“الانفجار السوريّ الكبير: الحريّة والكرامة بين مخالب المفترسين””1”

0

د. وحيد نادر”2″

مجلة أوراق – العدد 14

الملف

1 مقدّمة

لم تجمعني الغربة بالكثير من السوريّين وثقافاتهم المختلفة فقط، بل جمعتني بعرب وغير عرب أيضاً، جاؤوا من كلّ الأقطار العربيّة. فقد تعرّفت في ألمانيا على اليمنيّ أكثر والموريتانيّ والسعوديّ أكثر، مثلما اقتربت أكثر من الإيزيديّ والآشوريّ والأرمنيّ السوريّين، واطّلعت على بعض عاداتهم وتقاليدهم، التي لم يتح لي التّعرف عليها بمثل هذه الحريّة في سوريّة.    

كان أكثر ما يجمعنا، نحن القادمين من البلدان العربيّة، خوفنا من النظام العربيّ، أي خوفنا من أنظمتنا! فهي، وأنّى اتّجهت بين المحيط ألأطلسيّ والخليج العربيّ، تقمع وتقتل وتقلع العيون والأظافر بل وتنشر أجساد معارضيها بالمناشير الفولاذيّة. وقد كان السؤال دائماً: متى سنتخلّص من هذا الخوف المعشّش وهل سنعيش يوم نهايته أم أنّه سينهينا قبل أن ننهيه؟ حين يريد الواحد منّا الذهاب إلى سفارة بلاده الأصليّة أو زيارة الأهل في وطنه العربيّ الأمّ، يضع يده على الجهة اليسرى من الصدر، من بداية رحلته وحتّى تعود قدماه لتطآ ثانيةّ أرض غربته.

يستطيع عربيّ يحمل جنسيّة ألمانيا، أن يزور كلّ بلدان الدنيا، وهو مطمئنّ البال ومرتاح، إلاّ إذا قصد بلداً عربيّاً، خاصّة إذا كان هذا البلد وطنه الأمّ: فالسعوديّ يخاف في السعوديّة أكثر من خوفه في أيّ مكان آخر في العالم، والسوريّ تُرعبه فكرة هبوط طائرته في مطار دمشق، سيّما إن كانت “صوفتُه حمراء”، كما يقول السوريّون.

حكَمتنا الأنظمة العربيّة، ومازالت، بعقل يكاد يكون واحداً، سواء جاء هذا العقل من سلّة اليسار أو من قُفّة اليمين، فالملك هو الملك، والمشكلة دائماً هي التخلّف والبطريركيّة والدكتاتور، سواءً كان هذا الدكتاتور حزباً أم ديناً، عسكريّاً أم مدنيّاً، ولذلك أطلق على المظاهرات والحراك الذي شمل بعض البلاد العربيّة “الربيع العربيّ”، فالعرب يعيشون شتاءً تخلّف وتدمير ثقافيّ مميت وانحطاط وجوع لا يرحم منذ عصور ودهور. كما أنّ همّ الإنسان العربيّ واحد ومشاكله متشابهة، وكلّها لها علاقة بالكرامة والحريّة، من غير أن ننسى طبعاً حاجات إنساننا الأخرى الكثيرة، التي منعها النظام العربيّ عنه، لدرجة صار علينا ربّما، أن نشكر هذا النظام، لأنّه أبقى بعض المحظوظين منّا على قيد الحياة.

أرادت شعوبنا العربيّة استرداد حرّيتها وكرامتها بالدرجة الأولى، يوم أشعلت ربيعها بدايات العقد الأخير، لكنّ الدكتاتوريّات والسلاح والتدخّلات الإقليميّة ومصالح السيّاسة الدوليّة، كانت أقوى من تلك الشعوب ومن تطلّعاتها.

في غربتنا نزلنا، نحن العرب، إلى الشّارع أيضاً وفوراً، يوم بدأ ما سميّ يومذاك ربيعاً، وكأنّنا أمّة عربيّة واحدة فعلاً! نزلنا إلى الشارع متضامنين مع أهلنا في المظاهرات التي عمّت عالمنا العربيّ. يومذاك لم نطأ شوارع الغربة متظاهرين ضدّ الأنظمة العربيّة فقط، بل أتذكّر أنّا تظاهرنا ضدّ بعض الحركات الإسلامويّة، التي وصلت إلى الحكم عن طريق نفس ذلك الربيع، كما نزلنا مرّة مع اليسار الألمانيّ ضدّ قرار أوباما 2013 توجيه ضربة عسكريّة إلى سوريّا، ووقفنا في ذلك اليوم مع الألمان ضدّ أخوتنا في الجماعة الإسلاميّة، الذين كانوا يؤيّدون تلك الضربة، فأخذت مظاهرتهم يمين الساحة التي وقفنا فوقها، وفصلت بيننا الجندرما الألمانيّة!

رغم تهاوي الأنظمة العربيّة، واحداً تلو الآخر، تحت وطأة المظاهرات، كان النظام في سوريّا يشعر بالأمان، ويدافع عن نفسه قائلاً: “لن يحدث شيء عندنا، فقيادتنا أكثر حكمة من أن تقع في مطبّ هذه المؤامرة.”، وتابع مصرّاً على ما يراه في أضغاث أحلامه، حتّى كادت كتابات بسيطة لأطفال في عمر الورد على أحد حيطان درعا العتيقة أن تسقطه!

ما أكثر السوريّين الذين فاجأهم الفرح في ذلك الشهر الربيعيّ 2011، وما أكثر الذين هرعوا إلى الشارع وفي كلّ المدن السوريّة بلا استثناء، يهتفون لحريّة حلموا بها عقوداً، فقد كاد اليأس أن يقتل كل روح وكلّ أمل وكلّ بصيص مستقبل، وكانت السطوة الأمنيّة والبوط العسكريّ ومخالب الفساد ورياء رجال الدين ثقيلة على رقاب العباد، تصطاد أحلامهم وتقتلها قبل أن تصل إلى خيالاتهم.

لم تمتلئ شوارع المدن في الدّاخل السوريّ وحدها بالمتظاهرين الهاتفين “الشعب السوري ما بينذلّ” وَ “الشعب السوري واحد” و “سوريّا بدها حرّية”، بل امتلأت شوارع الغربة أيضاً، في فرنسا وألمانيا وأمريكا وغيرها، بمتظاهرين يعيشون في هذه البلدان ويردّدون نفس شعارات أبناء وطنهم في الداخل، فهم يريدون أيضاً التحرّر من ذلك الخوف الرهيب الذي ينتابهم حين تخطر أوطانهم الأصليّة على بالهم أو يريدون زيارتها.

لا شكّ أنّ مظاهرات الغربة، مثلها مثل المظاهرات في الداخل، ضمّت أيضاً عرباً وسورييين، لا يؤمنون بالسلميّة وتداول السلطة والديمقراطيّة، بل يريدون إسقاط النظام ولو في رماد أوطانهم. فهناك سوريّون في أوروبا حملوا أفكاراً تريد التخريب أو إلحاق الأذى إن استطاعوا بكل ماله علاقة بالدولة السوريّة، فالدولة السوريّة في أذهانهم لا تتعدّى حدود النظام السوريّ وأبعاد أشخاصه الحاكمين. كانوا سوريّين، لكنّهم سوريّون مستعدون للتعاون مع الشيطان، المهم إسقاط النظام الأقلويّاتي، الذي يحكم البلاد منذ عتيق السنين وعقودها المنصرمة. كما كان بإمكانك لقاء سوريّين لا يريدون إلاّ شيئاً واحداً، هو استبدال دين الحاكم.

