رحاب منى شاكر
لا أذكر التاريخ بالضبط، ولكن على الأرجح أني كنت في الثانية عشر من عمري. كنت أتفرج مع عائلتي إلى التلفاز، وإذ بالرئيس حافظ الأسد يملأ الشاشة كعادته. لم يكن يلقي خطابًا أو يلوح بيديه إلى الجماهير، بل كان جالسًا في مؤتمر صحفي ليجيب على أسئلة بعض الصحفيين الأجانب. ولولا أن أحدهم طرح سؤالًا يهمني، لما بقي ذلك اليوم عالقًا في ذهني حتى الآن. كان السؤال حول مصير المعتقلين السياسيين في سوريا، فرد الرئيس: لا يوجد معتقلون سياسيون في سوريا! لم أفهم الجواب حينها، كيف ينفي وجود المعتقلين السياسيين؟ أين أبي إذن؟ وأين الرجال الذين تعرفت على عوائلهم أثناء زياراتنا إلى السجن؟ رحت أسأل البالغين من حولي كيف يقول الأسد ذلك، ويا لعجبي أنهم لم يكونوا مستغربين مثلي. «ولكنه يكذب!!»، صرختُ في وجوههم، فردوا علي بابتسامة ملؤها المرارة.
خرج والدي من السجن بعد أن قضى فيه ما يزيد عن ست سنوات، أما رفاقه فقد قضى بعضهم فترة أقصر، ومعظمهم أحد عشر سنة أو أكثر. وبقيتُ فترة طويلة أتساءل: أين كان هؤلاء الرجال والنساء؟ وكيف كانوا يعيشون؟ وما هي الأسرار التي يحملونها في صدورهم حول السجون؟ البعض نجا بعد أن سُرِقت أحلى أيام شبابه، والبعض لقى حتفه في السجن. وبما أني تربيت في أوساطهم، يمكنني القول إن ذاكرتي مليئة بقصص عذاباتهم أكثر من حكايا البنات عن الحب. فهم لا يكفون عن رواية ما حصل معهم، كل شيء تقريبًا يذكرهم بحادثة صغيرة أو كبيرة جرت هناك. تنفتح قريحة الحديث عن السجن فجأة، كما لو أنه لبّ الحياة الذي جعل كل شيء قبله وبعده يتقزم. ولكن يومًا ما سيتوقف ذلك التقليد الشفهي وتأكل أسنانُ الزمان الذكريات. ولن يبقى سوى ما كتبوه على الورق.
وقد تمكن كثيرون ممن اعتقلوا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي من تدوين قصصهم فعلًا، ذلك أني وفقت في النهاية بجمع باقة من أدب السجون. ولكن مجموعتي بدأت يومًا بقصة قصيرة واحدة بعنوان: عود أبي حمدان. ففي منتصف تسعينات القرن الماضي وبعد أن هاجرنا إلى هولندا، كتب والدي، في غمرة شوقه لرفاقه، قصة عن حادثة عاشها أثناء فترة سجنه في سوريا. يستذكر فيها حادثة صنع العود من طنجرة التي قام بها أبو حمدان. لم تكن العملية سهلة، غير أن النتيجة كانت مذهلة. وما إن بدأ السجناء يغنون على أنغام العود، حتى دخل السجان ليسكتهم ويكسر العود.
اختفت هذه القصة لفترة طويلة بين الأوراق في الدرج، إلى أن قررتُ بعد مرور سنوات أن أسأل عنها، وأنبّش عن قصص أخرى كتبها رفاقه السجناء.
في عام 2006 سافرتُ خصيصًا إلى سوريا من أجل التنقيب عن أدب السجون، فقد سمعتُ عن بعض الكتّاب، ووددت لو أحصل على نصوصهم. عن طريق بعض المعارف حصلت على رقم هاتف حسيبة عبد الرحمن، فرحبت بي في منزلها، وحدثتني عن حياتها وعملها. وأثناء الحديث سألتني فيما إذا كنت أعرف غسان الجباعي، وحين أجبتها بالنفي، صرخت: «ولكن كيف تكتبين عن أدب السجون دون أن تطّلعي على أعماله؟». أعطتني رقمه، فاتصلت به مباشرة لأقابله ويعطيني بدوره ثلاثة أرقام لثلاثة سجناء سابقين كتبوا عن السجن. وكان كل كاتب يعرف كاتبًا آخر أو يحتفظ بكتابٍ له يمكنه الاستغناء عنه. يبدو أن السجناء السابقين حافظوا على العلاقات فيما بينهم بعد إطلاق سراحهم، وكانوا يتحركون ضمن الشبكة الاجتماعية ذاتها. خلال فترة وجيزة استطعت جمع باقة جميلة من أدب السجون السوري، قرابة الأربعين نصًا: من رواية إلى مجموعات قصصية إلى دواوين شعرية ومسرحيات وبعض المقالات.
