الثورة السورية: الخوف والحرية

0

عبدالرحمن مطر،شاعر وقاص وروائي سوري مقيم في كندا

مجلة اوراق- العدد16

أوراق الملف

عشتُ أحداثاً مفصلية في حياتي، وفي حياة السوريين، كما العالم العربي، حروباً واعتقالات، شهدتُ مجازر ومكثتُ في السجن سنين عديدة، وعبرت بي تغيرات كثيرة، غير أن حدث انتفاضة السوريين، كان ولايزال، شيئاً آخر، مختلفاً، أعيشُ حلمها، بوعي يقظ، وجوانح تخفق لها، على رغم الألم المديد. إنها ثورة السوريين، من أجل التغيير، الحلمُ الكبير الذي يراودنا مع كل قراءة، وخطوة في الدرب، الى المدرسة أو العمل، أو مهجع العسكرية، أو السجن.. فلا فرق! هو حلمُ أجيالٍ من السوريين المضطهدين والمقموعين، المصادرة حقوقهم وحرياتهم، يظلّلُ حياتهم خوف من السلطة، وخوف من المجهول، ومن كل ما يمكن أن يخرج على الاعتياد!

للتوّ كنتُ خارجاً، من المعتقل. أُطلق سراحي في الأول من مارس 2011، كانت شمس الظهيرة تنتظرني مع لفحة ربيع ناعمة على باب القصر العدلي. إحساسُ الخارج من عتمة مديدة يتعرفُ فيها إلى الضوء والحياة والناس، بعد سنوات عشر. خلف ذلك، كانت المدينة تمور وتغلي على قلق، وعلى فائض الاحتمال والصبر الذي قد نفذ تماماً. وكانت الدعوة الى يوم الغضب السوري – آنذاك – تقضّ مضجع نظام الاستبداد الأمني الأسدي، بصورة يمكن لحظها، في كل ملمح، وكل ركن في حياة الناس، في المدن الحبلى بالانفجار.

قبل ذلك بأيام، قال لي ضابط تحقيق أنيق في فرع الفيحاء: سوف تنأى بنفسك عن أي حراك، لا يوم غضب، أو سواه، وإلا فإن زنزانتك في الأسفل، وحكم المؤبد بانتظارك. لا تتحدث، ولا تُجري اي لقاء، ولا تكتب، في أي شأن سياسي، بما في ذلك عما يحدث في تونس وليبيا ومصر! قبلتُ عرضه دون شروط، بامتنان كبير، لأنه سيمنحني فرصة أخرى للنجاة.. ربما، وإلا فإن تسوية ملفي سوف تُعلّق!

أمضيتُ مساء ذلك اليوم، في التسكع في قلب دمشق، كانت أسرتي تريد إكسائي بثياب جديدة، بعد سنوات السجن. وكنتُ انا أبحث عن شئ آخر في وجوه الناس وعيونهم، في ظل التغيير الجارف الذي أحدثه الربيع العربي، في المنطقة العربية والمتوسطية برمتها.

في بلد مسكون بالخوف، من بطشِ نظام خبرته الناس جيداً على مدى نصف قرن، من حكم الأسدية الراسخة بالمجازر والتغييب القسري والتعذيب، كيف لك أن تستدل على ملامح التوثب في أرواح الناس، على العطش التاريخي الى التعبير بحرية عن كل ما يخطر في بالهم.. الى الحرية، بوضوح واختصار. الى أن يكون لهم رأي في تقرير مسار حياتهم، هل أقول المشاركة في الحكم، وقد استأثرت به مجموعة مستبدة، آل في النهاية كل شئ الى حكم الفرد المطلق، والتحكم بكل شيء، حتى في إيمان الفرد، وفي بيته!

 هذا البلد الذي اسمه الوطن: سوريا، كانت العامة تقول عمن يعارض النظام، بأنّه “مجنون”! إنّه تعبير عن الرغبة في الجنوح بعيداً عن الخطر الذي يعرفون جيدا مصدره، ولكن لا يعرفون كنهه، وعلى أية صور كارثية يمكن أن يحلّ عليهم.