كان مثل هؤلاء، الذين وصفتهم أعلاه ويعيشون بيننا هنا في الغرب، موجوداً أيضاً وبكثرة ضمن الحراك السوريّ في الداخل، مثلما قصّ علينا قادمون من سوريّا. لذلك راح يعذّبني السؤال: هل بادر هؤلاء إلى حمل السلاح أو خزّنوه واستخدموه بنيّة الحرب وعسكرة الحراك منذ اللحظة الأولى كما ادّعى ويدّعي النظام (الأسلحة التي يزعم النظام أنّه ضبطها في بعض المساجد السوريّة)، أم أن العسكرة جاءت فيما بعد، بتمويل من الخارج، لكن بتحفيز وإثارة وإرادة وقرار النظام أيضاً؟

هذا السؤال ليس جديداً، وإثارته هنا لا تعني أبداً الشكّ لحظة، والكتاب الذي بين يدينا يؤكّد هذا في أكثر من موضع وصفحة وفصل، في استعداد النظام السوريّ بطبيعته إلى العنف وإثارة الفتنة بين مكونات المجتمع السوريّ، فله باع وتاريخ طويل في ذلك منذ لحظة نشوئه ووصوله الحكم، متحدّياً كلّ سوري: “من أراد السلطة فعليه أن يأخذها منّا بالقوّة، مثلما أخذناها!”، مقولة يعرفها السوريّون منذ زمن طويل. فالنظام الذي يحكم سوريّا منذ عقود، هو في أساسه وفكره العقائديّ وفي عقل قادته، لا يؤمن بالدبلوماسيّة والسياسة، إلاّ مع الأجنبيّ، أي مع من لا يستطيع النظام مواجهته، حتّى لو كان عدواً يقصف سوريّا كلّ يوم ويهدد أمنها وأرضها كلّ لحظة. أمّا معنا، نحن السوريين، فقد كان النظام وسيبقى ذئباً عنيفاً قاتلاً شارٍ للذمم وللولاءات و “مفسداً لمن لم يفسد بعد”، حسب كلمات المفكّر المرحوم طيّب تيزيني. فهو لا يناقش ولا يتكلّم مع من يعارضه أو مع من يخطئ في موالاته بالكلمة أو بغيرها، بل يرسل عسسه يسجلون كلّ صغيرة وكبيرة على ذلك المعارض أو الموالي المخطئ، ثمّ ينتظر حاقداً، حتّى يقرّر سلطان موت جالس خلف مكتب ويأمر بالانتقام، والتهمة، أيّاً كانت الفعلة، كذبة معلّبة جاهزة: “خيانة الوطن وأهداف الحزب والثورة أو إضعاف الشعور القوميّ!”، حتّى أنّ شيوعيّين سوريّين أدينوا بتهمة مازلنا نحكيها نكتة لأصدقائنا: “الوقوف في وجه النهج والتطبيق الاشتراكيّ في سوريّة”. أمّا الانتقام فمتعدد الأشكال والمشارب، فهو لا يتعدى أحياناً الطرد من الوظيفة، لكنّه قد يصل إلى القتل في أحايين أخرى، أو الإجبار على الانتحار بثلاث طلقات في الرأس في أحايين ثالثة! وهذه الأخيرة نكتة سوريّة أيضاً.

هذا النظام البعثيّ العسكريّ بذراعيه التجاريّ والدينيّ حوّل المجتمع إلى عبيد جائعين صامتين، لكنّهم أيضاً حاقدين على سجّانيهم، رغم ذلّهم وخوفهم، فالعين لا تقاوم المخرز، ولذلك راحوا يتحيّنون الفرص للمطالبة بحقوقهم، للمطالبة بإعادة كرامتهم لهم، وبإعادة الحريّة والعدل إلى المؤسّسة السوريّة. الشباب السوريّ الجديد ليس متحمّساً، كما كنّا نحن في ستيّنيات القرن الماضي للاشتراكيّة والوحدة العربيّة، ولو أنّه لا يكره مثل هذه الأهداف ولا يقف ضدها، وهو لا يعرف النضال ضد الصهيونيّة والاستعمار كما عرّفنا عليه البعث في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي. غالبيّة هذا الجيل تريد أن تتعلّم وتشتغل وتؤسّس أسرة وتعيش بسلام وَبحبوحة. لكنّ النظام الحاكم، رغم تعاقب عدّة أجيال، مازال يحكم بنفس عقليّة انقلاب آذار وحركاته التصحيحيّة التي تلته.  

أطرح السؤال الذي طرحته آنفاً وأغلبنا يعرف جوابه، فقد سمعت شخصيّاً الجواب من شهود عيان، عاشوا تجربة الحراك السوريّ (في حمص مثلاً) يوماً بعد يوم. مع ذلك فقد قرّرت اليوم طرحه على كتاب منير شحود “الانفجار السوريّ الكبير” وملاحقة الجواب في فصول مذكّراته عن تلك الفترة وشهورها الأربعة أو الخمسة الأولى، يوم بدأت المعارضة تسلّحها ونصبت الكمائن في الشّوارع. لقد شغلني سؤال “من بدأ العنف وإطلاق النار أولاً، من أنزل السلاح والمسلّحين إلى الشارع أوّلاً، ومن قتل المتظاهرين العزّل؟ سؤال وأسئلة شغلتني وشغلت الكثيرين من الأصدقاء، سيّما منهم أولئك الذين يعيشون في بلاد الاغتراب منذ عقود طويلة. هل كانت الانتفاضة أو الانفجار السوريّ، كما يسميه المؤلّف، سلميّاً في بداياته ومدنيّاً في تلك البدايات؟ ما هي العوامل التي أدّت إلى التحوّل للتسليح والعسكرة ومن سلّح وعسكر؟

كُتب الكثير من المقالات وصنع الكثير من المسلسلات والأفلام ونشر العديد من الكتب والدراسات التحليليّة والروايات والقصص حول الانتفاضة السوريّة، وكلّ تلك الكتابات والأعمال الفنيّة تقريباً، حتّى القريبة فيها من النظام، تؤكّد تدخّل الجيش بسرعة كبيرة في تفريق المظاهرات وإطلاق النار على المتظاهرين في المدن والبلدات السوريّة وتزايد عدد القتلى بينهم يوماً بعد يوم، بل وأحاقت الدبّابات بالمظاهرة الحمصيّة الكبيرة، التي نبقت من مسارب و حارات عديدة وتجمّعت غدرانها عند السّاعة الجديدة، فسدّت عليها كلّ منفذ واتّجاه. رغم كلّ هذه الأخبار الموثوقة، فقد أردّت متابعة بعض الأجوبة لأجزاء من سؤالي فيما كتبه الصديق منير شحّود. لماذا؟

لأنّني، بكل بساطة، أعرف منيراً منذ أيّام الجامعة قبل أكثر من أربعين سنة. ولا أستطيع نسيان تلك الزيارة التي تعرّفت فيها على منير أواخر سبعينيّات القرن الماضي في غرفته في المدينة الجامعيّة في دمشق، لأنّي التقيت عنده، لأوّل مرّة في حياتي، بشخص صينيّ من لحم ودم. كان ذلك الشخص طالب لغة عربيّة يسكن مع طالب الطبّ منير شحود في نفس الغرفة، ويتكلّم العربيّة الفصحى أفضل من كلينا، رغم محاولته الجادة يومئذٍ في فهم لهجتنا القرويّة. 

فبالرغم من أنّ قريتينا متجاورتان في ريف الدريكيش الجميل، لكنّ منير قضى إعداديّته وثانويّته في الدريكيش، بينما زرت أنا مدرسة القرية. كان ذلك أوّلاً. أمّا ثانياً، فلأنّي اكتشفت منذ اللحظة الأولى التي عرفته فيها وحتّى اليوم صدق الرجل وصلابة مواقفه في ما يراه عدلاً وحقّاً، وعدم قدرته، رغم ودّه الشديد وطيب روحه، على تحمّل الظلم مهما كان و أيّاً كان فاعله. وتلك أمورٌ رمته في نارٍ معاناة حياتيّة، مازال يعيشها بقناعة وتقشّف الفلاّح البسيط في سوريّا إلى يومنا هذا. لم يغادر الدكتور منير شحّود سوريّا بعد بدء الحراك، رغم كلّ ما عاناه وأسرته خلال السنوات العشر الأخيرة، ورغم الأذى الذي لحق به وإطلاق النار عليه وهو يقود سيّارته وإلى جانبه ابنته الصغيرة، بل بقي يكافح ويقول كلمة الصدق ويساعد المهجّرين، الذي قدموا من الداخل السوريّ إلى مدن وبلدات ساحله، بل كان يذهب في جولات، إلى مناطق الدّاخل لرؤية الأمور والمساعدة، رغم خطورة ما يفعل، ورغم أنّه ولأسباب طائفيّة أحياناً، لا علاقة له هو بها، لم يكن مرغوباً به دائماً. لقد كان يتابع عمله النضاليّ من إيمانه بضرورته ويحاول بكلّ ما يستطيع إقناع من حوله ومن يعرفهم بأهميّة منع الحراك من التدهور إلى العسكرة، ما جعل النظام وبعض المعارضة في نهاية الأمر خصميه بل عدوّيه أيضاً.

كان هذا جانباً، أمّا الجانب الآخر فهو: إنّني شخص مسالم، لا أحب الدم ولا الحرب، رغم كلّ عنف النظام وعسفه، فالسلميّة أقوى والسلم يبني، أمّا الحرب وإن أسقطت النظام، فإنّها تترك جرحاً لا يندمل، لأنّ القاتل والمقتول هنا سوريّان. وسوف أستعير في هذا الموضع مقطعاً تساندني كلماته وتصف الحالة ربّما بدقّة كبيرة. ورد ذلك المقطع في مقال الدكتور راتب شعبو في العربي الجديد 9 أيلول 2021. يقول الدكتور شعبو “يمكن النقاش كثيراً في صوابيّة حمل السلاح والتحوّل العسكريّ في الثورة السوريّة ولا صوابيّته، وصاحب هذه السطور على قناعة بأن التحوّل العسكريّ كان منزلقاً كارثيّاً، ولكن لا يمكن مناقشة هذا الموضوع بعيداً عن الصورة التي رسّختها السلطة السوريّة في أذهان محكوميها، بوصفها سلطة طغمة حوّلت الدولة إلى مستعمرةٍ لا تعترف بالحقوق العامّة للمحكومين، وذات طابع انتقاميّ لا حدود له، يطاول ليس فقط الشخص المعارض، بل و محيطه العائليّ.”

