إبراهيم العلوش، مهندس مدني، كاتب وقاص وروائي سوري.
أوراق 19- 20
نقد
إذا كانت أعمال الدكتور عبد السلام العجيلي، هي البداية والتأسيس الراسخ، فإن المجموعة القصصية “الدم ليس أحمر” هي مفصل أو مفرق على طريق يقود الى أصوات جديدة، في القصة القصيرة والاعمال السردية الرقيّة.
صدرت المجموعة القصصية الجماعية “الدم ليس أحمر” عام 1984 بإشراف واعداد الشاعر إبراهيم الجرادي وتحرير الصحافي سعيد مطر، وبالاستعانة بأرشيف وعلاقات طه الطه صاحب المتحف التاريخي والفكري والأدبي، وضمت المجموعة مشروع القصاصين والكتاب المؤسسين لبداية كتابات العقدين التاليين بعد تاريخ إصدارها.
وليست المجموعة تعبيرا عن الجيل الذي تلا العجيلي، بل هي تعبير عن الجيل الثاني من الكتاب والقصاصين الرقاويين، بعد الجيل الذي تألق فيه إبراهيم الخليل القاص والروائي الذي يتسم مع العجيلي بوفائه للرقة كمكان، ولم يغادرها الى اليوم. وقد ظل إبراهيم الخليل خبيرا بتفاصيل الرقة وبدروبها وبحكايات أهلها السرية والعلنية، وبفضائحها المخبأة بالمال أو بالنفوذ، أو خلف لحى مزيفة وعقيمة.
صدرت مجموعة الدم ليس أحمر بعد موجة الاعتقالات الجماعية التي شنها حافظ الأسد وعلي دوبا على جيل الثمانينات السوري، وزرعا الخوف فيمن نجا من الاعتقال الى درجة أنك صرت ترى عائلات تغيّر كنيتها من اجل التخلص من الاستدعاءات الأمنية. وكانت المجموعة محاولة لتجاوز عقدة الصمت والذهول التي خلّفها النهج المخابراتي الذي انتصر على السوريين، وبدأ يحلم بإركاع سوريا وتحويلها الى جمهورية خوف!
كانت المجموعة محاولة للتمرد على السائد، ومحاولة لتجريب الأفكار الجديدة التي تدعو الى الثورة، وعدم الاستسلام. وكانت أفكارهم ماتزال غائمة، وتنوس بين الثورة والعدمية. ورغم أنها كانت نقطة انعطاف مهمة، لكن لم يصمد الكثير من كتابها في تحمل أعباء الكتابة والتضحية من أجلها، فاستمر عدد قليل منهم مثل معن الحسون المسكون بالحلم، وبسام الحافظ الذي أسرته التفاصيل، ومحمد جاسم الحميدي رجل الحكاية والتراث القصصي الشعبي، بالإضافة الى أحمد مصارع وعبد الرحمن مطر وأحمد جاسم الحميدي. وترك محمد غانم الكتابة الأدبية الى شؤون الجدالات اليومية، وارسين قومجيان ذهب إلى الثقافي بأبعاده العامة، ومحمد فياض الأحمد صمت مضيعاً صوته المميز، وكذلك عبد الرزاق عبيد، وخليل الطه، وغيّب الموت أحمد محمود المصطفى بشكل مبكر في حادث سير.
ظلت الساحة الأدبية، مفروشة برفاهية الحكاية وتجلياتها الجميلة في أدب عبد السلام العجيلي، وكانت التمردات الأدبية ضد الحكاية الكلاسيكية في القصّ، قد بدأت مع مجلة صوت الرافقة التي كان يصدرها عدد من طلاب ومعلمي ثانوية الرشيد، وبرزت فيها أسماء أدبية لم يستمر الكثير منها وتحوّل بعضهم الى حرف وأعمال أخرى أدبية أو سياسية أو غابوا عن الفضاء العام متوارين في خضم مشاغل الحياة الكثيرة.
