الرماد موجز المنافي

0

خضر سلفيج، شاعر كردي سوري مقيم في بلغاريا

مجلة أوراق العدد 13

شعر

هي ذي المتاهة

لا أرغب في وصفها

فقدٌ بوهيمي

ينحت الحزن والحنين

والحزن بلا لسان،

قالت الغيمةُ،

ولا أنامل لحزنك كي يكتب السيرة

على أَكِمَّةِ الورد الذابلة.

… … …

لا حقائبَ بينَ أضلاعي

ولو أنَّ لي قدمين

تكتبانِ التيه

أو ما يمحو ذبولي،

إلى فراسخ زرقاءَ من دونِ سوء.

******* 

يقفُ الغريب على قلبه
يعزفُ في ناي الموتى مراثيه
كأنهم قد رقدوا فيه.

لستُ قنصلاً لدى حاضري
لأعرف الآن
ما سوف أعرفه..
وأمنح تأشيرة موتي
للعمر كما يشتهي..

الرماد موجز المنافي

يضيقُ بعادتهِ الوحيدة تلك:

وحده الذي يلقاني

بوجهٍ واحدٍ

ونوبات حراسةٍ لا بدَّ منها ..

سأضع ضلوعي برزخاً وأطير بك

قرب قضبان العزلة

أهجُّ في بلاد، أدعو بأن لا تموتي فيها.

قالت: سأنجبُ طعماً يشبهك

ليس مبرراً أن تطير بي

جفف النبيذ المُقدَّد ريقي

لا تأخذني رأفة

لا أستحقُ كل هذا الرثاء

أنجبُ في خلوتي

مبغىً

وأرصُدُ ما سوف يُملي عليَّ

شريكي التراب.

******* 

رجلٌ يدخل منفى ويكبران معاً،
هكذا تولد الحرب!
و.. الحرب لا تنتهي، والمنفى يعزف خارجاً برقبته، يناور ألم جسده. يرغي. في شبه قرفصة اعتاد القيام بها دائما ينحني. الوحيد الذي ظلّ مسمراً في العراء تحت صمت البنايات المغلقة وبرودة الزجاج في النوافذ الكثيفة هو الرجل الذي مات هذا اليوم بعد المساء.
الحرب لا تنتهي، والحداد يلم أزهار الرجل البيضاء، مرهف السمع للمساء، رقيقٌ في مُلامسة التعلُّق بالتعب.
الحرب لا تنتهي، والتعب يطفىء مصباح الرجل الذي مات هذا اليوم بعد المساء، في امتثال لأمر النعاس الذي يشتهي، نعاس حيٌّ إلى الأبد.
الحرب لا تنتهي، ويذهب في صمت حتى ليسأل عنّي
على أي كتف أنام
بعد أن أخطأت قلبهُ حانات أثينا
الرجل الذي مات هذا اليوم بعد المساء
كان الرجل الغريب
الرجل الذي تقمّص نورساً وترك آثاره على رمل المغيب
وحده يجمع المراثي
ويعود بالنبوءات الضالة
إلى التيه…

**********

أفقد ملامح “مَمْ”

هل كان “مَمْ” عاطفيا بدائياً

لبلوغ فناء “زين”

لبعض المتاهات المتأنية؟

هل كان أفلاطونيا

أكثر دقّة من عذابات الروح

ليبني متاهة يضل فيها كيانه؟

كانت روايته بريئة ولم يستدل أحد على المتاهة.

تلك صورته: أسيراً أزلياً لـ”زين” – ؛ في المرة الأولى مغمض العينين؛

وفي الأخرى، غارقا في تأمل غصن عطر من الجوري.

قالوا إنه لم يغادر دمه شاخصاً بناظريه في أحراش الشوك البعيدة أو في خيوط العنكبوت .

فكّر في أنه في ساعة الموت لن يكون انتهى من تصنيف كل مقومات الحب.

وأحجم عن ذلك لاعتبارين:

وعيه بأنها مهمة لا تنتهي، ووعيه بأنها حُمّى أزلية.

في عالم “مَمْ” المزدحم لم تكن هناك سوى تفاصيل، فضّل أن يوجزها في صدق الأشياء الكثيرة التي قالها لقاتله.

افترقت عن “مَمْ” على أبواب بوطان، وأعتقد أن أياً منا لم يودع الآخر.