لماذا وكيف ومتى تحوّل الحراك إلى صراعٍ عسكريّ بين حالتين عقائديّتين يملؤهما الحقد ولا يرغبان في شيء سوى تدمير سورية وطن الجميع، تدميرها فقط من أجل بقاء هذا الطرف في السلطة أو وصول الطرف الآخر إليها؟

لم تكن ملاحقة جوانب السؤال وأجوبته سهلة في كتاب الدكتور شحّود، فالكتاب يعتمد أكثر على التسلسل الزمنيّ منه على التحليليّ. فصوله لا تعالج بالضرورة موضوعاً واحداً إلى النهاية، ثمّ تنتقل إلى موضوع آخر. كلاّ، فالكتاب كتاب مذكّرات، جرى تصنيفه وتبويبه، كما يبدو لي، بعد الانتهاء من كتابته، ثمّ جرى منحه فصولاً بعناوين محدَّدَة وليست محدِّدة. لذلك تشظّى الموضوع الواحد في أكثر من فصل وتحت أكثر من عنوان، وذلك من طبيعة الكتاب التي أنتجته في الأساس. ينتقل الكاتب من فقرة مؤتمر جنيف مثلاً، إلى عودته إلى اللاذقيّة ومعارك حلب، ثمّ تأتي بعدها مؤتمرات القاهرة، لكنّه يعود ويسرع من جديد لينتقل ويقصّ علينا استدعاءه إلى فرع المخابرات الجويّة في اللاذقيّة، قافزاً بعدئذٍ إلى قصّة رصاصات طائشة أصابت سيّارته (الفصل العاشر، وقد لحظ الكاتب هذا الكمّ من التوزّع والتشتّت، فسمّى الفصل “محطّات”). 

أمّا عناوين الفصول فليس لها دائماً علاقة بكامل محتوات الفصل، بل جاءت اعتباطيّة أحياناً لتأخذ مثلاً اسم فقرة من الفصل وتترك الفقرات الأخرى تسرح وتمرح في مواضيعها المختلفة: فلماذا الآيات القرآنيّة والدخول في محاولات تنظير يفعلها رجال الدين أحياناً أو تدخل ضمن تحليلات سياسيّة دينيّة ناقدة للواقعة بطريقة منهجيّة، لا مكان لها هنا، فنحن في الكتاب أمام مذكّرات عين وقلب وعقل حول حدثٍ وعن حدثٍ ولحدث نعيشه وننقله يوماً بيوم وساعة بساعة في الفصل الخامس، أو لماذا هذا الإسهاب في مسائل بسيطة معروفة عن العلويّين و قراهم في فصل طائفيّة وطوائف مثلاً؟ كان البقاء على التسلسل الزمنيّ وسرد الوقائع وربطها أكثر ببعضها أفضل برأيي من التطرّق إلى مواضيع لا تخدم بالضرورة الموضوع الذي وضعت فيه.

أعود وأقول: كان تتبّع موضوع واحد معين ومحدّد، مثل سؤالي عن الانتقال إلى العسكرة هنا، يحتاج إلى قراءة الكتاب كلّه، وهذا ما فعلته أيضاً، ووجدت مفتاح سؤالي في الفصل الثامن. فهنا يتطرّق الكاتب إلى لقاءاته وبعض المعارضين مع بعض سفراء الدول الأجنبيّة في دمشق، كان بينهم الأمريكيّ والفرنسيّ والتركيّ والسويديّ …

تنبع أهميّة هذا الفصل من محاولة إيضاح علاقة بعض شخصيّات المعارضة بالأجنبيّ ومحاولة الاستفادة من الخارج، الممثّل عبر سفاراته والعاملين فيها في دمشق، ثمّ التلميح إلى بعض حيثيّات محاولات تسليح الحراك في بداياته. وهذه أمور ستترك بصمتها على مسار الحراك السوريّ وعلاقة بعض أطرافه مع بعضها الآخر، ثمّ على تطوّراته المحليّة والإقليميّة والدوليّة، تلك التي أخذته من فشل إلى فشلٍ أكبر ومن هزيمة إلى هزيمة أوسع، لم يخرج منها الحراك إلى اليوم. بسبب أهميّة هذه الأمور، سوف أورد مقطعين شبه كاملين ممّا كتبه المؤلّف من مذكّرات تلك الأيّام في الفصل المذكور.

يورد الكاتب في الصفحة 83 ما يلي: “حضر السفراء والعاملون في السفارات للقائنا في بيت صديقي (أحد أعضاء الائتلاف فيما بعد) بصورة دوريّة، وقد حظي السفير الفرنسّي ” شوفالييه” بمرافقة لصيقة ومتنبّهة بعد تعرّضه لتهديدات… غالباً ما كانت معلومات السفيرين الفرنسيّ والأمريكيّ دقيقةً لاعتمادهما على مصادر معلوماتيّة متنوّعة. كنّا عدّة أشخاص من المعارضة، وعلى هامش اللّقاء، طلب السفير الفرنسيّ تفاصيل عمّا حدث في جسر الشغور! واضح أنّه أراد اختبار نوايا بعض المعارضين حول استعمال السلاح في ذلك الوقت المبكّر خارج إطار الدفاع عن النفس.

يبدو من المقطع السابق وقوف الكاتب ضدّ استخدام السلاح خارج إطار الدفاع عن النفس، بالرّغم من أنّ الاجتماع الذي يتكلّم عنه هنا، قد انعقد بدايات الشهر العاشر/أكتوبر 2011.

يتابع الكاتب في الصفحة 84: “أمّا الأمور العامّة، وهنا بيت القصيد، فقد اشتملت على بعض الملاحظات المؤلمة، منها عدم وجود رؤية واضحة لسوريّا القادمة، والتركيز على مسألة سقوط النظام بدعم دوليّ متخيّل أكثر ممّا هو واقعيّ، وإصرار بعض المعارضين على دورهم المركزيّ في المعارضة متبجّحين بتأييد الشارع لهم، واستفاضتهم بالحديث عن أطراف المعارضة الأخرى من باب إقصائهم ونشر غسيلهم، كما اعتاد المعارضون السوريّون على تعامل بعضهم مع البعض الآخر! من الأمور المؤلمة أيضاً هو التعريف بنا (من قبل الصديق عضو الائتلاف لاحقاً) أمام الأجنبيّ، وذلك من خلال انتماءاتنا الطائفيّة كأقليّات، كمن يريد القول: “نحن الثورة وهؤلاء الأحرار معنا أيضاً، فتغيب سوريّتنا وتحضر طوائفنا! آنئذٍ، كان ينتابني إحساس بفقداني لبعدي الوطنيّ وتقهقري إلى “ابن أقليةٍ ” لم أؤمن يوماً بالانتماء إليها، إلاّ فيما يتعلّق بتأثّري بثقافتها إلى هذه الدرجة أو تلك، وبحكم المولد والنشأة.”

يشير المقطعان، بوضوح جليّ، إلى المسار والمسارات التي سيأخذها حراك المعارضة فيما بعد، إلى ما سيفشل سلميّته ويفتح له قبره ويقبره في نهاية الأمر: التسليح والطائفيّة. أمران لم يردا على لسان أحد في بداية الانتفاضة ولم تردّدهما مظاهرة خرجت في بلدة أو مدينة سوريّة. فمن أين جاء كلّ هذا؟

2 الانفجار السوريّ الكبير 

يعرّف الكاتب بكتابه على صفحة “منصة الكتب العالميّة” فيقول: “قدّمت في هذا الكتاب نموذجًا ما في الكتابة، حاولت أن يشبه الحياة ذاتها بتنوع تجليّاتها، وكيف عشنا الحدث ونعيشه، حيث تختلط المذكّرات الشخصيّة والذكريات العامّة والمشاعر والتحليلات السياسيّة في كل معاً، ويبقى الحكم على هذه التجربة رهناً برأي القرّاء وتفاعلهم.”

وتلك حقيقة، فقد جاء الكتاب في ثلاثة عشر فصلاً مختلفة المشارب والمناحي، رغم إجماعها على توصيف الحراك السوريّ، خلال سبع سنوات متواصلة في تسلسل وقائعيّ زمنيّ، وتطوّره إلى فجيعة أنتجتها عوامل عدّة أخذت ذلك الحدث الجلل إلى حيث هو اليوم.

