د.مصطفى عبدالقادر، كاتب ومسرحي، وأستاذ جامعي سوري يقيم في ألمانيا
أوراق 19- 20
مسرح
يبدو أن اتساع رقعة المدن، وكبر حجمها لا علاقة له بعطائها، وتقدمها، وتصدرها للمشهد الثقافي. فكم من مدينة كبيرة بمساحتها الجغرافية، وبعدد سكانها الكثر، ومع ذلك فإن لديها فقراً في مناحي الحراك الثقافي الأدبي والفني والفكري، على عكس مدينة الرقة الصغيرة مساحة – إذا ما قيست بكبريات المدن السورية- والكبيرة بنتاجها ذائع الصيت والصدى، في مختلف الحقول الثقافية والأدبية.
إن بداية احتكاكي بفعلها الثقافي المشهود له، كان في بداية ثمانينيات القرن المنصرم حين ذهبنا إلى دمشق، للمشاركة بعرض مسرحي، ضمن عروض المهرجان المسرحي العمالي، الذي اعتبر في حينه واجهة المهرجانات المسرحية القطرية وأقواها جودة واهتماما. آنذاك قدمت فرقة الرقة عرضا مسرحيا بعنوان (الجمجمة) إخراج الفنان نجم عليان، وتمثيل ثلة من الشباب بطاقاتهم المتفجرة أذكر منهم (فواز الجدوع، موسى الخضر، شكرية الخضر ..). هذا العرض، كان متميزا، حيث لاقى استحسان الجمهور والنقاد، بأداء ممثليه، والرؤية الفنية الإخراجية الموفقة، ثم كرت السبحة في صعود متواتر.. إلى أن استطاع بعض عناصر هذه الفرقة الوصول إلى الشاشة الصغيرة، عبر مسلسلات درامية لافتة، لاقت تقبلا ورواجا لدى المشاهدين.
ثم بزغ نجم فرقة الفنون الشعبية في الرقة بقيادة مدربها، والأب الروحي لها الأستاذ إسماعيل العجيلي، فازداد إعجابنا بذلك النهوض الفني المتسارع لتلك المدينة الوادعة حيث كانت فرقة العجيلي هي الواجهة الفنية لسوريا تمثلها في المهرجات الدولية، كيف لا، وهي التي بزّت فرقة أمية للفنون الشعبية المعتمدة رسميا من قبل الدولة. وراحت فرقة “العجيلي” تجوب العالم بفتيانها وفتياتها، وهي تحمل قدرا عالياً من الاجتهاد والانضباط والمسؤولية، إذ أخذت على عاتقها تقديم الفولكلور الفراتي، برؤية عصرية متطورة.
لم نلبث إن تابعنا توهج المركز الثقافي العربي في الرقة، وما قدمه من أنشطة وفعاليات ومهرجانات استقطبت أسماء لامعة، لها وزنها على الساحة العربية الثقافية. لقد قيّض لي تقديم عرض مسرحي على خشبة ثقافي الرقة وذلك بحضورٍ رسمي، وجماهيري واسع، كانت الصالة ممتلئة عن بكرة أبيها، والممرات لا مكان فيها لوافد جديد، مازاد في تحريضنا على تقديم أفضل وأجود مالدينا..
تتالت الأيام، ومرّت السنون، وتكررت زياراتي لمدينة الرقة لاعتبارات شتى حيث تعرفت إلى جملة من الأدباء الذين أثبتوا وجودهم سواء في مجال الرواية أو القصة أو الشعر. إذ قدموا نتاجا متميزا له بصمته وخصوصيته، كما أتيح لي بحكم تعاطي مهنة الأدب، أن أتشرف بإقامة أكثر من أمسية أدبية في مدينة الرقة، وسط حضور نوعي، ناقشني بأدق التفاصيل، ما يدل على فهم، وتفهم، لما يتلى على مسامعهم، إضافة لذائقتهم الأدبية التي تجلت بالتفاعل والتصفيق، مع كل جملة لامست شعورهم .
ومن الأسماء التي تشرفت بمعرفتها وتوليد صداقات متينة معها، الروائي المتميز، صاحب الكلمة الحرة الأستاذ إبراهيم الخليل، وهو من وضع مكتبته العامرة تحت تصرفي إبان النزوح إلى الرقة، وكذا الأستاذ خليل جاسم الحميدي، حيث أهداني خمس مجموعات قصصية له، وأيضا الأديبة فوزية المرعي التي جمعتني بها أمسية مشتركة، وكذلك الفنان التشكيلي والروائي الماتع الأستاذ أيمن الناصر، الذي فتح لي قلبه، وبيته لدرجة أننا كنا نتناقش بما نكتب قبل استكمال مخطوطاتنا الأدبية.
ومن الشعراء الذين تشرفت بمعرفتهم الأستاذ إبراهيم الجرادي الذي شغل عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب بدمشق لاحقا. ومن الأسماء التي لم تغب عن ذهني د. حمدي الموصللي الذي حصد جائزة محمود تيمور للتأليف المسرحي بمصر، والروائي تركي رمضان، والأديب الصحفي محمد جاسم الحميدي، والروائي يوسف دعيس، والشاعر الأنيق بسام بليبل.. والكثير من الأسماء التي خانتني الذاكرة باستحضارها.
أما أيقونة الرقة، وشيخ الأدب فيها المرحوم عبدالسلام العجيلي الذي فاق أدبه طبه، ووصل اسمه إلى أقاصي المعمورة، فالحديث عنه يحتاج لصفحات وصفحات، ومما يحسب له أنه ألتصق بمدينته حتى آخر العمر، على الرغم من كل المغريات التي عرضت عليه، فبقي قرب فراته، ينهل من نمير مائه، ويتغنى بمويّجاته.
كل هؤلاء وغيرهم، نقشوا اسم الرقة بحروف من ذهب، ما جعلنا نغبطهم، وننظر إليهم بمزيد من الاحترام، والتقدير، والإكبار.