لم يُتح لي أن أبيت ليلتي في دمشق، وفي الظلمة القاسية، قبيل الفجر، كنتُ أعبر جسر الفرات في الرقة، إلى بيت أهلي بعد غياب قسري مدته أحد عشر عاماً.. وبعد ساعات كنتُ أحلّ ضيفاً على “باب” فرع الامن العسكري!

رئيس الفرع، يُملي عليّ التعليمات من جديد: لا يُسمح لي بأي نشاط، وحركتي تبقى محدود، ومغادرة المدينة بعلمٍ مسبق!  ما يشبه الإقامة الجبرية إذن، ولا سبيل سوى الامتثال، في الوقت الذي أتوق فيه للانخراط في الحياة، واللقاء بالناس والحديث معهم، وربما “الجنوح” لفعل شيء ما، بتحريض من الروح المتمردة الوثّابة في دمي.

في هذا المكان قبل ربع قرن، وجه لي سلفه تحذيراً مماثلا، جعلني أغادر البلاد، كيفما اتفق، على عجل، نحو أول دولة تسمح بالدخول اليها بدون تأشيرة. قال لي: “سأمسح بك الشوارع، وأجعل منك عبرة لأهل الرقة”.

اعترف ان الخوف من العودة الى السجن، كان يسكنني، على الرغم من اكتسابي صلابة في التجربة حيال السجن. اكتشفت ذلك خلال الاعتقال أثناء التحقيق، وفي التعامل مع المعتقلين والسجناء، بوصفي محكوماً سابقا. لكن التعذيب، كان ويبقى شيئا مختلفا.

انطلقت المظاهرات في دمشق، وكنت ما أزال مقيد الحركة، حتى من أهلي الذين كانوا يخشون من الجهر بالموقف. لم أستطع السفر الى دمشق، ولم يُسمح لي بأن أصعد الحافلة في منتصف حزيران 2011 قاصداً، في سري، لقاء “سميراميس”. في كل خطوة كنت أرى تابعي الأمني، ويباشرني السلام.. وكان إلى جانبي، أكثر من ظلي حين وقفتُ “متفرجاً” على اعتصام أهالي المعتقلين أمام القصر العدلي في الرقة. أذكر المظاهرة الأولى في الرقة في الخامس والعشرين من آذار/ مارس، كنا نحضر أمسية شعرية، اضطرب المكان، على وقع أخبار المظاهرة وملاحقة الأمن لها واعتقال عدد من الشبان. خرجنا نتبع أثر المظاهرة، ونشم رائحة التحدي والشجاعة، ونفحص بأعيننا الأمكنة التي شهدت الاعتقال.

أنا، وآخرون كنا متفرجين مما يحدث، وإن كنّا مؤمنين بالثورة، نناقش الاحوال في سقيفة مقهى، او على ضفاف نهر، مع كأس العرق. ولكلٍ منا رؤيته في الحدث، وحجته في الخوف، وفي الإحجام عن المشاركة المبكرة مع الشبان في الانتفاضة. قال لي شاب اعتقل مرتين، كان يتواجد في كل مظاهرة، وكان يغادر الرقة ليشارك في انتفاضة الشباب في جامعة حلب، وفي دير الزور. قال لي: أنتم الكتاب والصحفيين، نحن بحاجة لكم، نريدكم أن تكونوا معنا. قلتُ نحن معكم حقا. فصحح لي: اخرجوا معنا. هذا ما نبغيه.