سبقت الفصول الثلاثة عشر مقدّمة وانتهت بخاتمة وملحق. أمّا الأسماء والرموز والمصطلحات، فقد فسّرت بخطّ صغير أسفل الصفحات التي وردت فيها، مما سهّل على القارئ الرجوع سريعاً إلى ما تعنيه. كان الملحق ضرورياً وجادّاً أيضاً في شرح الكثير من المواضيع التي لها علاقة بالواقع السوريّ وتغيّراته في العشرين سنة الأخيرة، خاصة منها سنوات الأزمة، مثل بيان دمشق-بيروت وهيئة التنسيق وإعلان دمشق وكثير غيرها. ما قد يفتقده القارئ في الكتاب هو فهرسه، الذي كان سيطلعنا لو وجد، بلمحة بصر ربّما، على الكتاب وفصوله ومواضيعه، ويعطي فكرة مختصرة عمّا أراد الكاتب أن يقوله لنا. أنا لا أدري إن كان الفهرس موجوداً في النسخة الورقيّة من الكتاب، فما بين يديّ نسخة إلكترونيّة حصلت عليها شاكراً من أحد الأصدقاء المهتمّين.

لذلك، ولكي يطّلع القارئ على محتويات الكتاب الهامّة والوقائع التي وصّفها وعالجها، فيرجع إليها إن أراد ساعة يريد، أورد فيما سيأتي فهرس فصول الكتاب ومحتويات كلّ فصل على حدة، وذلك بإيجاز سريع:

الفصل الأوّل (ص11): إرهاصات وتصدّعات (الجمعة 18 آذار/مارس 2011، بين الترهيب والترغيب، مسوّقو سياسات النظام).

الفصل الثاني (ص20): ألاعيب الاستبداد (حمص الأسابيع الأولى للانتفاضة، رسائل ذات دلالات).

الفصل الثالث (ص28): من ذاكرة الحدث (الدم السوريّ في الشوارع، حين عشت وطنيّتي السوريّة على الأرض، 19 وَ 20 وَ 25 وَ 26 نيسان/ أبريل 2011؛ سوريّا في مهبّ القمع والثورة والحريّة: 5 وَ 6 وَ 20 وَ 26 أيّار/مايو 2011؛ 2 وَ 6 وَ 14 وَ 20 وَ 27 حزيران/يونيو 2011، آفاق الحراك الشعبيّ في شهره الرابع: 13 وَ 15 وَ 20 تمّوز/يوليو 2011 ومظاهرة المثقّفين في دمشق وجنون الحلّ الأمنيّ، أواخر تمّوز 2011 والانتقال إلى دمشق).

الفصل الرابع (ص50): زياراتنا لأماكن التظاهر (جولة في شوارع اللاذقيّة).

الفصل الخامس (ص56): جدليّة الأسلمة والعسكرة.

الفصل السادس (ص63): المعارضة السياسيّة ومحاولات الانتظام السياسيّ (المعارضة التقليديّة والحراك الشعبيّ، مشاكل المعارضة التقليديّة، المجلس الوطنيّ، إعلان دمشق).

الفصل السابع (ص73): قضايا متفرّقة (الإعلام الثوريّ والإعلام الرسميّ في المواجهة، لعنة النصرة، خلط الأوراق، إضرابات، مؤتمر “سوريا في إقليم متغيّر”).

الفصل الثامن (ص82): يوميّات دمشق (على الهامش وفي الصميم).

الفصل التاسع (ص87): طائفيّة وطوائف (خصوصيّة الحالة السوريّة).

الفصل العاشر (ص93): محطّات 2012 – 2014 (بين خياريّ الحرب الأهليّة والتفاوض، 5 وَ 6 وَ 8 آذار/مارس 2012 وَ مرجعيّات 9 وَ 15 آذار وَفي الموالاة والمعارضة “الأكثريّة والأقلّيات”، آذار/مارس 2012 والتمهيد للقطيعة السياسيّة مع بدايات تسليح الحراك والمسؤولين عنها، 5 نيسان/أبريل 2012، مؤتمر المنبر الديمقراطيّ السوريّ في القاهرة، مؤتمر البحر الميت أو “المواطنة والدولة المدنيّة الديمقراطيّة”، القطيعة وبداية مرحلة جديدة، لقاء مع السيّد كوفي عنان، الدريكيش 11حزيران/يونيو 2012/ 20 حزيران، مؤتمر جنيف، تعايش سوريّ “مهجّرون في الساحل السوريّ”، 18 تمّوز/يوليو وَ 30 آب/أغسطس 2012، العودة إلى اللاذقيّة، مؤتمر آخر في القاهرة وخيبات أخرى، تشرين أوّل/أكتوبر 2012 وَمعارك حلب، الاستدعاء إلى فرع المخابرات الجويّة اللاذقيّة، 19 تشرين ثاني/نوفمبر 2012، 7 أيّار/مايو 2013 ورائحة الموت، مؤتمرات الطّوائف “كلّنا سوريّون” في القاهرة، تلك الرصاصات الطائشة، 11 حزيران يونيو/2013 وتشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المدنيّون بين فكيّ كمّاشة المتحاربين، أزمة الترسانة الكيماويّة السوريّة، من جرائم التكفيريّين، 10 تشرين ثاني 2013، متعلّمون ومثقّفون، مؤتمر جنيف2، شباط/فبراير 2012/مخفر الشرطة، مساعدة أم رشوى (من أحد أعضاء الائتلاف)، آذار 2014، أيّار 2014، 22 أيّار/مايو 2014، حزيران/يونيو 2014 والانتخابات الرئاسيّة الجديدة ولا جديد، العصر الداعشيّ).

الفصل الحادي عشر (ص136): مواقف دوليّة (الموقف الإسرائيليّ، الأمريكيّ، الروسيّ، التركيّ، القطريّ، السعوديّ، جامعة الدول العربيّة وموقف الاتحاد الأوروبيّ).

الفصل الثاني عشر (ص143): نساء الثورة والحياة.

الفصل الثالث عشر (ص146): اليسار وعلمانيته على هامش الربيع العربيّ.

لن أتطرّق في قراءتي هذه، رغم حجمها الكبير نسبيّاً، إلى كلّ فصل من فصول الكتاب الشيّق، على حدة، بل سأتتبّع أجوبة سؤالي في الأمكنة الموجودة فيها ضمن الفصول، وغالباً عبر اقتباسات مباشرة من الكتاب أضعها بين علامات تنصيص، لكي أترك الكاتب نفسه يتكلّم، ولأشجّع القارئ، إن أراد، على العودة للنصّ الأصليّ في الكتاب وقراءة ما يحلو له وما يحتاج من مواضيع كثيرة وهامّة في الفصول الأخرى الكثيرة، التي ليس لها علاقة مباشرة ربّما بسؤالي. فأنا أردت البحث عن الانتقال إلى التسلّح وكيف جرى وتمّ، ومن بدأ فيه، ووضعت الفقرات التي لها علاقة بذلك ضمن فصول الكتاب بخطّ سميك (انظر الفهرس). كما لا أريد متابعة تطوّراته الفظيعة ونشوء الفصائل وتسليحها وعنفها وجرائمها، التي انفرشت مثل أسراب جراد لتشمل أغلب الأرض السوريّة وحوّلت الحراك الذي بدأ سلميّاً إلى حرب شاملة اختلف في تسميتها وتصنيفها.

يستطيع المرء من عنوان الكتاب، موضوع هذه القراءة “الانفجار السوريّ الكبير: الحريّة و الكرامة بين مخالب المفترسين”، أن يجد فوراً ما يوحي بجواب سؤالي أو أسئلتي، فالعنوان يقول للقارئ مباشرة: لقد آلت انتفاضة السوريين 2011 وقادتهم آليات انفجارهم إلى كارثة أسقطتهم بين مخالب وحوش إنسانية مفترسة سياسيّاً وعسكريّاً. والكاتب لا يسمّ ما حدث ثورة، كما يروق للبعض أن يسمّيه، بل سمّاه انفجاراً، رغم أنّه يحلم مثل أغلب السوريّين بثورة تعيد إلى سوريّة زهوّها ومجدها وإنسانيّة ثقافتها. والانفجار أمر لا تنظيم فيه ولا رؤية ولا خطّةً يسير عليها، وبالتالي قد يكون بلا هدف أيضاً. وإن كان له هدف، فلا يصل إليه غالباً بسبب طبيعته وسهولة ركوبه والسيطرة عليه من قبل قوى لا مصلحة لها في نجاحه، فهو، أي الانفجار، حالة من العفويّة والعاطفيّة، التي تنفجر لحظة غضب ما عاد بالإمكان تحمّله، فتشظّى. لكنّه، أعني الانفجار، قد يتحوّل مع مرور الوقت، إذا ساعدته الظروف، إلى نهرِ جار مستمرّ، ينتهي حتماً في بحر الحلم/الهدف، رغم حاجته في هذه الحالة الأخيرة إلى وقتٍ طويلٍ وتبلور واضح للخطط والأهداف وإلى توفّر قيادة تستطيع الإمساك بخيوط التحوّلات ورؤية الفروع وتحويلها جميعها صوب المجرى الرئيسيّ للحركة ووضعها في خدمة ذلك المجرى. يلقي كاتب “الانفجار السوريّ الكبير” اللوم على هؤلاء الذين حاولوا قيادة ذلك الانفجار ولملمة شظاياه، رغم أنّه لا يشكّك بنوايا كثيرين منهم، لم يطمعوا في شيء سوى الوصول بحراكهم أو انفجارهم إلى دولة العدالة والديمقراطيّة، لكنّهم لم يعرفوا كيف، ولم تخدمهم في ذلك انتماءاتهم وشكل علاقتهم بالأجنبيّ، هذا إن لم نرد القول: إنّهم لم يستطيعوا نتيجة قصور ذاتيّ مزمن. 

