كنا ثلاثة، قرأنا غسان كنفاني في الوقت نفسه تقريبًا، لكننا قرأناه في ثلاثة أماكن مختلفة، واحد قرأه في الكويت، قاسم؛ وواحد في السعودية، المنطقة الشرقية، مدينة الخُبَر، فؤاد؛ وواحد في عمّان، في معهد المعلمين، هو أنا، وإن كان من الصعب عليَّ أن أقول إنني قرأته حقًّا في المعهد، لأنني لم أقرأ إلا بعض قصصه القصيرة. بعد عام سأقرأه في المكان الذي يكون فيه لكتب غسان مفعول مختلف؛ الصحراء أيضًا، لكن في المنطقة الغربية من السعودية.
كلنا بُهرنا بغسان، إلى ذلك الحدّ الذي ترك فينا آثارًا متباينة جدًا: أحبّه فؤاد إلى درجة أنه قرر أن يواصل حياته قارئًا وحسب، ولم يمنع نفسه، وهو الرافض لأي إطار، من أن ينتمي إلى الجبهة الشعبية التي انتمى إليها غسان. لكن فؤاد، فيما بعد، راح يطرح عليّ بعد أفكاره المجنونة لأكتبها؛ أفكار روايات يكفي أحد فصولها لقتلي عشر مرات! كان محبًّا للعالم غاضبًا عليه، لأنه لن يستطيع أن يراه كلّه، هو الذي لا يستطيع أن يشبع حين يتعلّق الأمر بالجمال.
نهر الأفكار المتدفّق منه جعلني على يقين من أن فؤاد لم يكن صادقًا معنا حينما تشبث بالقراءة كخيار، بل كان يخشى الكتابة نفسها.
بعد سنوات سيصدق ظنّي وأنا أسمعه يبوح: «بالنسبة إلي الكتابة معجزة، شكل من أشكال السِّحر، لا يجوز لنا أن نجرّحها بكتب أقلّ من عَظَمَتِها».
قاسم، تفتّحتْ فيه مبكِّرًا موهبة الناقد، ولم يمِلْ للكتابة، لأنه كما قال لي بعد عشرين سنة: هل لاحظت أن معظم الكتّاب يبدأون حياتهم بكتابة تجاربهم أو جزءًا منها، حتى أنتَ! بالنسبة إليّ لستُ مستعدًّا لأن أعيش في الكتابة، مرة ثانية، ما عشته حقيقة! لماذا؟ لأنني لست من هواة التلذّذ بأحزان كان عليّ أن أفعل المستحيل للخروج من بحرها.
– اكتبْ عن أشياء لم تعشها إذًا؟
– أن تكتب عن أشياء لم تعشها، أنت الذي عشتَ ما عشتَ، فمعنى ذلك أنك تخون حياتك التي جعلتك ما أنت عليه اليوم!
– حيّرتني.
– أترى، الكتابة مسألة معقّدة، النقد أقرب إليّ، يجعلني متأمِّلًا لكلّ ما يدور في رأسك ورؤوس زملائك الكتّاب في هذا العالم، ودعني أعترف؛ إنه متعة أيضًا، حيث يتيح لي النقد، كعاشق لكرة القدم، أن أجلس في مدرّجات كلِّ واحد منكم، وأرى أفكاركم تتصارع:
حين يحقق أحدكم هدفًا أفرح، وحين يُضيِّعه أحزن. بعضكم يقدّم مباراة ولا أجمل، وبعضكم يخذلنا. بعضكم يفاجئنا بما لم يخطر ببالنا! بعضكم يلعب مباراة مثل مبارياته السابقة. بعضكم يفاجئنا بلاعبين كنا نحسّ أنهم سيبقون خارج الملعب، مُهمَلين، فيُخْرِجُ المدربون؛ أي أنتم، أهم اللاعبين في فرقهم، ويدفعون بهؤلاء الثانويين إلى بؤرة الحدث فيُغيِّرون مسار اللعبة! بعضكم يغيّر أساليبه، وبعضكم يقلّد نفسه، وبعضكم يقلّد أسلوب الفريق الخصم في الملعب نفسه أو خارجه. بعضكم يتسلل في اللحظة الخطأ، خارج نصِّه فيخسر هدفًا، بعضكم يبدأ رائعًا ثم يأخذه التعب في آخر الكتاب. بعضكم يرتبك في البداية فيواصل ارتباكه حتى النهاية. بعضكم يدخل الملعب مغرورًا واثقًا بإنجازاته السابقة، فيتحطّم. بعضكم جاء ليكسب، ويكسب إلى حين فعلا. بعضكم يلعب بسلاسة ساحرة، وبعضكم يلعب بتبسيط قاتل. بعضكم يلعب بحنكة مركّبة لكنها ممتعة، وبعضكم يحاول أن يفعل ذلك فيبدو ملفّقًا.