عندما تقترب النهاية لا تبقى صور بالذاكرة وتبقى فقط الكلمات تدوّن الأساطير

وأن حدود الأساطير أضيق من نبض الشجرة وهي تضمد جراحها من حافر الغزال

تضيء كما الغيب حاضرة في القلب.

********** 

… … …

هذا الفمُ الريفي

أجنّدهُ، وأنقّعُ المشمش فيه

كي لا يلوح لي أثرياً

كالبرونز.

أدع الأيام تنساني، راقداً في الظلام

أبارك رطوبته، أبارك كائناته، أبارك ثقب الضوء، أبارك جسدي الهش

كافة الأشياء القادمة والحاضرة والماضية متشابكة

أظهر بمظهر الرواقي الرجولي،

ربما يُنسيني أي احتمال للألم

وأجنّدُ فيه صورة الغريب للقبض عليه بشبهةِ الاختفاء؟!

******

جناحُ غمامةٍ

تقود الغريب إلى نفسه

إلينا

تتَفَتَّحُ بين خطى العائدينَ

تلفظ تاريخها خارج الندم، المتغضنُ في أبديّتِهِ

أمنحها ندمي، وألغي بلا خطيئةِ سماتِها، تلك المرويّة برائحة الخبز الريفيّ، بماء الفِطْنَة وشاي الكرديِّ

ليس لها، أن تموت

ليس لي أن أبتكرَ الفرح

كان حلمي ألا أكون..

غير أن نُطْفَةَ الظلِّ

استباحت كينونة الروح

تعبُرني في اضطرابِ الندى

لأصير وجوداً مُفعماً بالهَجْرِ، وإليه

ما يُشبهُ جَذْبَةٌ تضربُ النقشبنديَّ على روحه وتذيبُ الشطح منتصفَ الدربِ ما يُشبه مُريدونَ

ينطفئونَ مساءً على عِتاب القيشوان.

******

سوف أنسى بصري وأصبح أعمى.

سوف أبحث عنك بأصابع مدميّة

ولكن كل الذي سألمسه،

سيحترق.

ثمة صوت يتحدث عن طريق قرب الحياة

يقودني إلى تدفق الكمنجات

وغرق البهجة

حيث يجلس الموتى على أبواب قبورهم

ملتحفين بالبياض والشوق

يطردون الملل عن شواهدهم

يتبادلون الحديث كفتات السكر في القهوة المرّة

ولكن لم ينتبهوا، أن الصوت يرمي من حاسّته الزمن كلّه

عمّا لا يمكن الاستحواذ عليه من الحياة

حاسّة صوتهم

الصوت الذي يصغي

وكنتُ الغريب استعذب شاكلته في الإصغاء

وأقتنص المودة التي هاجرت.

********   

إلى طفولتي:

في الطريق إليك

كان الحمام يعوم في المرايا

يشق ليونة السماء

ربما، كان يعوّل على الغياب

ولكن برائحة أخرى

كي يبدد وحدتي

حالُ مِذراة الفرح التي أسقطت كل شوائب الأوجاع

وأبقت دموع الحياة على خدي!

إلى أبي وسورة يوسف: الأخوة المنهكون

الأخوة الطيبون، الأخوة الرديئون

وهم يتقدمون جماهيرك إلى الآخرة

روحك في عينيك المرفوعتين

لم أعد أرى غيرهما – ذلك

كان العالم بالنسبة لي!

إلى سيدي أبي العلاء المعري وناموسه: “رسالة الغفران”

هل رأيت إلى أبعد من ألف عام

فلم تَجِن على أحد

ولا انحنيت لأحد!

إلى البستاني الأعمى:

الأزهار التي تقودك إلى رائحتها

بعصا الضوء

كانت ثملة بنباهتك

غير أنها تعضّ على أصابعك

لتتحسس لوناً من بكاء

فوق جوريّ المراثي

وأنت في عتمتك

ترسم وجه الغائبين

كيف تراها تتحمل هذا القدر من الأحزان؟

تتأمل نفسها مليّاً، عارية، في ضوء عصاك

وتسأل عن غدها

بكل هذا الضيق الذي يحجز الأمل.