د. منير شحود

طبعاً أنا لا أقول: تكفي قراءة عنوان الكتاب لمعرفة الجواب أو الأجوبة على الأسئلة المطروحة، ففي الكتاب من المواضيع والتشعّبات والسواقي الصغيرة الهامّة والممتعة، ما ملأ أكثر من مئة وستين صفحة. فالكتاب شهادة ضروريّة على لسان رجل متعلّم ومثقّف ويملك عصبيّة وطنيّة، قلّ نظيرها، بل هي حبّ يتألّق في عالميّته وإنسانيّته. هو شهادة من قلب المعركة السلميّة في تنسيقيّاتها ومظاهراتها التي استمرّت حوالي خمسة أشهر، أي من ربيع 2011 وحتّى بدايات خريف ذلك العام، يوم بدأت بعض من سمّت نفسها قيادات (فصائل أو أشخاص) التّفكير، بالتسلّح، رداً على عنف النظام، وكان ذلك ما يريده النظام وحلفاؤه أيضاً. ففي التفاصيل التي يقدّمها شاهدنا، الذي حضر الكثير من تلك المظاهرات والمؤتمرات والعديد من فعاليّات الاحتجاج السلميّ ومجالس العزاء في كلّ الأنحاء السوريّة، هي شهادة كنت دائماً أبحث عنها في غربتي، لأنّه لم يتح للكثيرين منّا خارج سوريا إمكانيّة معرفة حقيقة ما حصل، وحقيقة: من بدأ العسكرة فعلاً ومن بدأ إطلاق النار فعلاً؟ الكتاب محاولة جادّة في الإجابة على أسئلة من هذا النوع. كما تشرح بعض فصوله، التي سأستعرضها لاحقاً على لسان مؤلّفها، كيف سعت بعض قيادات المعارضة، وكانت يومئذٍ مازالت في الداخل السوريّ، إلى الحصول على المال الكافي من أجل التسليح، رغم أنّ ذلك المال لم يأت بالضّرورة من متبرّعين سوريّين.

كان استشهاد الكاتب بجملة للأسقف نسطور المرعشلي من القرن الرابع الميلاديّ: “يا ولدي، حياتنا مليئة بالآلام والآثام، أولئك الجهَّال أرادوا الخلاص من موروث القهر بالقهر، ومن ميراث الاضطهاد بالاضطهاد، وكنت أنت الضحيّة”، وكأنّه أراد أن يعطي هنا جواباً على سؤال: لماذا لم تؤدّ الانتفاضة السوريّة إلى أيّة نتيجة على مستويات تهديم بنى الاستبداد والانتصار عليه؟ والجواب واضح في مقولة ألأسقف السابقة: فاقد الشيء لا يعطيه. يعني إنّ التحوّل إلى العسكرة ومحاربة النظام على أسس طائفيّة لن تسمح للجيران والعالم بالتضامن معك. كان هناك جزء من الحراك الشعبيّ مستعداً منذ البدايات على التسلّح والدخول مع النظام في معركة، وكانت تساعده في ذلك عوامل عدّة:

  • عقيدته الدينيّة المؤدلجة والمسيّسة.
  • تربيته العنفيّة.
  • إيمانه بذئبيّة النظام ووحشيّته.
  • الدعم والأيادي الممدودة من بعض الدول العربيّة والإسلاميّة والدوليّة.
  • إيمانه بعدم توفّر إمكانيّة الانتصار السريع إلا بالسلاح (رغم تجربة سابقة فاشلة في بداية ثمانينيّات القرن الماضي).

       وَالتجربة الليبيّة والتحالف الدوليّ الذي ساند الميليشيات الإسلامويّة منها بكلّ قوّته العسكريّة، إلى جانب وعود قُدّمت يومئذٍ (من أصدقاء سوريّة)، كما كان يردّد البعض في الداخل السوريّ وفي خارجه، بأن جيوشاً عربيّة ستدخل وسيسقط النظام خلال الأشهر الستّة القادمة!

اختار النظام الحلّ العسكريّ في مواجهة الحراك السوريّ لأسباب عديدة ذكرها مؤلّف الكتاب، لكن ليس قبل محاولة النظام البائسة الإيحاء بأنّ الوضع السوريّ مختلفٌ كليّاً عمّا هو الوضع في الدول العربيّة الأخرى، التي طالها الربيع العربيّ يومذاك وأطاح بحكّامها في تونس ومصر وغيرها. وقد اختبأ النظام في شعاراته الواهية خلف مقولات الصمود والممانعة وعدم وجود استحقاقات تجيز التغيير أو تحتاجه. كما نوّه في دفاعه عن نفسه إلى ضرورة ضرب الإرهاب (بعد انضمامه إلى هذه المنظومة!) وإفشال المؤامرة الكونيّة، التي تستهدف توجّهه الوطنيّ العلمانيّ التقدميّ. وفوق هذا وذاك استغلّ النظام في فعلته لضرب الحراك “ومتابعة العبث في الواقع السوريّ وتأبيد حكمه للبلاد والعباد”، قدراته المتراكمة عبر أكثر من خمسين سنة في بناء دولته الأمنيّة العميقة، سنوات طويلة استغلّها في التغلغل في بنى الواقع السوريّ على كلّ الأصعدة واستغلال تناقضات ذلك الواقع العائليّة والعشائريّة والطّائفيّة والدينيّة والإثنيّة من أجل تأبيد بقائه على كرسيّ الحكم، فأصبح من الصعب رحيله من غير حصول انقسامات اجتماعيّة ودينيّة مرشّحة للتصادم والعنف، فور توفّر الظرف المواتي لها.

وقد توفر ظرف الصدام هذا، حسب رأي المؤلّف، بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فاشتعل الشارع السوري بحراك جريء مستمرّ لم تعرفه سوريّة من قبل، حراك سمّاه المؤلّف انتفاضة، قسّم تحوّلاتها ومساراتها إلى ثلاث مراحل (انظر تقديم الكتاب: الأنظمة الاستبداديّة، تعددت الأسباب والموت واحد، صفحة 9-10 في الكتاب):

  1. مرحلة التظاهر السلميّ، أو التي غلب عليها الطابع السلميّ والشعارات الوطنيّة الجامعة والتي كانت مرشّحة للتحوّل إلى ثورة شاملة على كامل الأراضي السوريّة.
  2. مرحلة خليطة امتزج فيها التظاهر السلميّ بالعسكرة من الجانبين، حين حاول الجيش الحرّ حماية المظاهرات من بطش النظام. امتدّت هذه المرحلة إلى منتصف 2012 ورافقها ارتفاع النغمة الطائفيّة، التي ترافقت مع تدّخل قنوات خارجيّة، وبدأت ملامح الحرب الأهليّة تعلن عن نفسها.
  3. مرحلة العسكرة الشاملة المقترنة بالتوجّه الطائفيّ والاعتماد على قوى الخارج ودخول مقاتلين وقوى أجنبيّة انقسمت هي بدورها إلى فريق يدعم النظام وفريق آخر يدعم فصائل المعارضة المسلّحة، ما خلق صراعا إقليميّاً واضحاً دخلت فيه السعوديّة وإيران وتركيا، وصراعاً دوليّاً بين أمريكا وروسيا كما هي العادة.

ما يهمّني الآن ذلك المفصل الذي لا يفصل، بل يربط بين المرحلتين الأولى و الثانية، السلّمية و الخليطة، لأنّ المرحلة الثالثة كانت تحصيل حاصل، باعتبار أنّ الجانبين المتصارعين في هذه المرحلة، يريدان حسماً عسكريّاً، كلّ لصالحه، مغيّبين كلّ فعاليّة سلميّة أو تصالحيّة وطنيّة ممكنة (إذا اعتبرنا المصالحات التي أجرتها وزارة المصالحة الوطنيّة السوريّة شكلاً من أشكال استسلام بعض قوى المعارضة مكرهاً لقوّات النظام)، ومهجّرين الكثير من السوريّين كارهي الحرب، ومدمّرين بذلك كلّ البنى التحتيّة السوريّة، منهيين عمليّاً أيّة إمكانيّة للتغيير صوب جديد أفضل، لا سيّما بعد أن سمحا للأجنبيّ الدخول واحتلال الأرض عسكريّاً.

