محمد صالح العجيلي، كاتب وقاص سوري، يقيم في تركيا.
أوراق 19- 20
القصة
أبو عبود سائق في مديرية مالية الرقة، يعمل على سيارة تنقل الجّباة إلى الارياف لتحصيل ضرائب المالية من أصحاب الاغنام، ما يسمى بـ القوجان*.
ذات يوم أخذ الجّباة نحو قرى البادية البعيدة، هناك حيث موسم قصّ صوف المواشي. وكان غالبية مربي الاغنام، يرسلون أصوافهم إلى المدينة لبيعها. أراد أبو عبود شراء صوف من إحدى العجائز، وقد أوعدها أن يدفع ثمنها في المرة القادمة، حينما يعود إليهم، في جولة جديدة .
غاب أبو عبود عن البادية، أكثر من شهرين. وذات يوم، ذهبت سيارة جباية المالية إلى البادية، ولم يكن السائق أبو عبود، فسألت العجوز عنه، فما كان من السائق الا ان قال لها ممازحاً: أتدرين يا حجة، أبو عبود مريض شافاه الله وعافاه، ادع له بالشفاء. قالت: مابه (يا سواديني*) قال قد عضه كلب منذ عدة أيام، وأصيب بداء الكلب، وهو جالس في بيته (يعوي ويكخ) على كل من يقترب منه. صاحت العجوز وقد ساءها الخبر، وهي تنادي ابنتها فاطمة: ( يا ويلي يا فطيم.. راح حق الصوف يابنيتي.. راح حق الصوف).
أخفى السائق ضحكته عنها. وحين عاد إلى المدينة، أخذ يقصّ على أبو عبود ما جرى بينه وبين العجوز، صاحبة الصوف. وحدّثه عما ما قالت، لذلك طلب أبو عبود من المدير أن يذهب في الجولة القادمة مع الجباة، كي يدفع للعجوز قيمة الصوف الذي تأخر به عليها كثيرا. وفعلا كان أبو عبود في أول رحلة نحو البادية، ليلتقي بائعة الصوف. حين وصل الصحب إلى القرية، توقفت السيارة عند بيت العجوز، ترجل الجباة منها، بينما ظلّ أبو عبود في كرسيّه. قال رئيس الجباة مخاطبا العجوز: ها نحن أحضرنا لك أبو عبود يا حجّه. صاحت من بعيد (هلا بيكم.. الحمد لله على السلامه خيي أبو عبود ما على قلبك شر).
تصنع أبو عبود التجهم، وعدم الاكتراث بها. قالت مابه.. ألم يشفى بعد؟! قال أحدهم: بلى شفي.. لكن بقي فيه بعض الآثار الطفيفة. وما أن اقتربت من السيارة، حتى قام أبو عبود بحركة غريبه منه أخافتها، فابتعدت عنه.
بقي أبو عبود في السيارة ينظر إليها، وقد فتح عينيه على وسعهما، ومدّ لسانه مغالبا أنفاسه . فدبّ في قلبها الرعب من جديد، وهي تراقبه وتقول: ألم يشفى بعد ؟! لكن أبو عبود لم يعد يتمالك نفسه، فانفجر بضحكة عالية مجلجلة، وتبعها منادياً: تعالي ياحجة.. تعالي، ليس بي شيء والحمد لله، فقد كان الشباب يمازحونك حينما قالوا لك أنني مريض وقد عضني الكلب ..
ترجل من السيارة، واقترب منها، وقد ارتسمت على وجهه بسمة صافية، وهو يقول: اخسا عليك يا حجه أم فاطم .. حين قال لك الشباب أنّه قد عضني الكلب، أما كان حرياً بك أن تقولي شافاه الله وعافاه، خير من أن تبكي على ثمن الصوف.. هذا حقك. ودفع لها ثمنه. راحت الحجة تعتذر، لكن دون جدوى، إذ راح أبو عبود يُصرّ على العتاب وهو يردد: باطل يا حجة باطل!
* القوجان: أو القوشان، هو ضريبه الدولة على مالكي الأغنام.
* ياسواديني: دعاء تدعو به العجائز في حال الإشفاق على احد او الحنان عليه.