الخوف، هو عامل مشترك بين الشعب والسلطة الاستبدادية الغاشمة. غير أن ثمة بالطبع بونٌ شاسع فيما بين حالتيهما. فخوف الشعب السوري من بطش الآلة الأمنية للنظام، كان مرتبطاً بالشجاعة، وبالإيمان العميق بقضية الحرية، وهو خوف مرتبطٌ ايضاً بمعرفة مدى الأثمان أو التضحيات التي سوف تُبذل في سلوك هذا الطريق، نحو غايته. لم تكن الأثمان، أمراً يسيراً. فقد اختبر السوريون ذلك على مدار نصف قرن في ظل مصادرة الحريات والديمقراطية، ويمكنني ان أشير بوضوح الى نضالات السوريين، قوى ومنظمات وأفراد، ضد الاستبداد. وحين اندلعت انتفاضة السوريين في مارس 2011، فإنها لم تولد من فراغ، بل إن جذور شجرتها التي اينعت، سقتها دماء وارواح، وعذابات من قضى واعتقل وشُرّد وعُذّب من أجلها، من السوريين.

لكن دور المثقفين، وإن بدا خجولاً مربكاً في البدايات، وملحوظاً وأساسياً في الحراك الوطني، ظل محدود التأثير، حتى اليوم بعد عقد على الثورة.

كنتُ ألهثُ خلف حدث الشارع السوري المتسارع، أكتبُ حيناً عنه، أطوف حول أماكن التظاهر، أقترب وأبتعد، والتحق بالحراك على اطرافه، احياناً اخرى، في الوقت الذي يصنع فيه الناس حكاية السوريين، وأناشيد الحرية. لقد أتاح لي العيش في دمشق لاحقاً القدرة على تجاوز الخوف نهائياً في الكتابة والمشاركة، وفي أن أكون جزءا من الحراك الشعبي. وكان أول تحسسٍ لي بممارسة الحرية المطلقة العامة في التعبير، في مظاهرة في قدسيا، ومن ثم في حرستا، ثم صرت أحرص على صلاة الجمعة، كي أكون في قلب الحدث، في الحصار الذي يفرضه جيش النظام الأسدي، ومؤسسات البطش الأمنية.

في الشهور الأولى، ثم السنة التالية كنتُ شاهداً ومشاركاً، شاهداً على تغير الأوضاع وانقلابها. على شجاعة الناس وصلابة مواقفها، وعلى جرأتها المطلقة في التحدي التاريخي للاستبداد. وكنتُ شاهداً على مجازر النظام، والفصائل المسلحة الموالية له، ضد المدنيين، وعلى استخدامه العنف الدامي، والاعتقال الواسع، وعلى استخدام القوات المسلحة، في قمع حركة الشارع لوأد الثورة، بصورة لم تعهدها سوريا منذ مواجهات الثمانينيات من القرن الماضي بين النظام وحركة الاخوان المسلمين. ثم كنت شاهداً على ما يجري داخل الاجهزة الأمنية، وأماكن التغييب القسري، والاعتقال، من إهانة وتعذيب، حتى القتل، بسبب الانضواء تحت راية الثورة السورية.

هذه شهادة عن حلم كبير، كان قاب قوسين من التحقق، ثم أعيق وأجهض، ولا يراد له النهوض مجدداً. وهي شهادة عن قصور وضعف في الأداء والمشاركة، وغياب إرادة القرار والقدرة على توجيه المسارات. ولكنها شهادة عن الخوف والشجاعة والجرأة التي تملّكها طلاب الحرية في بلادي.

ويجب أن تكون شهادة أيضاً على تسلط الجماعات الاسلامية المتشددة والمسلحة، التي لم ينج الكتاب والصحفيون من بطشها واستبدادها، من سجونها ومن رصاصها في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. لقد كان التهميش والإقصاء المتعمدين سياسة منظمة لهذه الجماعات، مثلما فعلت مؤسسات المعارضة -بصورة أو أخرى – مع المثقفين السوريين، ضحايا النظام الأسدي، والجماعات المسلحة، التي لا تؤمن بحرية التعبير والحوار، أو حرية الاختيار والانتماء السياسي، والحق في العمل المدني.

 إنها محنة كبيرة، لم يُتح للمثقف السوري أن يُثبت جدارته فيها.