من أجل توصيف ذلك المفصل الذي نقل الحراك إلى عسكرته، يجب علينا العودة إلى الفصل الأوّل في الكتاب “إرهاصات وتصدّعات”، حيث يذكر الكاتب أوائل الحراك، شباط وآذار 2011، في درعا ودمشق الحريقة، ثمّ تبنّي يوم الجمعة لتسيير المظاهرات التي خرج أغلبها من الجوامع، كونها المكان الوحيد في كلّ سوريّا، كان يسمح للناس التجمّع فيه. كما حوّلت المظاهرات شعارها “الله، سوريا، حريّة وبس” في هذه المرحلة إلى شعار”الشعب يريد إسقاط النظام”.

كانت السلطة تنظر إلى المتظاهرين، وإلى الشعب السوريّ كلّه، عبر عيون أدواتها الأمنيّة، فهو “شعب متخلّف، لن يستطيع مثقّفون سلميّون، كالكاتب وغيره، قيادته وإقناعه بالتظاهر. فالسوريّون لا يعرفون معنى الحريّة، بل إنّ المظاهرات الحقيقيّة سوف تنزل إلى الشّارع، ليس لأنّ الدولة فعلت ما فعلت بشعبها والوطن، بل لأنّ امرأة من غير حجاب مثلاً أو أخرى ترتدي فستاناً قصيراً نزلت إلى الشارع في بعض المناطق المحافظة دينيّاً.” كانت هذه الكلمات جزءاً ممّا ردّده ضابط أمن الدولة على مسامع الكاتب يوم استدعاه وطمأن نفسه أمامه: “إنّ الوضع في القبضة وتحت السيطرة”/ صفحة 15 في الكتاب.

هكذا كانت الدولة/النظام تفهم الناس، فشعبها السوريّ غير ناضج لممارسة ما يريده ولتحويل ما يطلقه من شعارات إلى واقع، وبالتالي لا يستحق هذا الذي ينادي به، وعليه البقاء ضمن بناه المتخلّفة، وتحت سيطرة الأمن ونعل البوط العسكريّ. لو أردت التعليق هنا على هذا الأمر، لقلت: لقد جهدت القوى التي بطشت بالحراك، داخل سوريا وخارجها، محليّة وإقليميّة ودوليّة، إلى دعم المتطرّفين عقائديّاً في الحراك وإلى تسليمهم زمام المبادرة زاجّين المعارضة كلّها وبكافة أشكالها ورموزها ضمن ذلك المفهوم وتاركينها تمارس ذلك الدور على عينك يا تاجر، فوقع المجتمع السوريّ كلّه بين مخالبها ولم تفرّق في عدائها للمجتمع بين سلميّ وعنيف أو بين شيوعيّ ودينيّ، إلاّ بمقدار خدمته لأهدافه التدميريّة. 

يروي الكاتب عن تلك الفترة (نهايات آذار 2011)، يوم بدأت وسائل الإعلام حديثها حول تدخّلات حزب الله و إيران في قمع احتجاجات درعا، و كيف بدأت وسائل إعلام النظام قصصها عن هدف المعارضة إنشاء إمارات إسلاميّة في سوريا، فيقول: “كلا الطرفين كان يكذب، لكنّهما كانا يتمنيّان حصول ما يتحدّثان عنه، أكثر ممّا يخافانه. في النهاية جاء الجهاديّون إلى سوريّا بمباركة من معظم أنصار الثورة (في المنطقة والعالم!)، ودخلت قوّات حزب الله لتقاتل إلى جانب النظام”/الفصل الثاني صفحة 21.

كما يسرد الكاتب باليوم والساعة الكيفيّات التي بدأت بها السلطة في قمع التظاهرات السلميّة (التي وصلت بحشودها الضخمة في حمص إلى ساحة الساعة وملأت في حماه شوارعها بمئات الألوف من البشر) ويتطرّق إلى كيفيّات نشوء قوّات التشبيح الطائفيّة وإلى دور الأمن في بثّ الرعب الطائفيّ بين الأحياء المختلفة مذهبيّاً في حمص: “كأن يثير (النظام) بإشاعاته الخوف والرعب في الحارات العلويّة من هجوم انتقاميّ مزعوم سيقوم به أهل السنّة من الحارات المجاورة، بعد قيامه هو بقتل ناشطين في تلك الحارات!”. 

في فصليّ الكتاب الثالث والرابع “من ذاكرة الحدث وزيارات أماكن التظاهر”، يوضّح الكاتب فشل محاولات النظام في تغيير شيء في جسده أو ممارساته، تلك التي كانت تصبّ الزيت على النار. فلم تؤثّر بعض محاولات تجميله لنفسه (تبديل بيادق الحكومة ببيادق جديدة، إعلان قانون تنظيم التظاهر، منح الأكراد الجنسيّة …) على الشارع الملتهب، ولم يَعد هناك من يثق بالنظام ووعوده. “لقد أراد الثائرون أفعالاً يلمسونها على الأرض، لا تلاعباً في نصوص الدستور. فما كان من النظام، بدءاً من أواخر نيسان 2011، إلا أن زجّ جيشه العقائديّ، الذي تهيمن عليه الأجهزة الأمنيّة، لتطويق المظاهرات وتفتيتها وإنهائها، رغم أنّ واجبه كان تقليد الجيش المصريّ في حماية التظاهرات على الأقلّ، لا إطلاق النار عليها. كانت تلك البداية محدودة وانتقائيّة، لكنّ عدد الضحايا ازداد، لأنّ النظام أراد بذلك قتل المتظاهرين متذرّعاً بوجود عناصر مسلّحة بينهم”/ الفصل الثالث ص46. 

ثمّ يتابع الكاتب: “لو بدأت مشاريع الإصلاح المزعومة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيّين السلميّين، بمن فيهم معتقلي التظاهرات الأخيرة، ومحاكمة من أطلق النار على المتظاهرين والجيش والسماح بالتظاهر السلميّ للمعارضين، مثلما سمح للمؤيّدين وحماهم حسب زعمه من العصابات المسلّحة التي تطلق النار على التظاهرات والأمن، لو حدث ذلك لكان منطلقاً يمكن البناء عليه، ولأفضى إلى عزل المتطرّفين من الجانبين.”/ فصل ثالث صفحة 42.

لم يخل أسلوب المؤلّف من شاعريّة ورقّة تعبير في بعض فقرات كتابه، كما في الفقرة التي سأنقلها لاحقاً، حين راح يعبّر بحماسه المعروف وروحه الطلقة واصفاً إحدى المظاهرات السلميّة في مدينة اللاذقيّة. لكنّه عاد وأعلن فيما بعد، كيف كان النظام يحبط مشاعر الناس الجميلة الحالمة بالحريّة مستخدماً نيران بواريده وشبيحته: “تقدمت المظاهرة حوالي عشرين امرأة وفتاة، رفعت إحداهنّ لافتة كتب عليها (شبابنا خطّ أحمر)، وحين حاذت المظاهرة منزل أحد أعضاء مجلس الشعب، الذي لا علاقة فيه للمضاف بالمضاف إليه، نعته المتظاهرون بالجبان، ومن إحدى الشرفات فتح شاب كيس أرز ونثر حبّاته على الحشد كمن يبذر أرضاً بكرا”/ صفحة 31.

هكذا كان الانتقال من السلميّ إلى العنف المعمّم إذن، فحين لم يستطع النظام في كلّ الإجراءات التي اتّخذها إيقاف تظاهرات الناس، وكان من بينها أيضاً تظاهرات المثقّفين التي خرجت في دمشق في تمّوز 2011، جاءت الأوامر، كما يبدو من مصادرها العليا، باستخدام كلّ الأدوات والأساليب في القضاء على الحراك بكافّة أشكاله. 

“قبيل منتصف تلك الليلة، فيما كنت أستعيد مشاعري بهدوء، سمعت أصوات طلقات نارٍ غزيرة قرب مكان الاعتصام. فهمت بأنّ الهدوء الحذر الذي عايشته في المكان كان أمراً عارضاً وحسب. في اليوم التالي، تعرّضت سيارتي للتخريب والرّش بالدهان، علاوة على الكتابات الاستفزازيّة، لقد بدأت المواجهة غير المتكافئة!”/ صفحة 32. 

منتقلين من شعار “الله سوريّا حريّة وبسّ” إلى “الله سوريّا بشّار وبسّ”، ثمّ إلى تطبيق شعار “الأسد أو نحرق البلد”، حاول الأمن والجيش ومن يساعدهم من شبّيحة ودفاع وطنيّ تطبيق شعارهم الجديد بكلّ ما أوتوا من قوّة، معتبرين أن الانتفاضة حركة سلفيّة يجب القضاء عليها بنفس طرق الاعتقال والعنف وحتّى القتل، التي استخدمت في بانياس. 