إلى آلان:

كان الفتى الذي يرتدي قلبه

يمضي كنصفيِّ تفاحة

ويغور في متاهة الحب

والقتال

قلّ ما يحمل تعويذة الرصاصة

وكأن هذا هو ما تعوّد أن يفعله

ويشعلنا بسيرته

هذا ا الفتى الذي ولد في جميع الهزائم والحروب

كان يحلو له أن يترك النوافذ مفتوحة خلفه

كي يسترد عادةَ الغناء

على انخفاض الأمل

ينتعل لهفة المغامرة

ويغادرُ نفسه إليها …

لعلّ لديه ما ينير العتمة

حتى لو كان في اليأس

والعزلة.

إلى دينوكابريفا سليم بركات:

سأذهب في أثر التاريخ الذي يمشي صوتاً،
لأنفض عن قبرك غبار الجرارات التي تحرث
في العتاب
لأزيح هذه الأعوام التي تمر،
كقطيع غزلان
كانت تردد مرثية العائد
والتي كان من واجبها أن تغني
في الآثار الضائعة لصوتك.

إلى سندريلا الغبطة:

لا تنفع قبلة على قبعة ميت.

********* 

قلق السواد على بياض الموتى
في السهل الأخرس
لمزارعي الوحشة
وهو المحمّل بأعباء الحضور
لا يترك سوى رماداً
وبعض خضرة من التأنيب
مثل العائد الخجول
يحمل نعشه
وقد أرهقه الشوق
ملطخا بالحرب والوردة التي وعدته بالزواج
وإنجاب الأولاد
كم من وجع
أيها السواد.. المتخلي عن مهنته
خلفت لي حمّى بهيّة
لعلّي أنطق ثانية هلوسات الأمل
بخفتها
ممتلئاً بصدقك

***** 

يدك الحارسة على خاتم أبي
تبعث أخضرَ قاتلاً،
تغطيها الريح الآن بغبار آت من بعيد
ربما من الأفندي،
تضع بين أصابعها قليلاً من الحبق
عربون الحبّ الأول
وكثيراً من رسائل المودة
طرحتها على وجوه النوم في أسرّة السماء
أبناء البلاد الجريحة.


لا زرعة في التيه
سوى أثر أقدامك المبتلة بالبكاء
يحملنا نحو منأى آخر…
حيث كانت هناك الطيور
تموت عند أول أشجارها.

***** 

إلى المنفى كاهن الملامات:

على قبره لم أضع زهرةً

وإن باغتتني المودة

فلن أملك البكاء.

إلى نديم “مَمْ”:

ذلك الكرديَ المعتكف

يمطر غياباً

يستريح الآن في القلق العرّاف للخاني، كي يتأهب، ثانية، للتنقيب في حزن “مَمْ”

لا ينفع النحيب على صدر ميت.

وجهك المتعثر في الخراب
أيقونة الأحزان
في سِيرنا الذاتية.

لم ينشر ملاك واحدٌ يوماً جناحيه:
ما أحد يغني كما يغني
الملاك المجنون
وليلى المجنونة (على ذمة الأساطير)
تفتتن بغنائه قاطعة نشيدها
بتهليلٍ طري..
ليتهم يستطيعون أن يسمعوا صوتك،
أن يروا، على كتفيك، شالَ الغرام
في ذلك البيت الذي يطلّ على شارعين:
شارع يسكنه كلامٌ كثيرٌ يطفو حول ترهل شفتيك
وفي الآخر، شعراء عراة، يخرجون، بركلة واحدة، رغبةً في الحرية.

إلى صلاح الدين الأيوبي، ووصيته لإبنه: “أحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام؛ 
وترك وصيته
تحت وسادته
وهو في طريقه إلى الله ..”
ثمة كائنات جنّازةٌ يا أبي 
لا يمينَ ولا يسار في زحام الظلام
ولا بيّنة
نصفُ الظلامِ لهم
ونصفُ الظلامِ لنا
ولا أحد يرى الآخرَ
صعدنا بعربات سكرى 
نحو جحيم نتشهاه..

حزنٌ قديمٌ

يأتي الصباح

يلتمسُ العُذر

على غير عادتهِ

يضلُّ الطريقَ إلى نفسهِ

وليسَ في يدِهِ سوى

طلقةِ رحمةٍ واحدة

ناموا على صدر الليل عراة كالأسماك

والشجر يحرس أشواقهم

هناك على عيونهم المقفلة

يبتسمون ثم يموتون في تلك الزرقة

بخديعة الريح

وهي توقظ أمتعتهم الخفيفة

دون خوف أن تثق بهذا الدليل.