أحمد البرهو
شاعر وباحث سوري، له العديد من القصائد والمقالات والبحوث في الصحف والمواقع الألكترونية، يعمل مدرساً للغة العربية آدابها.
أوراق 11
ملف أدب السجون
في البداية لابد من التنويه إلى أن حديثنا عن الخيال لن يكون القصد منه الحديث في الصورة الفنية وأشكال تكورها عبر التشبيه والاستعارة ونحو ذلك .. بل إننا سنحاول البحث في موضوعة الخيال وأثره في العملية الإبداعية التي سيكون الشعر ميدانا لها.
سنحاول اختبار مقولة أن الخيال الإنساني، “جذر القوة الفعَّالة” بحسب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، باعتباره المحرض الأول للفعل الإنساني. الخيال الذي يتبادل التأثير مع الإرادة في بعث الرغبة الأولى تجاه حلم قد يسعى الإنسان إلى تحقيقه، أو باتجاه صورة أخرى يُحاذر أن تتحقّق في المستقبل.
بين الخيال الذي يمكن أن يكون حقيقةً تجسدت في رؤيا شاعر، وبين الخيال الذي هو تَوهُّمٌ أو إيهام، والذي لن نعنى به هنا مع حضوره خلال البحث كنص غائب.
ما الخيال؟
ربما يمكننا البدء من أفلاطون الذي رأى أنَّ ثمّة مثالاً عُلوياً يمثِّل الحقيقة .. وأن الفن محاكاة/ تصوير، وأن المحاكاة بدرجة أو بأخرى مفسدة للحقيقة المثالية، لذلك توقع أفلاطونُ من المبدعين توخي الدقة القصوى/ الصدق في التصوير.
ثمَّ إن هم أجادوا وفعلوها فإن ذلك وحيٌ/ إلهامٌ من آلهة الشعر… أومن العقل ولا أثر لإرادة حرة هنا.
أما أرسطو فقد خالف أستاذه فأنزل المثال من برجه العاجي ليغدو أكثر قرباً وواقعية، وأكد على دور الحواس، ومن ثمَّ فإنَّ الفن يمكن أن يتعدى المحاكاة إلى الخيال الذي هو (الحركة المتولدة عن الإحساس بالفعل)، أما المخيلة فهي عبارة عن الآثار التي يدركها الحس، أي أن الخيال هو الحركة الناشئة عن الإحساسات في الذهن، ثمّ إنَّ إحساس المبدع قد يتجاوز المثال الواقعي لديه.
ولاريب في أنَّ قيمة الإبداع سترتهن، فيما بعد، إلى التجاوز ثم إنَّ الإرادة المبدعة الحرة هي إرادة متجاوزة.
نحن نبحث عن مصدر الخيال الشعري الصادق .. فما الصدق الذي نريده هنا؟ أهو الصدق الأخلاقي الواقعي أم الصدق الفني؟
في مقدمة ديوان المازني يستشهد محمود عباس العقاد بشطرٍ شعري للمازني: (والمرء في نفسه يرى زمنه).
وكأن العقاد أراد بذلك أن قوة الإحساس لدى المرء (الشاعر) تمكنه من أن يعبّر عن تجربة شخصية عميقة تتسع بعمقها حتى ليمكنها أن تكون نموذجاً عن تجربة أمة كاملة في زمن من الأزمان. ولو تحصّل ذلك فإنه سيكون دليلاً على صدق الشاعر بحسب رأي العقاد الذي أولى قضية الصدق في الأدب اهتماما كبيرا.
لكن كيف بإمكان المرء (الشاعر) أن يختصر حياة مجتمعه في تجاربه الشخصية .. حتى ليمكنه أن يرى زمنه في نفسه؟! ما مصدر هذه المقدرة وهل هي متاحة لكل شاعر؟ في إشارة إلى أن التقليد يتناقض مع الصدق، يرى العقاد في مقدمته لديوان المازني ان (شعر الطبع والإخلاص غير شعر الصَّنعةِ والتقليد)، و يضيف: (فإذا كان للأمة جهاز عصبي، فإن الشاعر العبقري أدق هذه الأعصاب نسجاً، وأسرعها للَّمس تنبهاً…) من الديوان ص22.
