اسراء عرفات: الذكاء الاصطناعي وفرضية موت الأدب 

0

يُورد ممدوح عدوان في كتابه “هواجس الشعر” مقالة تحت عنوان “الشعر والكمبيوتر”، وهي مقالة يتحدّث فيها عن تلك الهواجس التي تُصيب المشتغلين في حقول الثقافة عمومًا، والمهتمين بالشعر خصوصًا، مع كل تطوّر تكنولوجي يشهدونه، فتصيبهم جراءه المخاوف على الشِعر ومصيره، ويورِد عدوان عن ذلك: “فكلّما تحقّق إنجاز علمي جديد، أو حدث دراماتيكي مرتكز على التكنولوجيا، تصاعدت عندنا، وربّما عند غيرنا، أصوات تعلن موت الشعر، وتدعو إلى دفنه أو تأبينه، وكلّما كان الإنجاز العلمي مصحوبًا بضجة أعلى كانت الأصوات المؤبنة أكثر ثقة بما تفعل”.

وحول المرة الأولى التي تمّ فيها إعلان موت الشِعر بسبب إحدى التطوّرات والاكتشافات التكنولوجية يقول عدوان: “تمّ الإعلان عن موت الشعر أول مرة في أواخر الستينيات، وذلك عندما تبيّن أن القمر عبارة عن تربة صخرية، وليسَ نورًا أو هلامًا كما يراه العشاق والشعراء”.

عدوان يؤكّد في قوله السابق على أنّ حادثة هبوط أول مركبة فضائية مأهولة على القمر في الستينيات، قد هدّدت بزوال النظرة الشِعرية الرومانسية إليه، فالوصول إليه والقرب منه واكتشافه على حقيقته كتربة صخرية، شكّل هاجسًا عند الكثير من الشعراء، من أنّ القمر لم يعد يَصلح موضوعًا للتغني بعد أن انكشفت حقيقته للناس.

ويُضيف عدوان بأنّ هذا الأمر دفع بالعديد من المشتغلين في حقول الثقافة إلى إعلان أنّ التطوّر التكنولوجي، وبسبب سلسلة الانكشافات التي سيُحدثها في الأشياء من حولنا، فإنّه سيُهدّد النظرة المجازية الرومانسية إلى العالم، وهي النظرة التي يرتكز إليها الشعراء في نسج الأشعار وصياغة التشبيهات والاستعارات، وهو ما سيقود شيئًا فشيئًا إلى موت الشعر وفنائه.

يُكمل عدوان في مقالته السابقة ويقول بأنّ هذا الهاجس بموت الشِعر لم يكن في محله لا في المرة الأولى ولا في المرات التي تبعتها، وكانت نتيجة تتابع التطوّرات التكنولوجية، فقد استمرّ الشعراء بتشبيه حبيباتهم بالقمر، واستمرّ الشِعر في التوالد والحياة.

ويُمكنني أن أقول بأنّ هاجس موت الشعر الذي ذكره عدوان في مقالته، هو الهاجس الذي أصابني بعد الضجة الأخيرة الذي ثارت حول الذكاء الاصطناعي وآلياته في نسج وكتابة الأدب، حيثُ سألتُ نفسي: هل يُعقل أن يكون تطوّر آليات هذا الذكاء إيذانًا بموت الأدب كفعل كتابي بشري يُقدم عليه إنسان من لحم ودم؟ وهل يُعقل أن يتمكّن هذا الذكاء يومًا من الوصول بكتابة الأدب -على اختلاف أشكاله- إلى مستوى البشر من حيث الجودة والإتقان؟

وفي إطار إجابتي عن الأسئلة السابقة، عدتُ إلى مقالة عدوان، وحاولتُ العثور على إجابات تتجاوز خصوصية الشِعر إلى عمومية الأدب، ويُمكن أخذها على نحو تَعميمي، فعثرتُ على قول لعدوان يُورد فيه: “ولكنّ هل سيكتب الكومبيوتر شعرًا بالفعل؟ وجوابي هو: حتمًا لا. ولن يرسم أيضًا. ولن يؤلّف الموسيقى. فالكومبيوتر يعرف ولا يؤلّف. ويقيم تشكيلات خطية ولا يرسم. وأفعاله هذه تنفيذات وليست ابتكارات. والفنّ ابتكار، فالكمبيوتر نفسه ابتكار، ولكنّه لا يقدم ابتكارًا، إنه يقدم ما يُشبه الفنّ. ولكنه لا يُقدم فنًّا”.

فعدوان يَستبطن في حديثه السابق إشارة إلى آليات الذكاء الاصطناعي، نافيًا عنها القدرة على ابتكار الفنّ عمومًا، فهي بما تتضمن عليه من أوامر مخزنة وبرمجيات، فإنّ ما تقوم به في تأليف الموسيقى أو كتابة الأدب أو الرسم هو أقرب إلى التنفيذ منه إلى الابتكار، لأنَه يستند إلى معرفة سابقة وموجودة مخزنة فيه.

قد يقول البعض بأنّ العقل الإنساني يُشبه عقل الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، فهو أيضًا يقوم بإنتاج الفنّ والإبداع مستندًا إلى معارف سابقة مخزنة فيه، ويُمكن استلهام كلام عدوان في تفنيد هذا الادعاء، بالقول أنّ الفن ينبع من الانفعال الإنساني، ومهما بلغ حجم الذكاء الاصطناعي فإنّه لن يستطيع أن يبلغ هذا الانفعال، فهذه الحقيقة تنفي عن عَقل الذكاء الاصطناعي مهما بَلغت قدراته إمكانية بلوغ مستويات الخَلْق الفنّي الإنساني.

حقيقة عجز الذكاء الاصطناعي عن بلوغ مستويات الخَلْق الفنّي الإنساني، تتأكّد في نطاق الأدب والكتابة الإبداعية على وجه التحديد، وذلك لأنّ الكتابة الإبداعية -باستلهام عدوان أيضًا- تنطلق من رؤية خاصة يراها المبدع في العالم، ويستخدم ليصفها لغة قادمة من مناطق لاواعية أحيانًا، في حين أنّ الذكاء الاصطناعي ينطلق في الكتابة مُقتصرًا على رؤية رياضية عامة تمّتْ برمجته على أساسها، حيثُ يستخدم لغة واعية ومخزنة في عقله الآلي.

*الترا صوت