ورغم أن الأسماء التي برزت في تلك المرحلة الذين أسسوا لما يدعى “ثورة الحرف” أمثال إبراهيم الخليل وعبد الاله حمزاوي، وعبد الله أبو هيف وفيصل حقي، وخليل جاسم الحميدي وإبراهيم الجرادي. كانت شديدة الانتقاد لأدب العجيلي، الى درجة التحرش بمكانته الاجتماعية والعامة، فان أدب العجيلي ظل موجودا، وله قراؤه، وظلت موهبة العجيلي القصصية وموهبته في كتابة المقال والقاء المحاضرات تسرّ القراء والجمهور، وتأسرهم الى درجة حبس الأنفاس.
وظل العجيلي أبا روحيا للكتاب والمثقفين الرقيين، وكتب العديد من المقدمات لكتبهم، أمثال تقديمه لرواية حارة البدو لإبراهيم الخليل، ولمجموعة قمر على بابل لمحمد الحاج صالح، وكلمة الغلاف لمجموعة من مجموعات نجاح إبراهيم، وأعطى مقابلات كثيرة لكتاب وصحفيي الرقة، ومن أشهرها مقابلاته مع ماجد رشيد العويد، الذي كانت له مكانة خاصة لدى العجيلي.
وفي مطلع التسعينات، برز جيل جديد تجاوز نهج الأجيال السابقة وصدرت عدة مجموعات قصصية تركت أثرا مهما في الحياة الأدبية الرقية والسورية أمثال مجموعة “قمر على بابل” ومجموعة “القاشور”، ورواية “شمس الدين” لمحمد جاسم الحميدي، و”بصوت خفيض ” لماجد رشيد العويد. وبرزت أسماء مثل صبحي دسوقي وسامي حمزة، و مصطفى حقي وفيصل حقي وشهلا العجيلي، وبرز الممثل والكاتب يحيى الكفري، ولعل صدور رواية سولاويسي لخليل الرز في مطلع التسعينات، هي من أهم الإعلانات الأدبية في الرقة اذ انطلق نشاط خليل الرز الذي صار من أهم الكتاب السوريين والعرب، في نهجه الفني وفي تقنياته الأدبية، وفي مزج الثقافة العربية، مع الثقافة الروسية، بالإضافة الى الاقتصاد الشعري في بناء الجملة القصصية، وقد اعتنى بمزاوجة المسرح مع القص مع الفن التشكيلي، اذ ان الكثير من شخصياته تكاد أن تكون علامات وصفية في لوحات فنية، مزينة بالألون ويحميها التجريد من الخوض في الحياة اليومية ومشاكلها.
استمرت الأجيال الأدبية في التفاعل وفي التنافس فيما بينها وفيما بين أساليبها التي ابتدأها العجيلي بفن الحكاية، والتي استمرت في توظيف جمالياتها شهلا العجيلي وأيمن ناصر، وعمر الحمود، وتركي رمضان في روايته برج لينا. فيما ظل التجريب القصصي والروائي سائدا في اعمال ماجد رشيد العويد وإبراهيم العلوش وإبراهيم الكبة الذي أبحر عميقا في عوالم الخيال والبلاغة اللغوية والنفسية.
وبرز مزج الشعر مع الحكاية والتصوف في أعمال إبراهيم الخليل وأسعد آل فخري، بينما نحا محمد الحاج صالح الى السياسي والفكري وصار الهم العام فوق همه القصصي، خاصة وأنه من عائلة منكوبة بالاعتقال الجماعي سواء على يد نظام الأسد أو من قبل تنظيم داعش الذي اختطف اخاه فراس الى اليوم، وبرز يوسف الدعيس في التقاط الحياة اليومية وتفاصيلها متحررا من لغة الشعر والتصوف التي جمدت النصوص الأدبية وجعلتها مجرد كتل بلاغية تكاد أن تكون منفصلة عن الواقع.