إن هذا الموقف من التقليد، الذي هو المحاكاة بشكل ما، كرَّره العقاد في كتابه (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) حين أراد من الشاعر أن يعبِّر عن ذات نفسه بكل دقة وصدق، الصدق الذي ينشده العقاد هو تجاوز التقليد لصالح التجربة الذاتية للشاعر، بحيث يستطيع المرء ان يكتشف شخصية الشاعر من خلال شعره، في حين أن الشعر الذي لا يعطينا صورة صادقة عن تجربة ناظمة، (شعر كاذب وزائف).
التجربة الشخصية شرط الإبداع الشعري الحقيقي الذي يتجاوز تقليد الشعراء السابقين (المثال) وسيمنح الشاعر فرصة ليتفاعل من جديد مع الحياة، لأن (الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا مَن يعددها، ويحصي أشكالها والوانها، وان ليست مزيته ان يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته ان يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به).
لعلَّ العقاد، وهو المبدع والناقد، تجاوز الحديث عن الشكل والمضمون وتجاوز الحديث عن الصور إلى المعاني، وربما يصح القول إنه أرسطي المذهب وإنه يتفق مع كولدريج الذي رأى أن للخيال الحق/الشعري/المنتج قدرة هامة على الصهر، قدرة خلق إبداعي لأنه إحساس عاطفي عميق ومركَّز، وهو، أي الخيال، يقوم على توليد الصورة التي وظيفتها تصوير الحقائق النفسية والأدب.
إذا كان الصدق الواقعي يجسّد المثال، وكان للإبداع شرط التجاوز، فهل من الضرورة بمكان أن يُبنى الصدق الفني على شرط تشويه الواقع؟!
هل الكذب شرط لازم للجمال الإبداعي؟!
لتوضيح المسألة سنُعرِّجُ على مذهب الناقد السوري يوسف سامي اليوسف في الخيال، حيث يحاول اليوسف صياغة مفهومه عن الخيال من خلال تفسيره للنفس الإنسانية التي ينازع خلالها (ما هو عقلاني طارئ .. ما هو أصل لاعقلاني .. خيالي) فإذا كان كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي، بحسب هيغل، فإن اليوسف يرى أن العقل ناتج عن التربية، وأن الخيال الذي هو لا ذهني ولا عقلاني هو مفتاح الشخصية البشرية كلِّها، (إنه الاستعداد الفطري وهو الحنين ضد التشيؤ والنفعية..) من كتاب “الخيال والحرية” ص 18 وما قبلها. اليوسف يميز بين ثلاث قوى متباينة في النفس، العقل والوجدان والخيال، وكلها تتآزر ذاهبة إلى اللا نفعية، والشاعر ليس عالم اجتماع يقف عند الحقائق الموضوعية، بل يتعدى ذلك إلى أثرها، إنه يستخدم الخيال بالوجدان، فهو بذلك وإن كان شديد الاستفادة من صور المجتمع، إلا أنه في النهاية لا يصنع محاكاة، بل يبتكر. فكأنَّ اليوسف أراد أن يقول إنَّ الشاعر كالنحلة التي تتنقل بين الأزهار جامعة الرحيق، لكنها لا تترك الرحيق مكدساً، بل تبتكرُ عسلاً وفي ابتكارها العسل لا تتقصد النحلة تشويه حقيقة الأزهار، بل كأنه أراد أن يقول: إن الصدق الفني مواز للصدق الواقعي بطريقة ما، ذلك أن هذا الابتكار المصحوب بدفء العاطفة مرهون هو الآخر بمعيار الصدق: (والشاعر لا يكون شاعرا إلا إذا صدق وحسب، وأما صدقه فمعياره حرارته وحساسيته التي هي الأس الأوَّلاني لأدبه كلِّه) من كتاب الخيال والحرية ص22.
