يهدف هذا المقال إلى تحفيز ذلك النوع الراقي من الحوارات والنقد لاستغلال هذا الاتساع اللانهائي للفضاء الإلكتروني الأزرق، لطرح آراء ذات معنى وقيمة في زمن تتراجع فيه كثير من وسائل الإعلام، ويعلن كثير منها انحيازه الفاضح للرواية الصهيونية والأنظمة الاستبدادية وتعميم الضحالة.
لكن وسائل التواصل الاجتماعي نفسها باتت تغصّ بكثير ممن مهمتهم الرئيسية قائمة فيما يمكن أن ندعوه (اصطياد البطولات). وهؤلاء أصناف كثيرة، منهم من يبحث عن ضحايا دسمة؛ كلما عثر عليها ضاعف بطولته وتمتع بفنجان قهوته أكثر أمام الشاشة التي لا يتقن القتال إلا عبرها، ومنهم أولئك الذين يكتبون قبل أن يفكروا، مستندين إلى ثقافة الببغاء، وهي ظاهرة منتشرة، ومنهم أولئك الحديديون الذين لا ينقصهم «الوعي»، ولكنه الوعي باتجاه واحد، وفكر مصمت، وغالباً يتمتع هؤلاء بقدر من العُصابية العالية. ثم هناك بلا شك، الذين لم يعد وجودهم من باب نظرية المؤامرة، لأن العالم يعرف أن الاستخبارات العالمية، ومنها العربية والإسرائيلية والدولية، لديها وحدات إلكترونية وظيفتها الأساسية نشر البلبلة والآراء التخوينية الأكثر عنفاً، التي يقصد من خلالها نشر صورة متفسخة لمجتمع ما، تمزقه الكراهية الطائفية والدينية والعصبية، أو التشكيك في كل شخص لا يستطيعون شراءه أو محوه، أو حتى هجاء الرائعين الراحلين، لكسر رمزيتهم بالدرجة الأولى.
كل هؤلاء وغيرهم لا يفتنهم شيء أكثر من «الغضب عليهم»، إنهم صيادو الغضب أيضاً. ولكل من له علاقة بالشأن العام ويملك صفحة في الفضاء الأزرق، سيصطدم بكثير من هؤلاء، وللحق، إن لبعضهم فرصاً جيدة في مجال نيل الشهرة استناداً إلى اللا شيء.
قد يخرج واحد أو واحدة ويغمر أطراف الأرض نواحاً لأن جملة من خاطرةٍ له، لا وزن لها، تسللت إلى عمل كاتب محترم، فيقيم الدنيا ولا يقعدها (لأنه لا يقعد بعد إشعال فتيل المعركة أبداً)، وهنا قد تجد عشرات المؤيدين له الذين، بوعي أو بلا وعي، وبقراءة للنص أو بلا قراءة له، يهبّون لنصرته؛ بالتأكيد، هؤلاء لا ينتمون لقبيلة غَزِيَّة التي تحدث عنها الشاعر القديم، بل ينتمون إلى ضحالة كونية بات في استطاعتها أن ترص صفوفها وتدفع جيوشها لفضاء المعارك الوهمية. وهؤلاء، الذين يتبعهم كثير من الضّالين، مستعدون لنفي الكِتاب الحقيقي وهجائه، وهجاء صاحبه من أجل خاطرة أو مطبوع أفضل ما فيه أنه كان مصدر رزق لصاحب مطبعة أو ناشر شَرِهٍ، ولكنه كان بالمقابل أسوأ سبب لإعدام عدة أشجار وتهجير رفوف من الطيور لصناعة ما يلزم من ورق ليكون هذا المطبوع.
اللافت في الأمر، أن أبناء غَزِيّة، في عصرنا هذا، يُشعلُ عصبيتَهم في كثير من الأحيان نقاد من المفترض أن يكونوا محترمين؛ إذ يطل علينا ناقد يحمل الدرجة العلمية الأعلى مستنداً فيما ينشره إلى دراسة لم يقرأها، ولا وجود لاسم مَن كتبها، ولا اسم المكان الذي نُشرتْ فيه، ولا تاريخ النشر، ويعتبرها مرجعاً موثوقاً لما يتقيؤه على صفحته. أو يُطل ناقد ليُعلّق على صورة شخصية عادية، بصورة بذيئة، واثقاً أن تعليقه هو فتح نقدي جديد!
