في الوقت الذي أجلت «الجامعة الأميركية» الإعلان عن «جائزة نجيب محفوظ»، هذا العام، وترحيلها إلى العام المقبل، احتفلت الأوساط الثقافية والفنية في مصر بيوم ميلاد الكاتب صاحب «نوبل» نجيب محفوظ الثامن بعد المائة، وشهدت الاحتفالات مشاركات لروائيين ونقاد مصريين وأجانب. ففي «بيت السحيمي» التابع لصندوق التنمية الثقافية، تحدث يوم الخميس الماضي الروائي إبراهيم عبد المجيد، عن مراحل الكتابة الروائية عند محفوظ، مشيراً إلى أن كل أعماله التي كتبها قبل روايته «اللص والكلاب»، مكتوبة بلغة كلاسيكية قديمة، ومنها «الثلاثية»، و«السراب»، و«القاهرة الجديدة»، و«خان الخليلي»، و«رادوبيس» و«عبث الأقدار»، وعندما أبدع «اللص والكلاب»، تغيرت لغته، وربما السبب الذي يكمن وراء ذلك يأتي من أن القصة نفسها مستوحاة من الإسكندرية، وإحساسه بأجوائها باعتبارها مدينة مفتوحة، وقد طور هذا الإحساس اللغة فيها، فجاءت قصيرة، وسريعة الإيقاع، وبها لمسة شعرية متدفقة، وصار أسلوبه حداثياً جداً في أعماله اللاحقة، خصوصاً «الحرافيش» و«عصر الحب» و«أفراح القبة»، و«حديث الصباح والمساء»، لافتاً إلى أنه ربما كان وراء ذلك انتقاله من الكتابة عن مكان ثابت هو القاهرة وحواريها، إلى أجواء الإسكندرية التي تدفعك للحركة والنشاط، وتجعلك تنطلق من مكان لآخر فيها، فلا تقر أبداً في منطقة بعينها.
وأشار عبد المجيد إلى أن النقاد أدركوا ذلك، وخصصوا له العديد من الدراسات، ومنهم المفكر محمود أمين العالم الذي أعد كتاباً عن الشكل الفني عند نجيب محفوظ، وقد درس أعماله من خلال الشكل وتتابع الفصول والمراحل التي مر بها في مجال الكتابة الروائية، وهو منهج مختلف عما ألفناه في كتابات العالم الماركسية، وهناك أيضاً كتاب مهم في هذا المجال للناقد رجاء النقاش، ضم مجموعة من المقالات التي نشرها في عدد من الدوريات الأدبية.
وقال عبد المجيد إن كتابات محفوظ تتكئ على كثير من الأبعاد الفلسفية، صحيح أن القارئ غير المثقف يمكن أن يتابعها ويستمتع بها، لكن المتخصصين يمكنهم عند قراءة أعماله أن يدركوا أن وراءها دارساً متعمقاً في مجال الفلسفة، ونموذج ذلك شخصية سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب»، ويظهره محفوظ مجرماً فاشلاً في كل عملية قتل يحاول القيام بها، ربما كان يرمز في ذلك الوقت لعمليات التأميم التي قام بها عبد الناصر في مصر، برموز بعيدة تماماً عن السياسة والمباشرة، وكأن محفوظ يريد أن يقول إن الفعل الفردي لا يثمر عن نتيجة حقيقية، كان محفوظ يريد أن يبلغ رسالة أن الأعمال التي يقف وراءها فرد، يمكن القضاء عليها بمجرد غيابه، وهو ما حدث بالفعل بعد مجيء السادات الذي قضى على كل ما قام به عبد الناصر من إنجازات، كان يمكن أن تستمر لو أن الأخير سمح بوجود أحزاب وقوى تدافع عنها، وحافظ على الديمقراطية، ودعم الحرية.
ولفت عبد المجيد إلى أن رواية «السمان والخريف» تعبر عن الصراع بين الأفكار الليبرالية والشيوعية، وفي «الطريق»، هناك رحلة بحث عن الله، وهي رحلة إنسان تائه، وأحداثها تعبر عن معاناة الإنسان، وهو ينشد طريق الخلاص، في رحلة المادة والروح التي تعبر عنها شخصية كريمة في الرواية، وليست الصحافية، أما عائشة في «الثلاثية»، فهي من الذين يصطفيهم الله بالبلاء، وهناك أفكار صوفية عبر عنها محفوظ وهو يرسم شخصية هذه المرأة التي توفى زوجها وأولادها، فقد اصطنعها على نماذج واضحة جداً في تاريخ الصوفية، وشخصياتها الذين يحبهم الله ويصطفيهم بالعذاب في الحياة.
وأشار عبد المجيد إلى أن هذا المنحى الفلسفي في كتاباته جعله يشعر أنه مختلف عن كل المبدعين الذي قرأت لهم، فقد أدرك ذلك مبكراً، فهو لا يرسم شوارع ويصف حارات، لكن هناك آفاقاً فلسفية عميقة تسري في شخصياته وترسم مساراتها ومصائرها، كما أن اختياراته لأسماء شخصياته تجعلك تفكر في الكون والخلق.