الصدق هو مبعث تلك الحرارة وتلك الحساسية في العمل الشعري، والحرارة والحساسية دليل على الصدق، ومن ثمَّ فإن غيابهما سيودي بفنية العمل. من القيمة والمعيار في حديثه عن الشعر الجيد يقول اليوسف: ( ..أن الوجدان الحميم، الذي قد يصلح معيارا لأجود أصناف الشعر، هو العنصر الذي يفتقر إليه الكثير من القصائد) ص36. على أن هذه الحساسية (لا تأبه بالحقيقة الموضوعية أو الخارجية إلا بمقدار ما تؤثر على الذات) ص 99.
إن فعل التحسس (الحساسية) هو وحده القادر على استنباط الدلالة والفحوى من الأشياء الخارجية، لهذا فإن قيمة كل شعر أو أدب جيد لا مصدر لها سوى زخم التحسس وقدرته على استخلاص اللباب من كل ما هو برسم الاستدلال الوجداني الذي لا يعنو بمثنوية الخطأ والصواب، وذلك لأن الحساسية أو المعرفة الوجدانية محقة على الدوام، ومن شأن هذه السمة، (أي الحساسية)، أن تجعل منها السجية الأنفس بين سجايا الباطن كلها. ص 98.
ولهذا فإن (الصور الخيالة، ولاسيما الفنية، ليست سوى محاولة لإشباع الحساسية العارمة…وأن الخيال قد نما انبثاقا من تربة الحساسية بوصفها علاقة بين الداخل والخارج ..) ص99. إذاً فحرارة العاطفة مؤشر على صدق الحساسية الشعرية وهذه كلها تفعل فعلها فتكوّن الخيال في الشعر الجيد، ولنتذكر من جديد أن الخيال لدى اليوسف لا عقلاني ولا ذهني .. (إنه الاستعداد الفطري وهو الحنين ضد التشيؤ والنفعية..) من “الخيال والحرية” ص 18. على أهمية ذلك، هل هنالك وقائع ملموسة تؤشر بشكل أكثر إلى مسألة الصدق فنياً كان أو واقعياً؟ يقول اليوسف (يجيء التحسس بمثابة استشراق ..) ص98 إن صح هذا المذهب فقد يكون بإمكاننا أن ندرس موضوعة الخيال الصادق متجسدة في رؤيا استشرَقها الشاعر من قبل، فصدّقها الواقع التاريخي فيما بعد، وسيكون للأمر أهمية بالغة. وهنا سندرس الرؤيا باعتبارها كذلك.
هل صدق الرؤيا (النبوءة) صادر عن العقل أم عن الخيال؟
إن دراسة ديوان (رماد السنين) للشاعر حسن النيفي نابعة من سببين اثنين:
1ـ أولهما لأن شاعر الديوان ينتمي فلسفياً إلى المثالية التي ينتمي إليها كل من سبق ذكرهم في ثنايا البحث من فلاسفة ونقاد وأدباء، وهو بذلك سيتمثّلُ المفاهيم المثالية التي نجري نحن البحث خلالها، ثمَّ إن شاعرنا، إضافة إلى ذلك كله، يحاور موضوعة الخيال في شعره حتى لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد ديوانه هذا من ذكر الخيال، وهذا مفيد في نطاق البحث.
في محاولة البدء بتلمّس النزعة المثالية سنقف عند هذا البيت الشعري:
يعربيّ الطبع موفور الأسى أحمديُّ النهج قدسيّ السمات (الديوان ص 13).
الشاعر يعربيّ الطبع وأحمدي النهج .. بحسب وصفه لنفسه، أما الماضي فهو جهة المثال لدى شاعرنا، فلن تجد الأمس إلا وسمْت الرجاء والأمل بعودته.
أيشرق من أمسي نضار سعادتي وينبت من يأسي الرجاء لأسعدا (الديوان ص78).
وفي قصيدة أخرى يؤكد الشاعر تجّسد الحلم بالأمس:
بالأمس أشرق هذا الحلم مؤتلقاً ليمطر النفس من لألائه مُزنا (الديوان ص89).
