فراس محمد الحسين، طبيب وقاص سوري مقيم في ليبيا
أوراق 19- 20
القصة
أمي والنهر
“أمك لم تمت”.. قاطعتني جدتي.
كنتُ عائداً للتّو من المدينة الكبيرة، عبرت النهر بقاربٍ صغير إلى ضفة مدينتنا. استقبلتني جدتي في المنزل بعينين تشعّان فرحاً، جلسنا نشرب الشاي، ورحت أحكي لها عن سعادتي للتسجيل في الجامعة، أخبرتها أنّي زرت الحديقة التي كانت تأخذني إليها في الأعياد؛ متمنّياً لو كانت أمي حاضرة…
“أمك على قيد الحياة” كررت جدتي، وتابعت كلامها. لكنّي لم أعد أسمع شيئاً، اغرورقت عيناي بالدمع، لم أنبس ببنت شفة. مشاعري لجٌّ يغشاه موجٌ من فوقه موج؛ كأنّي عدت إلى كابوس غرقها. كنت في ربيعي السادس، لمّا ألقت نفسها في النهر، ضاعت صرخة استغاثتي في هدير النهر، فركضتُ وراءها، تخبّطت يداي عشوائياً، ابتلعتُ كميةً كبيرةً من الماء، انتشلني شابٌ غريب، حملني وسار عائداً إلى الضفة. ومن فوق كتفه رأيتُ النهر يبتلعها، غابت الشمس، فتوقفت محاولات الإنقاذ والبحث، لم يجدوا جثتها أبداً، لكنّي واظبت على زيارة النهر، لم أجرؤ على السباحة فيه، كنت أجلس عند الضفة، أصنع تمثالاً من الطين لأمي، ثم أصلي وأدعو الله.. وعند الغروب يرتفع منسوب النهر، يذوب التمثال في الماء، فأبكي!
تُمسِك جدتي يدي، فتنتشلني من غيبوبةٍ عمرها اثنتا عشر سنة، تدّس في يدي مظروفاً، وتقول: “هذه رسالةٌ منها!”
أخنق الرسالة بقبضتي، أكفكف دمعي، ألملم شتات روحي، وأغادر المنزل. أهيم في الشوارع، شمس الظهيرة تلهب رؤوس المّارة، ورأسي تلهبه تفسيراتٌ لم أجدها يوماً، دعاء جدتي لأمي “الله يهديها، الله يسامحها!”
ثم تعقبه بالدعاء لجدي “الله يرحمه ويسامحه، كان سبباً فيما أقدمت عليه”!
أصل منتصف السوق، فأقف عند سبيل ماءٍ باردٍ، أدسّ الرسالة في جيب بنطالي، وباستخدام يديّ أشرب قليلاً، ثم أغسل وجهي، أنظر إلى الجهة المقابلة، يجلس أبي وراء طاولته في المحل، ويقف بجواره ابنه من زواجه الثاني، لا، لن أذهب إليه، سيطردني، ولن يبخل عليّ بجلدةٍ من خيزرانته، لولا كرهه لي، لكنت أقف معه الآن في المحل، لكن…
– خذيه، لا أريد شيئاً يذكّرني بها!
– لكنه ابنك..!
– لستُ متأكداً!
– لم تكن خائنة!
– لماذا لم تنجب غيره..؟
– كانت ستوفر على نفسها جلدات خيزرانتك كل ليلة، لكنها لم تحبك…!
يصطدم أحد المّارة بكتفي، أنظر حولي، تحاصرني وجوه الناس، يخنقني ضجيج السوق، أطلق ساقيّ للريح، تقودني قدماي إلى النهر، وكالعادة، أصنع تمثالاً لوالدتي، ثم أسحب مظروف الرسالة من جيبي، أنظر للعنوان، أتفحّصه ملياً.. على صفحة الماء، أرى حديقة المدينة والعمارة البيضاء بجوارها، وأمي تقف على شرفةٍ فيها، تنظر إلى طفلٍ يلعب.. أطوي الرسالة، أضعها بين يد التمثال وجسده، ثم أجلسُ لأراقب الغروب دون دموعٍ هذه المرة..!