في عالم من هذا النوع لا يَقرأ أكثر من السطر الأول، أو لا يَسمع غير الجملة الأولى ويكتفي بها دليلاً دامغاً، يتبدى بوضوح عري الوعي العام بصورة تدعو للفزع، وهذا لا يشمل فقط أسرى المواقع، بل يمتد إلى ما بعدهم.
ويمكن أن أقترب من التجربة الملموسة أكثر، فأقول إن مقالاً رائعاً كتبه ناقد سينمائي يقارن فيه بين رواية وفيلم شهير، وطريقة رؤيتهما للعالم، وهو هنا يحترم الطّرحين فيهما، لذا، وضعهما في مرتبة واحدة، إلا أن صحفياً يسأل السينمائي: كثير من الناس يتحدثون عن سرقة أفكار فيلمك من الرواية الفلانية، فبماذا ترد؟!
مشكلة كبيرة هذا العمى، الذي يولِّد ظلاماً أوسع لدى هذا النمط من «المتصفّحين»، وهي كلمة في الحقيقة مناسبة لوصفهم، لأنها تحرمهم من صفة «قراء». كل من يقرأ سؤال الصحافي النبيه من هؤلاء، سيصبح على قناعة من أن السينمائي سارق، وسيكتفي بالسؤال، ناصباً مقصلة الإعدام للإجابة التي لن يقرأها.
ونعود للمتصفِّحين.
ينشر شاعر معروف قصيدة، فينشر شخص يؤمن أصدقاؤه بعبقريته «قصيدةً» تحت القصيدة الأولى ليثبت أنها قصيدة مسروقة من قصيدته، وحين يضيف الشاعر عام كتابتها، يحذف الثاني «قصيدته»: لأن القصيدة الأولى كُتِبت ونُشرت فعلاً، قبل أن يولد ذلك المُتصفِّح.
على الأقل هنا بعض الخجل، وإن كان الجهل والغرور هما مَن شَقَّا الطريق لتصرف كهذا.
كل هؤلاء يريدون أن يصلوا إلى ذلك الحد الذي يجعل البشر يغضبون، وليس هذا في مجال الكتابة وحسب، بل في كل مجال إبداعي، فالغضب يعني الردّ، والردّ هو شهرتهم، فصفحاتهم الفقيرة متابعة ومعنى، لا تكفي لإيصال أصواتهم، ولذا يحتاجون إلى آخر وسيط يحمل فيروسات أمراضهم، وينقلها إلى صفحته لتنتشر كما تنتشر الأوبئة في زماننا وغير زماننا.
ذات يوم، كان ثمة نمط آخر من الخلاف، يولّد حوارات غنية بين أسماء مرموقة، لكن ذلك اختفى تماماً، أو يكاد. وليس منذ اليوم، بل منذ زمن طويل.
يردّ الإنسان على مقال ما في الحالات الرّاقية للحوار، كما كان شاعر محترم يُعارض قصيدة كبيرة بقصيدة كبيرة، لكن الردّ يصبح مستحيلاً، حين يكون متعلّقاً بصورة شخصية ومقال لا يستند إلى أي شيء، أو جملة تكرّرت عند اثنين، يمكن أن تجدها لو بحثتَ عنها في مائة كتاب في هذا العالم، أو مقال يتعامل معه كاتبه أو كاتبته وكأن ما ورد ما فيه «دِيْن».
كل هذه الأنماط تبحث عن وكر غضبكَ لكي تستثيره، فليس ثمة أجمل من عش الدبابير بالنسبة إليها، لأنها ببساطة لم تعرف بعد أن هناك عسلاً، في هذه الأرض، موجوداً في مكان آخر..
ليس ثمة أفضل من عش الدبابير لأولئك الذين لا يدركون المكان الذي يوجد فيه العسل.
وبعد:
في واقع تصفّحيّ شديد الانتشار، وواقع مريض لم تُختَرع الأمصال اللازمة لعلاجه، يبدو الردّ على هؤلاء أشبه بعطاس مصاب بالكورونا وسط حشد من البشر، إذ إن كل ما سيفعله الرد عليهم هو أنه سينشر وباءهم أكثر، وفي حالات كثيرة لا يفعل هذا العطاس شيئاً غير أنه يقوّي مناعتهم.
*القدس العربي