ثم إن الوطن هو أرض الجدود (الديوان ص19).
ومن مظاهر الجدلية التي تنظم العلاقة المتوترة بين الماضي المشرق وبين الحاضر هذا التساؤل الذي يشير إلى أرض الأجداد:
هل ها هنا مثوى الحضارة والنهى ومهاد مجد غوابر السنوات
وهنا تساقى الروم خيبة فألهم وتنـاثروا مزقـا بكـل فـلاة (الديوان ص20).
يقابل ذلك الماضي المجيد حاضر آخر، فيصرخ الشاعر في قصيدة أخرى:
يكتظّ بي مجــــــد العصور وذلّها ضدان يصطخبان في تفكيري
يطأ النقيض على النقيض فأجتلي في زحمة الأضداد شكل مصيري (الديوان ص31).
هذه الجدلية كان لها ما يبررها في نطاق الواقع القريب المحيط بالشاعر، فالشاعر صاحب همّةٍ حُرّة وهو سجين في الوقت ذاته، وقد ترك هذا الواقع أثره في لغة الشاعر، فاشتبكت المتناقضات وتناثرت صراعات المعاني فتولّد عن ذلك حركة مستمرة هي في الغالب بين حقلي:
ـ الحرية: النور الفجر الشعاع الصوت الأمل متعلقة بالماضي .. غالباً.
ـ السجن: الظلام الديجور الصمت الخوف الحزن متعلقة بالحاضر ..غالباً.
كذلك لو وقفنا عند هذا الشطر: (طيف السعادة من كوى مأساتي) (الديوان ص 18). وتحسسنا هذه المفارقة التي أداها التقابل بين الندرة في طيف السعادة وبين الوفرة في كوى المأساة، ثم كيف تغدو الكوة التي يحتاجها الشاعر السجين لتلقي بعض أشعة النور، وبعض الدفء مصدراً لمأساته!.
ولعل صورة الطائر تمثل إحدى تلك المآلات القَلِقة، فهو طيِّعٌ لحظة الأمل المتحدي:
أشرع جفونك هذا الأفق ملعبنا مدَّ الجناح وحلّق ما استطعت بنا (الديوان ص91).
وهو هو، لكنّه خامل في موقع آخر، ومزاج مختلف في قوله:
وانقشي بالدمع ذكرى طائر مدَّ للأفق جناحا فهوى (الديوان ص 11).
إن القارئ المتتبع لهذه الجدلية لربما تحسس ألفاظاً نطقت من تحت ركام الحروف، فتوهم القارئ صوتها، وكاد يَصْدقُ وهمه، فلنعدِ النظر بهذا الشطر: (حقول من الشوق بين الضلوع) ص87.
ألا نجد أن مفردة (الشوق) لما تلت مفردة حقول كادت أن تكون شوكا وكِدنا نقرؤها (حقول من الشوك بين الضلوع)!!. وربما استفزنا الشاعر بتقابل متناقضات توحي قراءتها الأولية أن الشاعر استسلم لها، فيما أن أثرها كفيل بتحريض جملة الرفض داخل القارئ .. كما في قوله:
غدونا نعشق الظلمات صار النور ممتهنا (ص107).
وفي قوله: هيهات يسعفنا الهوى وشفاهنا تسعى لتلثم مدية السفاح (ص26).