لم أتمكن حينها من مقابلة الكتّاب جميعًا، والأشخاص الذين قابلتهم لم أجرِ حوارًا رسميًا معهم، لأني لم أكن قد اطلعت على النصوص بعد. محادثاتي معهم دارت حول السجن وغلبت عليها الحميمية. وقد استخدمت لاحقًا شذرات من تلك الأحاديث في معرض كتابة بحثي بغية بثّ الروح بين الأفكار.
وفي الحقيقة أن هذه المجموعة النادرة جعلتني أهتم بالصلة القائمة بين السجن والأدب، إذ سرعان ما أدركتُ أني أمام لونٍ خاص من الأدب. يقول صبري حافظ إن الأدب العربي يتميز أكثر من غيره بالنوع الأدبي الذي يسمى أدب السجون. وذلك لأن التاريخ الفكري المعاصر مليء بالصراعات مع السلطة، مما أودى بكثير من الكتّاب إلى السجن وجعلهم ضحية التعذيب وسوء المعاملة. لذلك نرى أن السجون والتعذيب والاغتيالات السياسية من الثيمات الهامة في الأدب العربي. وتعتبر سوريا من أهم البلدان التي أنتجت أدب السجون جراء موجات الاعتقال التي عمّت اعتبارًا من بداية ثمانينات القرن الماضي، والتي ذهب ضحيتها كثير من اليساريين والأخوان المسلمين. الهدف كان شلّ جميع أشكال المعارضة السياسية، فلا عجب إذن أن يقضي آلاف الرجال والنساء عشرات السنين في السجون. وعندما كنتَ تسأل في تلك الأيام: «كم سنة نمت؟»، فإن الناس سوف تفهم أنك تستفسر عن الفترة التي قضيتها سجينًا، وغالبًا ما يكون الجواب: 9 سنوات أو 11 سنة أو 16 سنة. برأيي حتى إن لم تكن كاتبًا، ستصبح كذلك بعد هذه التجربة المريرة. يقول عبد الرحمن منيف: «ها أنت قد خضت تجربة وعانيت ودفعت الثمن. اهدأ الآن، وسيطر على توترك وردود أفعالك، واكتب أدبًا».
صدرت الكتب التي جمعتها ما بين 1988 و2008، ومع ذلك فهي تتضمن نصوصًا كُتبت قبل ذلك التاريخ. وبما أن حملات الاعتقال بدأت في 1980، يمكننا الجزم أن أقدمها كُتِب بعد ذلك التاريخ. هذا يعني أنها نصوص حديثة بشكل عام. كُتب بعضها أثناء فترة الاعتقال، حيث يروي بعض السجناء أنهم كانوا يكتبون أحيانًا على ورق السجائر، وقد نجح بعضهم بتهريبها إلى خارج السجن. غير أن القسم الأكبر من أدب السجون كُتِب بعد إطلاق السراح.
فكرتُ أنه لا بد من فعل شيء بهذه النصوص، ولاحظت أن دوافعي الشخصية – أريد أن أعالج قطعة من حياتي – اختلطت بأسئلتي الجدية التي وددت لو تجيبني النصوص عليها. كيف كان يمضي هؤلاء السجناء وقتهم في السجن؟ كيف كانوا يتعاملون مع الزمان والمكان؟ وماذا بإمكانهم إخباري عن السجان؟ وكيف كانوا يُعذّبون ولماذا؟ هي أسئلة كبيرة علي، وربما على كتّاب أدب السجون أنفسهم، ولكن لا بد أن تسوقني الكلمات إلى خيط يفضي إلى بداية جواب. واقع السجن معقد، ولم أتوقع أن يكون أدب السجون أقل تعقيدًا. فمجموعة الكتابات التي وقعت يدي عليها أصغر بكثير من بحر أدب السجون العربي الواسع، وأكبر بكثير من المساحة المتاحة في بحثي المتواضع. لذلك اضطررتُ إلى تحديد نطاق البحث من ناحية الكتّاب والمكان والزمان وثيمة البحث.
ثيمة البحث التي اخترتها هي شخصية السجان في أدب السجون. سوف أحاول بداية تعريف كلمة «السجان» كما أتناولها في بحثي، ففي أدب السجون يرِد أكثر من مصطلح ينطبق على الشخص ذاته، كالجلاد مثلًا. السجان في هذا البحث هو كل شخص يعمل على توطيد منظومة السجن، ويحرس المكان، ويمنع الحرية، ويهتك روح السجين وجسده بين الحين والآخر. قد يكون السجان شرطيًا أو ضابطًا أو محققًا أو طبيبًا يتبع الأوامر أو رئيسًا للبلاد. أعلم أن كلمة السجان لا تفي لتغطية كل تلك المعاني، ولكن ليس لدي غيرها.
