هي إحدى أهم شخصيات “البحث عن الزمن المفقود” لـ”مارسيل بروست”.
[5] “سيليست ألباري” (CELESTE ALBARET) هي الخادمة الشهيرة لـ”مارسيل بروست”.
[6] “سيمون سينيوري” (SIMONE SIGNORET) ممثلة فرنسية شهيرة.
“تريز ركين” فيلم فرنسي مستوحى من رواية بنفس الأسم لـ”إميل زولا”.
[7] “زابي ماكس” (ZAPPY MAX) منشط إذاعي فرنسي.
[8] “جولييت غريكو” (JULIETTE GRECO) مغنية فرنسية شهيرة وكان “فيليب لومير” (PHILIPPE LE MAIRE) زوجها الأول في بداية الخمسينيات.
[9] “سكارليت أوهارا” (SCARLETT O’HARA)، الشخصية الرئيسية في رواية “ذهب مع الريح” لـ”مارغريت ميتشل”.
[10] “موللي بلوم” (MOLLY BLOOM) هي زوجة “ليوبولد بلوم” الشخصية الرئيسية في رواية “عوليس” للكاتب الإيرلندي “جيمس جويس”.
*المدن