في السجن تغدو الكلمات والمعاني موشحة بخيال خصب، كوسائل متاحة للشاعر ليمارس بواسطتها المقاومة والرفض. وربما مارس الشاعر من خلال كلماته مقاومة روحه لأسباب بؤسها كما في قصيدته (فضاءات للروح ص15)، حيث إن الخيال/الحلم/ الماضي هو الوسيلة الممكنة لمقاومة الواقع/ السجن/ الحاضر:
ضاقت بأستاف الظلام العاتي فدنت تعانـــــــــق طيف فجر آت
ومضت تخاتلها الهواجس والمنى سرب يحوم على لظى الحسرات
في إشارة إلى جهة المثال من جديد فإن روحه المتعبة من السجن يباغتها حنين وتتوسل الخيال الذي هو (الحنين إلى مثال علوي يقاوم التشيؤ ..) فتتبع الروح حلما/ خيالا قلقاً بين الومض وبين الخفوت:
ثكلى يباغتها الحنين فتقتفي أشلاء حلمٍ خافت الومضات
حتى إنَّ الروح تمكنت من مغادرة المكان (السجن) لتُحلِّق خارج أسواره، وتذوب في آمال الأمة وطموحاتها، لكن الروح لم تلبث أن اصطدمت بسجن أكبر، حيطانه حاضر أمة يكاد ينكر أمسها، وواقع يكاد يكسر الحلم، يقول الشاعر بلسان زنوبيا:
…فبأيها أحيا مواسم عزّتي وبأيها أجترُّ نعي مماتي
و بأيها تخفى حقيقة أمة تجني سعادتها من النكبات؟!
في حين أنَّ الخيال أداة الشاعر في مقاومته للسجن، ووسيلته إلى آماله، إلا أن الخيال، ككائن، فإنه يحتل حيزاً مهماً في ذهن الشاعر حيث تتعدد في القصائد المواقف الوجدانية، ومعها تتنوع مواقف الشاعر حيال الخيال ذاته، وربما صار دمية: (صار الخيال دمى .. ص50)، وربما هو الحلم، فكيف له أن لا يُزْهِر وقد خبّأته الأمُّ (المتوفاة) بين أضلاع الصغير (ص 100):
أو يزهر الحلم الذي خبّأته ما بين أضلاعي وخفق جناحي
في المواقف الصعبة قد يسميه الشاعر وهماً، لكن العقل يتدخل كأداة للفحص، فيطرح تساؤلا من مثل: …. أنحن اثنان في محرابنا المفجوع نبتهل؟
….. أنحن اثنان موهومان أم ضاقت بنا الحيل؟ (ص105).
أو هو زعم موهوم يتناسب مع حياء أنثى تخشى أن لا يتقبل الواقع حلمها جيدا كما جاء ذلك على لسان عاشقة: (ص36)
ألاطف الوهم لا تعجبْ لبنت هوى تستعذب الوهم حين الحب يخزيها
ثمَّ إن العاشقة ذاتها تؤكد في نهاية القصيدة أن معشوقها هو مصدر تلك الأخيلة:
وامرحْ بواحة أجفاني وأخيلتي فأنت مبدع دنياها وشاديها
ومثل هذا الموقف المتوتر لتلك العاشقة، موقف ورد على لسان الغائب الحاضر، ألا وهو الشاعر ذاته في قصيدة أخرى يقول فيها:
أشكُّ بمرآة وجهي فهذا خيالي ينكر ما أبدعه (ص58).
ومثل ذلك موقف آخر تسبب بهذا البيت:
يعربد فيّ الوهم حتى إذا انجلى ضياؤك عن عيني هتكتُ ستائري (ص74).
وقوله في مكان آخر:
وأحسب فيك أني أبحث عن هوى فألهث خلف الوهم شرقا ومغربا (ص78).
والوهم قد يبدو سرابا:
لعلي ببحر السراب أغور وأزعم أنــــــــــي أطارد شيَّا
إلى أي فج أحـــث خطاي وليس سوى الوهم جاث لديَّا
أأجمع أحلامي الكالحــات لأشرع في الأفق قلبا عتيا (ص87).
وكأنَّ في الجدلية طبيعة سبعية حيث إنها غالبا لا ترحم النتائج غير المرضية تماما، لذلك فهي قد لا تتورع حتى عن الفتك بالنسبة المُرْضية!
