محمد طه العثمان
شاعر وناقد سوري
مجلة أوراق العدد 12
النقد الأدبي
عندما ندرس نصاً شعريا أول ما نوجّه إليه اهتمامنا هو (النسق) وعلينا أن نكتشف العناصر النفسية أو الحسية أو المعنوية المكونة له والعلاقات التي تربط الكلمات بعضها ببعض من خلاله؛ وكيف تشكلت على هذا النسق لتؤدي معنًى ما. فلا قيمة للكلمة دون وجودها في نسق من الكلمات، تتآلف مع بعضها لتشكل علاقات تؤدي إلى معنى مفهوم وحس أو شعور واضح، ومن هنا كل بنية “أي كلمة” تتساوق مع الأخرى لتتكون الجملة الشعورية. لنصل إلى عناصر خطابية متطورة، أي وهي تتطور في معناها؛ ومن هذا الباب سوف ندخل إلى مجموعة (صليل الآه) للشاعر محمد عارف قسوم، للكشف عن خصوصية المجموعة من نواحٍ ظاهرية نسقية ومعنوية، ومن ناحية خصوصية معاجمه اللغوية، التي صبت في مصلحة الشكل النهائي للنصوص.
التشاكل بين الحسي والمعنوي في تكوين.
إن التشاكل بين المفردات هو الذي يخلق مساحة الرؤيا وهو من ينقل الدلالة، وحدد مسراها إن كانت حسية أو معنوية، فالتشاكل والتضارع هو أساس التكوين البنائي للجملة الشعرية، لتتحول إلى مجاز أيضاً، ولكن هذا التشاكل لا يرتكز على كونه أداة بلاغية محضة، لأن هذا الضرب من المجاز لن يثير الدهشة أو الغرابة، إذا ما خلخل سياق الحسي ليجعله معنويًا أو العكس، من هذا قول الشاعر في قصيدة خوابي النور:
أمشي على كتفي محمولةٌ طرقي
أقتاتني رمقًا
يُستلُّ من رمقي
الحسية في المشي والتصور الذهني له ينحاز إلى المعنوي في هذه الجملة (أمشي على كتفي) لنشهد صورة جديدة للدرب الذي صار معادلًا للكتف، وهو الذي يعبر عن الجسارة والتحمل والطاقة، وكأن مصير الشاعر قد تداخل في مصير الأشياء التي حوله، فأنسنها، ليعبر لنا عن التجربة النفسية التي تعتريه ويسقطها على الأشياء والمشاهد الكونية، فحين يفكر في أمر من الأُمور تفكيراً ينم عن عميق شعوره وإحساسه ينقله من كونه حسياً إلى معنوي، “وفيها يرجع الشاعر إلى اقتناع ذاتي، وإخلاص فني، لا إلى مجرد مهارته في صياغة القول ليعبث بالحقائق أو يجاري شعور الآخرين بل ليغذي شاعريته”[1]
وفي موضع آخر يقول:
يا صامتًا في حزنه، يا واحدًا
لم يسمع الصبر الجميل بمثلهِ
فطريقة خلق الصورة ألقت بظلالها على وجدان القارئ، بحيث أعطت صفة مطلقة للمخاطب، عن فكرة التحمل والصبر، ولكن بعد أن نقل البعد الحسي في السمع للبعد المعنوي في الصبر، وجمع بينهما في تكوين نفسي وعلاقات عدولية مجازية تداعب مشاعر المتلقي فينهض من خلالها الشعور بالرضى من جمال العبارة ورشاقتها.
ونرى الشاعر يستمر في استثمار هذه الخصيصة بشكل مميز في مجموعته، ولا ينفك عن خلق مساحات تأويلية لا تنتهي من خلالها، فيقول:
عندي مساحة عفوٍ لو تقارنها
بالكون،
تملؤه عفوًا وتشغلُهُ
الشاعر يقدم في هذا الشاهد رؤيا متسامحة، ومساحة من المحبة غير المنهية، وكل ذلك جاء بسياق متوتر بين علاقات متشابكة بين الحسي والمعنوي (المساحة) (الكون) وإشغال بال الكون بالتسامح والعفو، فمفردات المحبة والعفو تعبر عن رغبة قوية في بناء عالم يسوده الحب والسلام وهذا أيضًا يدخل في تشاركية عالية مع ذات القارئ.
أما في قوله:
واطبق موج الذل.. لم يبقَ موضع
بجسمك إلا الذل أجزاءَه تشكو
نلاحظ أن حرارة الموقف الانفعالي الصادر عن حالة الذل التي وصل إليها الإنسان العربي المخذول، جعلت الشاعر يبدد المسافة بين كل المكونات في مشهد تراجيدي يعزز ظلام الخيبة والانهزام، فحتى يجمع بين (الذل) ودلالته الموغلة في التغرّب، زاوجها مع الموج المطبق على الجسم، فكاد ينهي الشيء من خلال جنسه، فيكوّن هذا العامل نقطة حيوية لا تجد في الواقع مستساغًا لرؤياها بل تتخطاها لتحطيمه تمامًا، ليجعل المعنى من ينأى عن أحادية التوجه، فيكون صوت المؤثِر واضحًا لا صوت المستأثر، صوت الحاثّ للآخــر، الموجه له.