هل أنتقل إلى لاعبيكم؟ أعني شخصيات كتاباتكم: بعضهم تكون العلاقات بينهم وبين «زملائهم» في الملعب، أعني النصّ، مفككة، وغالبًا ما يكون هؤلاء مفككين على مستوى بنيتهم الفكرية والنفسية. بعضهم يتسلل للعب دوْرٍ غير مُعَدٍّ له، فيتسبب في كارثة. بعضهم يتحلّى بحسّ عميق بالمسؤولية، يتألق، لكن يترك الآخرين يتألقون. بعضهم أنانيّ، وبعضهم كريم معطاء. بعضهم متهوّر، وبعضهم يعرف أين يضع قدمه تمامًا. بعضهم تناحُري مع نفسه ومع الآخرين، من هم بجانبه، ومن هم في الجهة الأخرى من الملعب. بعضهم ثأري، عنيف حيث لا يستوجب العنف، وبعضهم دموي حقًّا، يلعب ليسحق. بعضهم يلعب ليسمو. بعضهم لا يعترف بجمال خصمه، لأنه يحسّ أن هذا الجمال كاشف لمواطن قبحه. بعضهم يلعب بشرف، وبعضهم يختلس كل فرصة سانحة ليحقق النصر بأي ثمن. بعضهم يدافع عن مستوى المحيطين به، وحقهم في النصر، وبعضهم يريد النصر كله له. بعضهم يعمل بجهد لأنه مؤمن بالعمل، وبعضهم لا يفكر في شيء مثلما يفكر في تحويل جهده إلى سلعة. بعضهم يلعب ليحصد ما أمامه، وبعضهم يتعلّم من كل نجاح يحققه منافسه. بعضهم يسعده أنه يسعدنا، نحن الذين نتابع أدقّ التفاصيل من خارج الملعب، وبعضهم يرى أنه أكبر من الملعب نفسه. بعضهم يعطيك طاقة إيجابية، وبعضهم يعطيك طاقة سلبية. بعضهم يعلّمك أن تكون إنسانًا، وبعضهم يوقظ أسوأ ما فيك من غرائز متوحشة. بعضهم يُبكيك فرحًا لفرط رقَّته، وبعضهم يبكيك ألمًا لفرط قسوته..
وهكذا أنتم، أعني الكتّاب، بعضكم ينسى أن الكتابة فن، كما هي كرة القدم فنّ، وبعضكم لا ينتبه إلى حقيقة أن الكرة ليست مجرد شيء يتدحرج على أرضية الملعب، ولذا لا ينتبه إلى أن الكتابة ليست مجرد كلمات تتوالى فوق الصفحات البيضاء. ويصمت قليلاً، ويسألني: هل أواصل؟
– لا. أظن أن هذا يكفي.
– بصراحة، أحسّ بأنني أستمتع أكثر حين أتفرّج عليكم، أكثر بكثير مما لو كنت منكم!
* من «طفولتي حتى الآن» نيسان/ إبريل 2022
*القدس العربي