قبل البدء بقصيدته: (خصيباً يُشرِق الوهم) (ص 29) يستحضر الشاعر عتبةً نصّية للروائي والناقد جبرا ابراهيم جبرا :(لك أن تتمتع بأي وهم تشاء، ما دمت تعلم أنه وهم، ولكن حالما تبدأ الظن بأن وهمك حقيقة، فأنت في خطر). وهنا ستجد الشاعر يلقي بنفسه في أتون الخطر، فوهمه خصيب ومشرق، كما يظهر منذ عنوان القصيدة، أما الخيال فهو الخيال المحض، لكنّ الشاعر يتحدث عنه كما يتحدث المرء عن عضو من أعضاء الجسد، فاليدان تعبثان، والخيال يمشي، والشفاه تعبق، كما في الأبيات الثلاثة الأولى:
عبثتْ يداكَ بأدمع الديجــــــــــور فسرى البــــــهاء بظلّك المسحورِ
ومشى الخيالُ على لهاثكَ سافحاً صدأ العواصف بالجنى المعطورِ
عبقتْ شفاهكَ باللهيب فضمّها وجعُ الحــــــــروفِ بلهفةٍ وحبور
ثمَّ بالخيال يمد الشاعر كفه في عمق الظلام ويدخل عبر الحلم إلى رحم العصور، فيكْلفُ بأطياف الصباح، وهو رغم ما يكابده من ألم، يعلن تمرده، ورغم ما يجتاحه من أسى متولد من تناقض الحاضر المؤلم، مع الماضي المجيد، إلا أن الشاعر يُعلن في رؤياه فرح الطيور، ويعلن في النهاية الانتصار للوهم/ للحلم/ للحقيقة:
لي ما أردت من الظنون فهاك من قلبي بقية غبطتي وسروري
واهنأ بهذا الوهم فـــــهو حقيقة لبست ثياب الحلم في الديجور
إذاً فالخيال حلم مؤكد في لحظة التحدي، وتحقّق هذا الحلم بالأمس، يمنح الشاعر طاقة وزخماً:
(بالأمس أشرق هذا الحلم ….) ص89.
2 ـ السبب الثاني الداعي لاختيار هذه المادة الشعرية للشاعر حسن النيفي هي أن مادته هذي تحمل في ثناياها نبوءتين واضحتين شهد لهما التاريخ الواقعي الفعلي، لكن قبل البدئ بدراسة النبوءتين سنحاول أن نختلف مع رولان بارت الذي أراد منا قتل المؤلف، نحن بحاجة إلى التاريخ الشخصي للمؤلف، مادام متوفراً، والذي سيساعدنا في التحقق من صدق الرؤيا، لذلك سنذكر الحقائق المؤكدة التالية:
1ـ إن شاعرنا كتب قصائد الديوان وهو في السجن خلال الفترة ما بين عامي 1986 حتى عام 2001، بل هي من نتاج السنوات الست التي أمضاها الشاعر في سجن تدمر الصحراوي، كما يذكر في مقدمة الديوان (ص8).
2ـ إن شاعرنا بعد خروجه من السجن شارك في الثورة عام 2011 ضد النظام الذي سجنه لمدة خمس عشرة سنة، وإن هذه الثورة الكاشفة تنتمي إلى سلسلة ثورات شاع الاصطلاح على تسميتها جميعاً بثورات بالربيع العربي.
3ـ أن الثورة السورية كباقي الثورات تعرضت إلى انتكاسة حادة، اضطرت شاعرنا إلى الهجرة من سورية إلى تركيا التي أعاد فيها إصدار الطبعة الثانية لهذا الديوان، فهل يمكننا الآن قراءة نبوءة صاغها خياله؟ سنحاول ههنا مقاربة نبوءتين لدى حسن النيفي، أزعم أننا لمسنا بعضاً من تجلياتهما:
في قصيدته (مساءات بابل) ص67، يتكئ الشاعر على موروث غاية في الاشتباك الثقافي، محاولا عقد مقاربة بين ذلك الموروث، وبين واقع العراق في الفترة التي سبقت 2001، من منظور الشاعر صاحب الخط القومي، حيث يمثل خراب بابل رؤيا خير بحسب أتباع التلمود، فيما هي كارثة وشر بحسب القومي العربي، وليس من العسير أن نتوصل إلى أن كلا الفريقين يرى أن عراق العصر الحديث هو/ هي بابل، إذ يختم حسن النيفي قصيدته بأن النوارس ترف (..على بابل الكبرياء/ فتولد من جُرحها/ موجةٌ من جراح).