المعجم الأدبي الشعري:
المعجم الشعري هو لغة القصيدة والجدول الذي يختار فيه الشاعر الكلمات التي تؤلف لغته الشعرية، وإن تمحور المعجم الشعري يخضع لحركة القراءة التي يجريها القارئ في النص، فهو شكل من أشكال إنتاج الدلالة النصية.
يخضع المعجم الشعري لمبدأ الإفادة، إذ لا يمكن أن نعد جميع الكلمات معجماً، بل ينبغي أن نستمع إلى اختيار الشاعر، وإلى الأقطاب الدلالية التي يستمد منها معجمه، وفي هذه المجموعة نجد أن لغة الشاعر نضجت من أربعة معاجم وهي:
1ـ معجم الطبيعة: ومنها (الثلج ، الريح ، غصن، النور ، نخل، الليل، الورد ، المطر ، السماء، البدر، الضوء ، بيادر ، البنفسج، البحر ، النجوم ، ينابيع النخيل ، الظلال ، غيم (
حيث أكثر الشاعر من استخدام هذه المفردات بشكل ملحوظ، فلا نكاد نرى قصيدة تخلو من بعضها، وهذا يدل على تشاركية الشاعر مع الطبيعة واندماجه بشكل كبير مع مكوناتها، وهذا التداخل معها، يعطي مساحة كبيرة للامتداد واتحاد النفس مع أشيائها، فنراه يقول مثلًا:
من بحره .. فيض الدمع في الحدقِ
ومن ينابيعه .. إن لم ترقْ يرقِ
قوله:
انت والصبح والخيوط الأولى
يا لوجهٍ يضوّئ القنديلا
وقوله:
وأنك أنت النور أنت مداده
عليه إذا اشتدّ الدجى اتوكأُ
ومن الملاحظ أن هذا المعجم جاء متناسباً مع حالته في التشبث بالأمل وتخفيفا لحالة الحزن، وسعادةً له، ونسيانًا لما يمر به مشقات وغربة.
2ــ معجم الأفق: ومنها (السماء، السرى، الشمس، عاليا ، شامخًا، ارتفع، شاهقاً ، الهواء ، غائم، نسر ، عالي )
هذه المفردات تساوقت مع حالة الانطلاق وعدم الاستسلام للواقع، وتحليق الشاعر في فضاءات المجاز، ومن ذلك قوله:
حتى السماء تحل طوع بنانه
وتحل طائعة له ألغازها
وقوله:
لا تنحني أبدا
شموخ جبينها شمسي
وإني قاب قوس الشمسِ ملتصق جبيني
وقوله:
سموتُ فما يومي، سواهُ ولا أمسي
ولا غير وجهٍ كان صاحبه شمسي
وقوله:
وإليك سرب هوى يحلق عاليا
قلبي وروحي والسنونو رفُّهْ
كل هذه العبارات جاءت لتعطي انطباعاً عن حالة الشاعر في بداية النص عندما كان محلقاً في الأفق متجاوزًا الصدمات في الواقع الذي يعيشه، ويتعالى على الجرح الذي ينز من قلبه .
3 ـ معجم الحزن: ومنها (دمعته، البكاء، واحره، نار، أشتكي، العجز، أقساه، مرارة، جروح، الآه، الحنين، الوهم، المكابرة، شاحباً، الوداع)
هذا المعجم هو الأكثر، والمسيطر على ثنايا المجموعة، وفيه وفرة من المفجرات التي تعطي انطباعًا عن حالة الشاعر المتخفية وراء المعاني البعيدة، لذلك ما نكاد نرى حالة تحمل أو صبر أو تسامٍ حتى نلمحه معها حالة وجع، وتشظٍ، ولعل الحالة السورية ألقت بظلالها على ذات الشاعر ومشاعره، ومن ذلك يقول:
أيُّ ليل هذا .. تمادى عليَّا
أشتكيه فما يصيخ إليّا
وقوله:
آه عليك وأهٍ منكَ يا رجلُ
حتامَ تلقى الذي تلقى وتحتملُ
توزع الحزن بين الناس أجمعهم
وأنت فيك جميع الحزن يُختزلُ
وقوله:
أبكي عليَّ أبث الكون أسئلتي
والعشق الحقّ بكّاءٌ وسآلُ
وقوله:
تطاول ليل الحزن حد نجومه
سكارى لهولٍ لا حدود له خُرْسُ
وكما أسلفنا أن معجم الحزن كان موافقا لحالة الشاعر في معظم النصوص، فتجلى ذلك عند اختياره لهذه المفردات بكثرة ووفرة.
في النهاية المجموعة مليئة بالفضاءات الدرسية كــ: الدراما، والتناص، التوظيف، ولكن آثرنا دراسة المعجم الشعري والأسلوبي التشاكلين لأنهما ظاهران فيها بشكل ملحوظ.
[1] ـ د. محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة ـ بيروت 1973، ص 383