ثمّ يتابع المؤلّف مسهباً في وصف الحلّ الأمنيّ وطرائق تطبيقه، الذي “ترافق بالتركيز الإعلاميّ على بؤر التطرّف، ومحاولة اختزال المشكلة بصراعٍ مع (مجموعات إرهابيّة مسلّحة)، التي يمكن تبرير التعامل معها باستخدام الأسلحة المناسبة بناء على توصيفها العنفيّ العسكريّ. وقد ساعد النظام في ذلك لجوء بعض المتظاهرين إلى السلاح بحجّة حماية المظاهرات، وبدوافع إسلاميّة واضحة، لتتحوّل الانتفاضة، تدريجيّاً، إلى مجموعات مسلّحة يقودها أمراء حرب لا يخضعون إلاّ لمموّليهم، في وجه نظام يمتلك مؤسسّات الدولة وبقايا شرعيّة داخليّة وخارجيّة، ما مكّنه من حشد قوى لا بأس بها ضدّ معارضيه. وهكذا تسارعت خطوات الحلّ الأمنيّ في سباق مع الزمن، على أمل السيطرة على الاحتجاجات، في موازاة المزيد من الضغوط العربيّة والأجنبيّة.”

كما يصف الكتاب في نفس هذا الفصل حالة الجيش، الذي زجّ في حرب شوارع لا خبرة له بها ولم يُبن أو يدرّب للخوض فيها، فيقول: “أفضى زجّ الجيش في قمع التظاهرات، ولو بصورةٍ انتقائيّة حذرة، إلى مخاطر كبيرة على وظيفته وتماسكه، فكثرت الانشقاقات في صفوفه من دون أن تتحوّل إلى انشقاقات (كتليّة) ذات مغزى عسكريّ مهمّ. كما ساهم استخدام القوى غير النظاميّة على خلط الأوراق، باعتبار أنّ الغموض يشوب مرجعيّاتها وقياداتها، وبالتالي يمكن التنصّل رسميّاً من ممارساتها أو التزام الصمت حولها. وهكذا، شيئاً فشيئاً، صار من شبه المستحيل تراجع النظام أو معارضيه، بعد أن تشابكت الخيوط الإقليميّة في الواقع السوريّ الهشّ.”/ صفحة46.

مع ذلك لم تخل الساحة من “نشطاء سلميّين حاولوا التأكيد على الوجه السلميّ للحراك، رغم كلّ تلك التعقيدات والمشاكل، التي راكمها النظام الاستبداديّ خلال عقود طويلة، معبّرين بذلك عن نبلهم الوطنيّ. لكنّ الكاتب يعود ليقول: “غير أنّ استمرار القمع دفع بالقوى الأكثر جهلاً وتطرفاً لاحتلال واجهة الأحداث بقوّة السلاح”/ صفحة 47.

ينهي المؤلّف الفصل الرابع في الكتاب بالحادثة التاليّة “في أواخر شهر أيلول 2011، خلال زيارته للمنزل الذي كنت أسكنه، أخبرني أحد السياسيّين، الذي ادّعى أنّ له علاقة وثيقة بالحراك في ريف دمشق، مثله مثل الكثير من الشعبويّين والانتهازيّين، بأّنّ الأمر قد حسم فيما يتعلّق بخيار التسلّح، وأن المراهنة على حدوث انشقاقات في الجيش قد انتهت؛ لأنّ معظم قياداته من الطائفة العلويّة. كان كلامه قاطعاً، وبدا كلامه أشبه بإنذار أكثر من كونه نقاشاً أو استئناساً برأي، لذلك لم أنبس ببنت شفة. في الواقع، كان أمثال هؤلاء المعارضين يتمنّون حدوث ذلك ليتباكوا على شاشات التلفزة على “شعبهم”، في الوقت الذي بدؤوا فيه بحزم حقائبهم استعداداً للرحيل إلى أوروبا بمساعدة سفراء الدول الأوروبيّة المعتمدين في دمشق! شعرت بأنّ الثورة، أيّاً كانت المبرّرات، ستدخل مرحلةً جديدة أخطر من كل التوقّعات، وأذكر أنّني لم أنم تلك الليلة، فالحرب المفتوحة على كلّ الاحتمالات صارت قاب قوسين أو أدنى. منذئذٍ، بدا أنّ ثمة من يحاول ركوب الثورة واحتكارها من خلال العسكرة والشّحن الطائفيّ للشارع”/ صفحة 54.

إلى هنا وينتهي بحثي عن الجواب أو الأجوبة الممكنة على سؤالي وأسئلتي حول بداية الحراك وتحوّله إلى العنف. وقد حاولت أن أجعل من قراءتي المتواضعة قصّة أسردها بطريقة أدبيّة سياسيّة، فيها من الحركة ما يشجّع على قراءتها. فأنا في النّهاية لست سياسيّاً وقلّما أكتب في السياسة، إلاّ إذا تداخل الأمر بالأدب أو أعطاه محتوى أقوى وضروريّاً.

3 خاتمة

3-1 لا تأتي أهميّة كتاب الدكتور منير شحّود من معلومات أو أفكار أو محاولات تنظير منثورة هنا وهناك في هذا الفصل أو ذاك محاولةً دراسة بعض مناطق أو أقليّات دينيّة سوريّة أو متابعة أفكار أحزاب سياسيّة، بل في تلك الوقائع والتوصيفات التي قدّمها الكاتب عن الانتفاضة السوريّة بصفته شاهداً فاعلاً منذ بداياتها عام 2011، وعن مشاركة الطيف الأكبر للمجتمع المدنيّ السوريّ فيها، بأكثرياته وأقليّاته ومن ريفه ومدنه وداخله وخارجه، وحتّى بدايات التحوّل إلى الفصائليّة والتسليح والإسلامويّة في صفوفها، وإلى أن بدأت القيادات السياسيّة بالتسليح واستلام المال من مموّلين، لا يريدون سوى تخريب سوريّا. وحين اكتشف الأمر عن طريق صديقه (الإئتلافيّ لاحقاً) في دمشق، خرج الكاتب من تحالفاته الأولى، عاد إلى منزله في اللاذقيّة، وراح يفكّر في طرائق عمل وتدخّل جديدة في محاولة شبه يائسة من أجل المساعدة في الإبقاء على الزخم الشعبيّ المدنيّ للحراك ومحاولة منعه من الوقوع في العنف والطائفيّة: كالمشاركات في تجمهرات العزاء في مناطق ساخنة تحمل بعض فئاتها نزعات طائفيّة، أو مشاركة المؤلف في مسائل الإغاثة للمهجّرين في المنطقة التي يسكن فيها، أو المشاركة في مؤتمرات داخل و خارج سوريا و البحث عن مخرج للأزمة التي طالت. لقد كانت حاله كحال كلّ سوريّ مسالمٍ يحبّ سوريّا كلّها وكما هي زاهية بألوانها، لا يعرف الحقد، يكره السلاح ولا يؤمن بالعنف. لكنّ النظام وشبّيحته من جهة والفصائل الطائفيّة المسلّحة من جهة أخرى كانت تقف لمثل هؤلاء العقلاء دائماً بالمرصاد. وإلاّ، كيف نفسّر اختطاف قوى أمن النظام لمناضل سلميّ مثل الدكتور عبد العزيز الخيّر، أو قيام قوى ظلاميّة باختطاف المناضلة المحامية رزان زيتونة ورفاقها في الغوطة؟  

3-2 لم يأت قرار فصل الدكتور منير شحّود من الجامعات الحكوميّة والخاصّة السوريّة إلاّ ضمن التخريب الممنهج والمستمرّ للوطن السوريّ، وضمن محاولات “إفساد ما لم يفسد بعد”، حسب مقولة الدكتور المرحوم طيّب تيزيني. فالبروفيسور شحّود أستاذ تشريح مشهود له في كلّيات الطبّ داخل الوطن وخارجه، ومعروف بقدراته وإخلاصه ومحبّته لعمله ولمن يعمل معه من مساعدين وطلاّب ودارسين وباحثين. لم يأت فصله عام 2006، كما تشهد الوثائق المنشورة والمعلنة، نتيجة خطأ علميّ أو مهنيّ أو نقابيّ ارتكبه، بل جاء فصله كالعادة بقرار أمنيّ غبيّ، قرار يحاسب المواطن المسالم على رأيه السياسيّ أو تصرّفه الاجتماعيّ أو كلمة قالها، رغم وطنيّته وحرصه على ما بقي من الوطن.