وعرج الناقد الدكتور صلاح فضل، في حديثه أيضاً إلى المنحى الفلسفي في أعمال محفوظ، لكنه ركز على توضيح رؤيته للبحث الأكاديمي الدراس لآثار محفوظ في الجامعات المصرية، ولفت إلى أنها معنية جداً بدراسة أي إبداعات مجهولة مبكرة له، تظهر، سواء كانت قصصاً قصيرة أو أحلاماً لم يقم بنشرها في حياته، فهي مجال للبحث العلمي الدقيق عن كيفية تشكل أسلوب نجيب محفوظ، ودراسات علم نفس الإبداع تهتم بهذا كثيراً، حتى إن بعض الباحثين يفتشون عن مسودات الشعراء والكتاب، ويستقصون مثلاً الكلمات المحذوفة، التي وضعت بديلاً عنها. وهذا العلم يبحث في الآثار الجمالية التي دفعت الكتاب لذلك، وهم بهذا يكتشفون معالم تشكل أسلوب الكاتب وتطوره، وهي دراسات مفيدة في الكشف عن خط التطور المنهجي والنضج الذي اتبعه الكتاب، وكيف استطاع تصحيح مساره، واستكمال أدواته، وبلوغ درجته التي صار عليها.
وتحفظ فضل على إتاحة مثل هذه الإبداعات المجهولة للقراء، مشيراً إلى أنها يجب أن تنحصر داخل غرف البحث فقط، لكن ظهور مثل هذه الأعمال لا يقلل من قيمة محفوظ، ولا إبداعاته الرفيعة. وذكر أن عمليات تلقي روايات محفوظ تختلف باختلاف الأجيال وثقافتهم، فهي لا تحمل معنى محدداً في ذاتها، وكل منا يعطيها من ثقافته وفهمه، ويفهمها، ويفسرها، بقدر ما لديه من وعي تشكل عبر خبراته، وإطاره المعرفي، وقدراته التي تشكلت يوماً بعد يوم، من هنا يأتي تعدد الدلالات بتعدد أجيال القراء لمحفوظ وغيره من طبيعة الأشياء، فلا يمكن أن يكون هناك تطابق حرفي بين قراءة وأخرى لأدبه أو رواياته، لكن ما يفرق بين جيل وآخر، أو قراءة وأخرى هي القدرة على نسج شبكة علاقات أو رؤية متكاملة لعالم نجيب محفوظ، وما يمكن استبطانه في إبداعاته من أفكار ورؤى.
وعقد «المركز القومي للترجمة»، الأربعاء الماضي، ندوة استضاف خلالها الروائية والمترجمة اليونانية بيرسا كوموتسي، التي ولدت في مصر، ودرست الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة القاهرة، وقدمت للغة اليونانية أكثر من 40 عملاً أدبياً مصرياً وعربياً، بينها 16 كتاباً لنجيب محفوظ، وقالت كوموتسي إن رواياته تحظى برواج ونهم كبير لدى جمهور القراء في اليونان، وقد بدا هذا واضحاً من أولى رواياته التي ترجمتها، وهي «اللص والكلاب».
بداية كوموتسي مع ترجمة محفوظ لم تحظ بإقبال كبير، لكن ذلك لم يثنها عن إكمال مسيرتها معه، والسعي لترجمة أعماله من اللغة العربية التي تتقنها جيداً، بحكم المولد في القاهرة والعيش لسنوات طويلة بصحة أسرتها، التي توجتها بدراسة اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، قبل أن تعود إلى بلادها، وتقرر أن توفي بحق مواطنيها هناك في معرفة والاطلاع على ما يقدمه الكتاب والمبدعون المصريون من كتابات وأعمال إبداعية، كان أبرزهم نجيب محفوظ، الذي حظيت رواياته، خصوصاً «المرايا» و«خان الخليلي» باحتفاء لافت للنظر بمجرد طرحهما للجمهور، كان الترحيب كبيراً بأعماله، وهو نفس ما تلقاه طه حسين وروايته «دعاء الكروان»، وصنع الله إبراهيم، وروايته «اللجنة».
يذكر أن «الجامعة الأميركية بالقاهرة»، أجلت منح «جائزة نجيب محفوظ»، هذا العام، وضم الأعمال المتقدمة للمشاركة في دورة العام الحالي إلى الأعمال التي سوف تقدم للترشح العام المقبل، على أن يتم تحكيم الأعمال المتقدمة خلال العامين، وإعلان فائز واحد من بينهما، خلال الاحتفالية التي سوف تقيمها الجامعة في ديسمبر (كانون الأول) 2020. وبرر بيان للجامعة تأجيل الجائزة هذه العام بوجود خطط لتطويرها قيد التنفيذ بالفعل، وإجراء بعض التعديلات على لوائحها الداخلية.
المصدر: الشرق الأوسط