توقفتْ طويلاً أمام المشهد:
على مد بصرها رأتها هناك، مسجاةً على ظهرها، منتفخة، ترفع قدمها تجاه السَّماء.
فارت ضحكةٌ حارقةٌ انطلقت من أعماقها، سريعاً استبدلتها بشهقةَ الخوف..
تراجعت بدوار لفَّها لفاً، نزّت حباتُ العرق على جسدها وهي ترى جيف النعاج.
تنهَّدت بعمقٍ، نظرت فوجدت الموت ماثلاً في الصحراء الواسعة بلا رائحة.
التفتت تجاه الخيام البعيدة، تذكرت جملة والدها:
“حلالنا وكيفنا فيه”.
قالها غاضباً حين طلب إِلَيْهِ الجياعُ نحر ذبائحه لهم.
فكرت بالبيداء التي تمتص الكلمات ولا تغفر أبداً.
**
تَذكُر جيداً … رحلتهم الرهيبة التي تساقط بها أخوتها الأجمل.
تَذْكُر جيداً … وصولهم، وقوفهم أمام النّهر الرّاكد، الغامض، الغاضب حين وُلوجِهِ، لفظ ثلاثةً من أخوتها الأقوى تباعاً جثثاً مفرغة العيون.
تَذْكُر جيداً … والدها في غيبوبة مشادات مع أخوتها الموتى، لثلاثِ ليالٍ، ينطق باسم أحدهم فيحضر في الحلم ويجادلُهُ. صباح اليوم الرابع استيقظ مترنحاً، اختار الأحب إليه غائصاً بالنَّهر العكر.
**
غاب القربان في النهر … ولم يظهر لليلة كاملة.
غاب … ولم يجزع والدها.
غاب … لتطلع نعجة مبللة، حدق والدها بعطية النهر، احتضنها، وأمرهم برحيل متعجل.
**
كلما دخلت وجدتهم يأكلون من النعجة النَّيِّئة، التي لا ينضب لحمها ولا ينتن، وتعود مكتملة في اليوم اللاحق.
كلما مروا بقرب قافلة، تلحقهم بعد ليالٍ نعجةٌ أخرى.
كلما أسرعوا لديارهم وجدت والدها يقوى ويشتدُّ عود ثروته، هو الضَّعيف، المكلوم بفقره.
**
همست لوالدها:
للنِّعاج عينٌ ماكرة.
همس لها:
اصمتي يا ابنة الـ….
تعرف أنه لا ينسى عشقه الوحيد، امرأته التي أذابها حبُّها لديارها، فدفعت إليه ابنته وفارقته، لذا تعلم مبلغ ضيقه بنعتها بكنية العدنية، فتوصد بإحكام باب الحديث.
أتته مجددا في الحلم بعد حوارهما بأيام، طلبت:
أريد أن أقيم خيمتي بعيداً.
وما رفض.
ليسود الخرس بينهما.
**
تكبر وتدركُ أنَّ عزلتها صحوتها،
تكبر وترى أباها وأخوتها فتياناً لا يشيخون.
تكبر وتعرف أن الجياع، كلما رَجوهم كان لوالدها الرأيُ الفصلُ في العطايا ومَنْعِها.
**
تقادمت السُّنون، ازداد جشعاً وكسلاً وشباباً، وأصبحت عجوزاً تنظر إلى المشهد الذي يتكرر منذ ثلاثة أيام:
جيف نعاج كثيرة بلا رائحة، تُسدد نظرها إلى السماء، بأعداد مهولة.
في اليوم الرابع:
ازداد المشهد تعقيداً، إذ رأت النعجة الأولى ممددة أمام خيمتها.
تراه يقترب حثيثاً، يصل لاهثاً، لم يتغير مطلقاً، أبوها الذي بدأ الرحلة عندما أسرّ له أحد العارفين بوجود النهر المخبوء قبل أن يلفظ أنفاسه، أخذهم في رحلة المصير وخسر بعض الأبناء كاسباً الغنى الذي لا ينتهي.
ساهماً سألها:
_ماذا نفعل؟
نظرت إليه صامتة
ملتفتاً إلى المشهد، قال لها:
ألن تسامحي؟
تهاجمُها آلام التَّذكر:
تجدها في رحلتهم، بعد لياليه الثلاثة، عارفاً بضرورة تقديم ابنه الأحب قرباناً، لم يرغب بموته. أحضرها، قصَّ شعرها، ألبسها ملابس الرجال، احتضنها، ودفعها إلى النهر، هكذا بعد ليلة عادت مع النَّعجة، ورحلوا سريعاً، لم يدرك أن النهر أمهله معجباً بجسارة خطته، فردّ له جثتها وأضاف الأعطية وانتظر…
كان نهراً آسن القلب، يكره أبناء التراب، وما كانت النعجة إلا الخبث كله.
**
وحده والدها كان يراها، تخرج من قبرها تحادث أخوتها الموتى، يقترب يخرسون ولا تُحدِّثُه عن خديعته…
اليوم وهو يسعى إليها طالباً الحل إزاء اقتتال ما بقي من أبنائه، توقفت طويلاً أمام المشهد:
رأت النعجات، والنعجة الأولى أعطية النهر ترمقها بعين منافقة.
بالبداية، شعرت بضحكة ساخرة، حارقة، تنطلق من أعماقها، سريعاً استبدلتها بشهقة الخوف…
لتجيبه:
اجمع نعاجك الضّالة يا أبتِ، وارِ جيفتها…
بعد أيام قلائل شق نهر أسود الصحارى، واهباً العطايا بعين ماكرة.
*المصدر: موقع الكتابة