هل عليّ الآن تهنئة أعداء سوريّا على مثل هذه القرارات ومتّخذيها؟ أنا في الحقيقة أحسد أعداءنا علينا، أحسدهم على ما نقدّمه لهم من نعم وهدايا. فماذا يريد أعداء سوريّا أكثر من إبعاد المخلصين المثقّفين الوطنيّين الحريصين على الوطن وأهله أو تهجيرهم أو إيداعهم السجون وتعذيبهم؟ لم يكن منير شحّود الأولّ في هذا الطابور الطويل، ولن يكون آخر من سيفصل من وظيفته ويمنع من خدمة وطنه. لو أراد سرقة ذلك الوطن، كما فعل معظم قياديّي سوريّا منذ عشرات السنين، لما منعه أحد أو حاسبه أو فصله من وظيفته. أرادت السلطة التي فصلته منعه من تحسين مناهج الجامعات ربّما، وكانت ستصفّق له بالتأكيد، لو شوّهها بالشعارات والكذب. لقد أراد الذي فصله منعه، بالعنف والقمع، من المساهمة في النهوض بمجتمعه سلميّاً، سلاحه الكلمة والعلم والفكر، فالدكتور منير شحوّد ليس من أولئك الباحثين عن سلطة أو منصب بأيّ ثمن، ولو كان كذلك، لما وجدناه اليوم حيث هو.

أنا حزين على سوريا. فمن يقتل الكفاءات فيها ويسجنها أو يبعدها بشكل ممنهج مدروس أو فوضويّ عقائديّ متخلّف هو حاكمها وعدوّها في آن معاً، ولا يمكن وصفه بغير ذلك. مع ذلك يخطر في بالي أحياناً، أن أقول شكراً لهذا العته العقليّ للأنظمة التي تحكمنا، فقد أهدتنا في الدكتور منير شحّود مفكّراً وباحثاً وأديباً من الطراز الأوّل، ونحن، طلاّباً وجامعات وأساتذة وأصدقاء، نرجو منه مساهمات كثيرة قادمة، لكي نتابع دروسنا عنده، ولو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ والجرائد الإلكترونيّة. فهو مازال في سوريّا رغم البلاء الذي حلّ به وبالوطن، بل مازال يكتب ويترجم لنا ونقرؤه كثيراً، مازال يعمل ويكافح بوسائله البسيطة المتقشّفة كنبيّ من أجل الاستمرار، محاولاً دائماً رتق جروحه وجروح سوريّا، بل رتق جروح الحياة من حوله، وإبقاءها، رغم جولات الباطل، على قيد الحياة.

وسوريّة الحياة ستبقى وتستمرّ، فقد قرأت قبل أيّام قليلة ما كتبه الدكتور شحّود في “مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، تحت عنوان “سوريّة المتحضّرة إلى أين؟”. ما أريد أن أختم به الآن مقالتي: “في هذه الأثناء، تدخل سوريّة مرحلةً جديدة تطوي من خلالها حالات الانقسام والتراشق الإعلاميّ زمن الحرب، وينزوي، ربّما إلى غير رجعة، أولئك الذين لعبوا على أوتار الانقسامات الطائفيّة والعرقيّة، ولو أن تحقيق ذلك على نحوٍ حاسم ونهائيّ، يحتاج إلى البدء بالعمليّة السياسيّة وتحقيق الحدّ الأدنى من العدالة الانتقاليّة. كما تزداد درجة التعبير عن الرأي في الأوساط الشعبيّة العريضة والميل إلى تسمية الأمور بمسميّاتها، وسط ارتباك متزايد في المنظومة الحاكمة، إذ يقف “حرّاس الهيكل” غير عارفين، ما الذي ينبغي فعله بالضبط: أما يزال القمع العاري وسيلة ناجعة أم أنّه سيعني سحب البساط من تحت أقدامهم إلى غير رجعة؟”.

*****

1- كتاب “الانفجار السوريّ الكبير: الحريّة والكرامة بين مخالب المفترسين”

دار ميسلون للطباعة و النشر و التوزيع، تركيّا 2018

والكاتب الدكتور منير شحود يُعّرف بأنّه طبيب، من مواليد دريكيش- طرطوس- سوريّة 1958، يحمل دكتوراه في الطّب من جامعة دمشق، ودكتوراه فلسفة في الطّب عام 1989 من سانت بطرسبورغ الروسيّة/ اختصاص تشريح الإنسان. عمل الدكتور شحّود مدرّساً في عدّة جامعات سوريّة وعربيّة، كما ألّف وترجم العديد من الكتب العلميّة والثقافيّة. تعرّفه بعض الصحف التي كتب فيها مثل “الناس نيوز”، بأنّه أستاذ جامعيّ سابق، ممنوع من التعليم بتهمة ربيع دمشق.

شارك الدكتور منير شحود بشكل فعّال في فعّاليّات ومسير الانتفاضة السوريّة منذ بداياتها الأولى وحاول التأثير في وقائعها اليوميّة السلميّة على الأرض خلال مراحل نشوئها وتطوّرها وتوسّعها. ثمّ تابع نشاطه السلميّ إلى ما بعد تدخل الجيش النظاميّ السوري في قمعها وبدء تحوّل بعض أطراف المعارضة إلى التسليح والأسلمة والعسكرة. كرّس الدكتور شحّود، قبل الانتفاضة وخلالها، جزءاً كبيراً من وقته وحياته للمشاركة في النضال من أجل سوريّة ديمقراطيّة، ولم يبتعد يوماً عن الحراك الذي يبغي التغيير الحقيقيّ، لا تغيير الأشخاص فقط، بل تغيير الإنسان والعقل الجمعيّ السوريّ والواقع السوريّ على كافّة الأصعدة، ذلك من خلال مجاله العلميّ وتدريسه في الجامعات والكتابة والتأليف والمقالات والتواصل مع كلّ الفعاليّات والنشاطات والمؤتمرات التي لها أن تطوّر جسد وديناميكيّة الحراك إيجابيّاً وتنتشله من الطائفيّة والعنف والقتل.

يعتبر موضوعنا اليوم “الانفجار السوريّ الكبير، الحريّة والكرامة بين مخالب المفترسين”، الصادر عن دار ميسلون 2018، من أعمال الدكتور شحّود المهمّة، التي أرادت تعريفنا بالوقائع وتفاصيلها وبسبع سنوات من مسار انتفاضة تحوّلت في سنواتها اللاحقة إلى حرب “أكلت الأخضر واليابس”، مثلما يعبّر السوريّون. كما أراد الكاتب مشكوراً أن يرينا حركة فعل ذلك الحراك في الواقع السوريّ وتأثيرات تلك الحركة، داخل الوطن وخارجه، تأثيرها على الإنسان ودينامية فعل القوى السيّاسيّة والمجتمعيّة إيجابيّاً وسلبيّاً في توجّهها صوب تغيير سياسيّ حتميّ في نهايته.

2- د. وحيد نادر

الدكتور وحيد نادر شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعيّ من أصل سوريّ يعيش في ألمانيا منذ 1984، حاصل على جائزة الشّعر للجامعات السورية عام 1978، وجائزة معهد غوته للترجمة الاحترافيّة عام 2012، وهو عضو في اتحاد الكتّاب الألمان وفي رابطة الكتّاب السوريين، يكتب باللغتين العربيّة والألمانيّة.

لوحيد نادر ديوانا شعرٍ بالعربيّة:

  • الأول بعنوان “كيف سأنفق هذا الجوع” الصادر عام 1984 بالتعاون مع اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق،
  • والثاني بعنوان “الحمد للربّ، لم يلد وخلّف لي حبيبي” الصادر عن دار التوحيديّ في حمص عام 2000.

كما صدر له بدعم من وزارة الثقافة في ولاية ساكسونيا أنهالت ديوانان شعريّان باللغة الألمانيّة عن دار “هانز شيلر” في برلين:

  • الأول عام 2010 بعنوان “نجوم ليلٍ سكران”
  • الثاني عام 2019 بعنوان “احتراق الريحانة”.

للشاعر العديد من القصائد والترجمات والمقالات المنشورة في الصحف والدوريّات العربية والألمانيّة، كما ترجمت قصائده إلى لغات أخرى مثل الأرمنيّة والصربيّة وغيرهما. أمّا مساهماته في مجال الترجمة فكثيرة، فقد ترجم العديد من الروايات والدواوين الشعريّة وكتب الأطفال من الألمانيّة إلى العربية، نذكر منها على سبيل المثال: “أرجوحة النفس” و “الملك ينحني ليقتل” للكاتبة العالميّة هيرتا موللر، و “بحر بنطس” لدانييلا دانتس و “مساجلات” للنمساويّ إيريش فريد و”لن تموتي” لكاترين شميدت وَ “برلين تقع في الشرق” للكتابة الألمانيّة من أصل روسيّ نيليا فيريميه. ترجم وحيد نادر العديد من الشعراء والروائيين العرب إلى الألمانيّة ونشر ترجماتهم في ألمانيا.