إن سقوط بابل/ العراق قد تسبب بموجة من جراح لشعوب المنطقة، هذا أصبح واقعاً فعلياً بعد كتابة القصيدة بسنوات طويلة، أي أن الشاعر لم يحاك، بل تنبأ، فصدقت نبوءته! ما مصدر تلك النبوءة، أهو الخيال؟!
سنحاول أن نناقض هدفنا ونقول هنا بالذات: إن هذا ليس رؤيا بالمعنى الغيبي للكلمة، بل هو تحليل سياسي قائم على البحث العقلي، ومن ثم لا غرابة أن يتوصل باحث إلى مثل هذه النتيجة (موجة جراح) وهو يقرأ مآلات السياسة العالمية، ومن ثم فمن غير المستغرب أن يعي الشاعر العروبي هذا الخطر الذي، ربما، تنبه إليه غيره أيضا من مثقفين وسياسيين آخرين فتوقعوا مثل هذا المصير.
إذا فليس الخيال الذي هو (غير عقلاني وغير ذهني) بحسب يوسف اليوسف، هو مصدر هذا الاستشراق .. بل العقل المفكر الواعي. غير أن النبوءة في مكان آخر أخذت منحى مختلفاً لا تكاد تعثر فيها على أثر بائن لتدخل العقل.
في قصيدته (غيمة من دخان) ص 53، راح حسن النيفي يبث همّاً محوره التجربة الفردية لذاتٍ مفردة مذكّرة غائبة، هبّت تُحاول أن تترك أثراً على مستوى الأوطان:
أبدّده الموت أم صانه فهبَّ يعانق أوطانه (ص53).
وما يلبث أن يتخلص صوت الذات الفردة الغائبة إلى (أنا) متكلمة، تتحدث عن ربيع ما في (الصفحة 54) يقول: وأزعم أني رمقت الربيع وضمّخت بالطيب أفنانه
إن القراءة الأولية لمفردة (أزعم) قد يحيل إلى معنى يشبه (ظننت) التي تحمل معنى التشكيك والقلق، لكن بالمقابل أيُّ زعم هذا الذي يقود المعاني خلال النص كلِّه وأيُّ ربيع قلقٍ يتكرر ذكره مرات عديدة:
ربيع على مد عيني بعيد وريح تباغت ريحانه (ص55).
بل وختم قصيدته بقوله:
ربيع على غيمة من دخان كذلك عمري فما أضيعه!!
لنخلص إلى شبه يقين مفاده أن مفردة (أزعم) ليست تعني ظناً قلقا كما قد يوحي ظاهرها المعجمي، بل إنّها في سياقها قد تحمل مدلولا حدسياً هو قريب من الاعتقاد العميق، والإيمان أكثر، ما يُرجِّحُ هذا هو وقوف الشاعر بالتفصيل على ملامح ذلك الزعم:
ألوذ بأكناف حلم دفين وأصبوا لألهب أحضانه
لعلي أفلي ضمير الوجود وتنزع كفي أضغانه …الخ
إذا فالشاعر آمن بربيع ما، وحاول من خلال هذا الربيع التأثير في ضمير الوجود، بل إن رغبة التأثير في ضمير الوجود متأصلة لدى الشاعر حتى أنه أعاد ذكر هذا في مقدمة الديوان (ص7) عبر التساؤل: (ما الذي يجعل العالم برمته يقف متفرجا على قتل مليوني إنسان، وتشريد خمسة ملايين آخرين من ديارهم؟!…).
بين الخيال الذي هو حلم، وبين الخيال المتشكك، من جديد يذكر الشاعر المعادلة الوجودية بين النور النازل من (كوّة) السجن، وبين كل ما يحاول منع انبثاق النور من صفيح وقضبان، وكلما اشتد عزم النور، كلما تكشفت معاني الحديد المانع:
تشفُّ كوى النور هذا الصفيح فأُبصر كالوهم قضبانه!