طهمازية الجحيم
مات، ولنقل: نفق أو فطس، مراعاةً للدقة اللغوية فقط، ذاك أن الكلمات لن تغيّر وضع طهماز، وهو لن يشعر بالسوء، فقد صار جثةً هامدةً، يحوم الذباب حولها، وسيأكلها الدود!
قبل أسبوع، جرى طهماز مذعوراً، مرتبكاً. اختبأ خلف شجرة الكينا الكبيرة، وراح يراقب سيارات الزيل العسكرية، التي أخذت تتقيأ حمولتها من الجنود، والسلاح، والعتاد، ثم رحلت كما جاءت، بضجيجٍ يصمّ الآذان، واختفت في عاصفةٍ غباريةٍ أثارتها عجلاتها على دروب القرية الترابية، قرية خالية، مهجورة، غادرها قاطنوها على عجلٍ، حتى أن بعضهم لم يكمل طعامه الذي باشره. تركوا منازلهم بأثاثها، وتساقطت ذكرياتهم على الطرقات. وبينما قرعت القنابل والصواريخ طبول الدمار والموت، نقش الرصاص على جدران المنازل كلماتٍ لا تُقرأ، بل ترى واضحةً كشمس الظهيرة “مرت الحرب من هنا “..!
انتشر الجنود في كل الاتجاهات، يبحثون عن أي شيء وكل شيء. وكالجراد تماماً، لن يتركوا خلفهم شيئاً؛ حين يرحلون. تحركوا في مجموعات، انتقلوا من منزل إلى آخر، ومن شارع إلى شارع، ثم عثروا على طهماز عند شجرة الكينا، كان يقف بلا حراك، لا يعرف ماذا يفعل؟ أو أين يذهب؟
اقتاده الجنود، وهم يتناوبون امتطاءه مقهقهين. ضابط برتبة ملازم اقترح إلباس طهماز بنطال عسكري، فردّ أحد الجنود بأنهم يمكن أن يضعوا على أكتافه نجمة أيضاً.. وهكذا تم تجنيد طهماز، لتبدأ رحلة شقاءه. فراح يعمل لا كالجنود، ولا كالعمال، ولا كالآلات، بل أسوأ من ذلك، ليلاً ونهاراً، دون توقّف. كان ينقل أكياس الرمل للتحصينات، والطعام لتوزيعه على الجنود، ثم يجلب الماء من النهر، وينقل الجنود إلى مواقع حراستهم، ليعود برفاقهم الذين أنهوا نوبة الحراسة، ولا يكاد يتلكأ في أي مهمةٍ حتى تنهمر الضربات عليه بلا هوادة، تساقطت الضربات على أردافه، أقدامه، ظهره، بطنه، ووجهه، حتى ذكره لم يسلم. و كثيراً ما أصاب الجنود نوبة سعار فيضربونه بأي شيءٍ يقع في أيديهم، سياط، عصي، حجارة، لكن أكثر ما آلمه كان هراوةً قصيرةً بلاستيكية خضراء اللون..!
في الليلة السادسة، انهار طهماز، لم تعد أقدامة قادرة على حمله، فسقط أرضاً، الألم يسري في كل جسده. الجندي الذي كان يمتطيه، ضربه عدة مراتٍ، ولأنه كان نعساً تركه وسط الدرب، ولاحقاً جرّه الجنود من أقدامه الخلفية وذيله، وألقوه في حفرة خارج القرية!
الثالثة بعد منتصف الليل، رقد طهماز وسط الدرب، عاجز عن الحركة، أنفاسه ثقيلة، بطيئة كأنما يشحذها من بخيل، القمر محاقٌ، رائحة العشب الندي داعبت أنف طهماز، وذكّرته بجنته المفقودة، انسلت دمعة ندمٍ متأخرة من عينيه، وتذكر كلمات رفيقته البومة الحكيمة يوم وصل الجنود..
– أيها الأحمق، ماذا تنتظر، هيا لنرحل!
– لكن إلى أين.. ؟
– لا يهم، مادام النمرود حاكماً، فالخرائب كثيرة..!