وقد سئلتُ كثيرًا عن أسباب اختياري لشخصية السجان كمحور للبحث، وغالبًا ما كان يُطرح السؤال باستهجان، فالسجين أجدر باهتمامي برأيهم. ونظرًا لردود الأفعال التي تلقيتها، أجد من الضروري شرح أسبابي. السبب الأول الذي دفعني نحو البحث في شخصية السجان هو جهلي التام لأي شيء عنها. من منا يعرف السجان عن قرب، كإنسان؟ بسبب خلفيتي الاجتماعية، تعرفت على كثير من السجناء السابقين، ولكني لم أر السجان إلا من مسافة. وعندما بحثت عن معلومات حوله، لم أجد ما يكفي كي ينطفئ فضولي. يبدو أن شخصية السجان مجهولة بالضرورة.
فضلًا عن أنه أكثر شخصية إشكالية في أدب السجون، فالسجين متوافق مع ذاته في أغلب الأحيان، فقد اختار يومًا ما طريقًا أودى به إلى السجن. هو شخصية سلبية ومتلقية بشكل عام، ولا يمكن محاسبته أو البحث في نواياه أو إلقاء اللوم عليه. أما السجان فوضعه مختلف: هو شخصية إيجابية وفاعلة أو هكذا يبدو للوهلة الأولى، كما أن دوافعه في غاية الأهمية لفهم الحدث. ومن أجل التعرف عليه، أحتاج لشهود يكشفون عن أسراره (السجناء)، لا أعتقد أنه كانت ستتوفر لي يومًا فرصة استجوابه شخصيًا. لذلك ارتأيت أن هذه الشخصية المجهولة والإشكالية بحاجة إلى مزيد من البحث.
موضوع البحث إذن هو شخصية السجان من منظور السجين الكاتب. وقد قمت بالبحث عبر قراءة مركزة للنصوص وتوجيه عدستي المكبرة إلى المشاهد التي يُذكر فيها السجان. والأسئلة التي طرحتها على نفسي أثناء القراءة هي: كيف صور الكاتب شخصية السجان؟ ما هي الزاوية التي ننظر من خلالها إلى السجان؟ ماذا نعرف عن اسمه ومظهره وخلفيته الاجتماعية وإيديولوجيته؟ ما هي دوافعه الشخصية؟ وكيف يتم توظيفه كأداه في يد النظام؟كيف تختلف علاقته مع السجين المرأة؟ وهل يُنظر إليه دائمًا كمتهم، أم أن من يعتبره ضحية أيضًا؟ كما حاولتُ بين الحين والآخر البحث في تأثير مظلومية السجين على الكتابة عبر المقارنة مع أعمال كتاب عرب لم يخبروا السجن بأنفسهم. لن أكشف عن استنتاجاتي هنا تشجيعًا مني للاطلاع على نص البحث كاملًا.
كتبت البحث في عام 2009 باللغة الهولندية، وأرفقته بترجمة عشرة نصوص من أدب السجون إلى اللغة الهولندية. وقد تولت جامعة أمستردام، كلية اللغات والثقافات السامية، القراءة النهائية ونشره على موقعها الرسمي. ولكني لم أكتب البحث بالعربية إلا منذ فترة قصيرة. والنسخة العربية المرفقة بي دي إف مع هذه المقالة هي عبارة عن تكثيف للنص الأصلي. ذلك أنه لم يكتب للقارئ العربي بالدرجة الأولى، وإنما لقراء لا يعرفون شيئًا عن سوريا. ترددت لفترة بكتابة البحث بالعربية لعدة أسباب، من بينها الحرب والخلافات بين المعارضة والمواقف المختلفة التي اتخذها الكتاب الذين درست نصوصهم، وكذلك لأني توقعت أني طرحت بعض المواضيع الحساسة والتي لا يرغب البعض بسماعها، كما كنت أخشى أن البحث لم يعد راهنًا بعد طغيان تجربة السجن على حياة السوريين والسوريات جراء الثورة والحرب. فضلًا عن أني كنت لا أعرف ناشرًا مهتمًا حقًا بهذه الثيمة بالذات. ولكني تجاوزت اليوم كل هذه العقبات الوجيهة وغير الوجيهة، وسعيدة أني تمكنت أخيرًا من تقديمه للقارئ العربي. أتمنى أن يُقرأ مع الأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية التي كُتب فيه. على أمل أن يكون مفيدًا بطريقة ما، كأن يساعد على حفظ تجربة جيل المعارضة السابق للثورة، أو يفتح المجال لدراسات جديدة أو مقارنة لأدب السجون السوري. لا أجد نفسي حاليًا مؤهلة للبحث في مزيد من أدب السجون، لأن ذاكرتي أرهقت إلى درجة باتت تفوتني التفاصيل، ولكني أمد بداية خيط إلى كل من يريد مواصلة الدراسة بأسلوبه الخاص واهتماماته الشخصية.
ويبقى أن أتوجه إلى كل من مرّ بتجربة السجن في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بالقول: لست متأكدة إن كان بحثي يعطي تجربتكم كامل حقها، ولكني حاولت قدر الإمكان أن أكون أمينة لنفسي ولكم على حد سواء. أتمنى أن تتقبلوه مني!
عن موقع الجمهورية