من جديد دعونا نمعن النظر في مفردة (وهم) التي قد تعني (كالحقيقة) التي كشفها النور، الحقيقة التي يستفيض الشاعر في سرد ملامحها الموجعة:
وألمح قلبي بذاك الـــــــعراء وحـيدا يهـدم جدرانه
وأسمع صوتي بجرحي يغور ويمزج بالدم أوزانه
ربيـــــــع على مد عيني يغور ويمزج بالدم أوزانه
وبحر سراب يمــــــــور يمور ويحفر في الأفق غدرانه
فياله من نور كاشف .. يشبه فعله فعل الثورات الكاشفة، وياله من ربيع يشبه مآله مآل ثورات الربيع العربي، وكأني أرى الشاعر بعد أن اضطر إلى الهجرة من وطنه سنة 2014، تُوجِعُ قلبُه جراحات الوطن فيقول من غربته:
أحن إلى مهدي المستشيط ضراماً وعصفا فما أروعه!
وأعشق في غربتي موطناً تئن جراحاتــه الواســــعة
ولكن هذي أبيات قالها قبل حدوث ذلك بالفعل بما لا يقل عن خمس عشرة سنة، أعني الفارق الزمني بين لحظة كتابة القصيدة في السجن قبل عام 2001 ، وبين السنة التي هاجر فيها، أي عام 2014، وتحقٌّق الاغتراب فعلياً، فما مصدر تلك النبوءة؟
هل هي نبوءة شخصية أم نبوءة وطن!! أم أنه (المرء في نفسه يرى زمنه) كما قدّم العقاد!!هل العقل هو مصدر تلك النبوءة؟! الأمر لا يُعقل .. بل إننا نميل إلى أنه الخيال (غير العاقل وغير الذهني) الذي تحدث عنه يوسف سامي اليوسف.
من كان يعقل أن الانتكاسة ستأخذ معها جمهور الثورة إلى طريق آخر، وسنتفكر طويلا في الأسباب التي كانت وراء مآلاتها الراهنة:
تعللت عن كبوتي بالسؤال وقلت فؤادي من أوجعه
ومن فوق صدري يغذ خطاه ويومئ للركب أن يتبعه
إلى أين هذي الزحزف تسير حفاة عراة بلا أقنعه
أشُكُ بمرآة وجهي فهذا خيـــالـــي ينكـر ما أبدعــــه
وكفي يعاف افتراش الزهور فأوشك بالشوك أن أصفعه
ربيعٌ على غيمة من دخان كذلك عمري فما أضيعه!!!
إنك تكاد تتحسس في هذه الأبيات نزق ثائر لم تكتمل ثورته، وهو إذ يؤنب نفسه فإنما يؤنب المسار الذي نحر ثورته، ربما يمكننا القول بأن مقولة: الشعر قليل في أيامنا هذه، وأنه لم يعد مناسباً لأفكار العصر، لهي مقولة غير دقيقة تماماً، أما ندرته فهي حقيقة غير معيبة، لأنها سمة النفيس، إنما الغث هو الكثير، وإن وسائل الإعلام ودور النشر التي غدت مطابع أكثر من كونها دور نشر والمواقع التي تسمي نفسها أدبية .. كل هذي متاحة للجميع دون اعتبارات فنية أو ثقافية مما يجعل المشهد ضبابيا أمام القارئ.
لأنه الشعر، ذلك الكائن الذي سيبقى متفلّتاً من كل محاولات تعريفه، لأنه الشعر الذي سيبقى يطرح الأسئلة، وسنبقى نحاول في الأجوبة، ونتعثر.
* رماد السنين: مجموعة شعرية صدرت عام 2004 عن دار الوعي العربي بحلب، ثم صدرت طبعتها الثانية في غازي عينتاب – تركيا عام 2020، عن دار الملتقى. تجدر الإشارة إلى أن قصائد هذه المجموعة كُتبت في سجن تدمر الصحراوي، وقد احتفظ بها الشاعر بذاكرته، واستطاعت أن تعبر أسوار السجن لترى النور.