وجاء إسماعيل الخليل بروايته “ذاكرة العوسج والصبار” التي كانت أول رواية يتم توقيعها في الرقة التي تدمر 80 بالمئة من بيوتها وشوارعها ومقوماتها الحضرية، المدينة التي سطرت ذاكرة 160 عاما من الاستقرار على ضفة الفرات ومن محاولة احياء المدينة العريقة في تاريخها التي سكنها هارون الرشيد ودمرتها عائلة الأسد بالاشتراك مع داعش وإيران وروسيا، والقوات الغربية وحلفائها الذين حولوها الى خراب، وقد جاءت رواية المغيرة الهويدي “قماش أسود” التي فازت مؤخرا بجائزة غسان كنفاني لتؤرخ بعضًا من تاريخ المدينة.
ولابد من التعريج إلى أدب السجون الذي تألق فيه هيثم الخوجة بمجوعته القصصية اليتيمة “القحط” ولم يتمكّن من متابعة مسيرته القصصية لأن الموت عاجله بعد خروجه من المعتقل اذ خرج محقونا بسموم علي دوبا التي أباد بها جيلا من السوريين من أجل ترسيخ عبودية السوريين لعائلة الأسد.
وكذلك رواية “قبل حلول الظلام” لمعبد الحسون عن المعتقلات التي عايشها طوال عقد كامل اذ يروي حكايات من الجحيم الذي يشبه جحيم دانتي وبأسلوب قصصي أخّاذ. وقد استكمل مسيرته الأدبية في بلدان اللجوء التي ساقها اليه نظام الأسد.
وقد فاجأ أيمن ناصر الأوساط القصصية بصدور روايته “اللحاف”، التي لاقت نجاحا واقبالا من القراء وإن كانت الحكاية هي محور اهتمامها بعيدا عن الاسقاط السياسي، والتجريب الذي عذّب كتاب القصة وارهقهم بالاختزال والتصورات البعيدة الى حد الانفصال عن الواقع في كثير من الأحيان.
أما التجارب النسائية في الرقة فلها مساحة ليست قليلة مثل سحر سليمان التي لم تستكمل تجربتها بعدما هاجرت وانشغلت بصعوبات الحياة، بالإضافة الى فوزية المرعي التي لم ترتق تجربتها عن كونها تأملات وخواطر أدبية ممزوجة بالشعر، وكذلك نجاح إبراهيم التي أثارت الكثير من النقاش حول تجربتها، وشهلا العجيلي الكاتبة والناقدة والتي وصلت بعض أعمالها الى الشهرة على مستوى العالم العربي بعدما تم ترشيح روايتها “سماء قريبة من بيتنا” الى القائمة القصيرة في البوكر العربي عام 2016.
ولابد من ذكر لاعبين لم ينزلوا الى الملعب وكانوا أشبه بالمحرضين والمحفزين على الابداع ومن أبرزهم طه الطه صاحب المتحف الفكري والادبي، وعبد السلام حياني المتابع والناقد الادبي، وكذلك عبد الغفور الشعيب الذي يعتبر العقل الاستراتيجي لتطور الثقافة في الرقة عبر إدارته للمركز الثقافي فيها، وتألق الإنتاج الفني والادبي والفكري في عصره، رغم أن النظام كان قد كافأه بالاعتقال في عصر الأسد الاب، وبالتهجير في عصر الأسد الابن، وقد توفي غريبا في تركيا بعيدا عن المدينة التي أحبها وكرّس فكره وجهده لتألق الابداع فيها.
سكت الكثير من الكتاب وفروا الى زوايا نائية في السياسة وفي الاقتصاد والميديا ومن لم يتمكن من الفرار فقد فضل الصمت، الصمت الذي يضيّع التجربة وتجليات الخيال وأحلام المستقبل، لكن جيلا جديدا من الكتاب بدأ البروز على الساحة العامة سواء داخل سوريا أو خارجها، ما يزال هذا الجيل يعاني من قسوة الحياة وظرف الاستبداد والتهجير، وما نزال نأمل بإصدار روايات وقصص الأجيال القادمة من الادباء الرقيين خاص وأن المكان لم يعد يتسع لهم وصاروا أبناء المدن والمهاجر الجديدة وما علينا الا انتظار النصوص الجديدة التي ستخط الدروب الجديدة نحو المستقبل!