«البئر الأولى» عنوان السيرة الذاتية للناقد جبرا إبراهيم جبرا وهو يقصد به الطفولة، حيث تنز الذكريات والمشاعر والمواقف الانفعالية والمدارك العقلية والحسية على باقي العمر، مثلما ينز ماء البئر في عمقه فيشكل رصيده وسطحه معا، عنوان يعني تأثير الطفولة على بقية العمر وقد قيل إن الإنسان طفل كبير.
في فجيج أو فكيك تلك المدينة التي تقع في الجنوب الشرقي من المغرب، حيث يمتد الطريق إلى بني ونيف (الجزائر) وتنتشر هناك بعض الأحجار التي تحتوي على نقوش لها علاقة بـ(أمون رع) طيبة في مصر، كما أن فجيج إحدى البوابات الرئيسية التي يطل منها المغرب على الصحراء الكبرى، حيث الطرق التجارية منذ العصور الوسطى تمتد إلى بلاد السودان وشرقا إلى مصر وطريق يمتد من فجيج إلى سلجماسة (تافيلالت) ثم إلى تومبوكتو والآخر إلى غدامس فطرابلس. ربطتها صلات قوية بالجزائر أيام الاستعمار الفرنسي للشمال الافريقي، مدينة تتكون من سبعة قصور وقصر زناكة هو الحي الذي ولد فيه محمد عابد الجابري عام 1935 من عائلة تمتهن التجارة، فقد مارس الأب أعمال البناء كأبيه، ثم امتلك مخبزة، وأخيرا اشتغل بالتجارة في وجدة وبوعرفة في المواد الغذائية. وينحدر الجد للأم من سلالة العالم الزاهد عبد الجبار الفجيجي، حيث ضريحه في مدينة فجيج، وقد أسرّ المستشرق الفرنسي جاك بيرك للجابري أثناء ندوة فكرية في واشنطن عام 1982 أنه يمتلك مخطوطات لهذا العالم ينوي تحقيقها وإخراجها مستقبلا لكنه مات ولم يفعل.
عزلة المكان فرضتها الجغرافيا ثم الاحتلال الفرنسي، لولا الطرق التجارية وبعض الأعمال التجارية والفلاحية، التي خففت من عزلة السكان العرب والأمازيغ، وقد تعرضت المدينة لوباء الطاعون وكان الجابري الطفل ضحية لذلك الوباء، الذي خلده الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته «الطاعون» وقد فتك بالمدن الجزائرية كذلك. مدينة تخضع للعرف والتقاليد الدينية العريقة، لكنها تحيا في إطار من التكافل والتعاون الاجتماعي، وبهما جابه السكان أثقال التاريخ والمكان معا، وتلك مزية تخص كامل الشمال الافريقي خاصة مع الغزو الأجنبي منذ العصور القديمة.
طفولة الجابري
في هذه الأحياء السكنية في تلك المدن كفجيج يتعايش الجن مع البشر، فالنهار للبشر والليل للجن، الذين يستدل عليهم بطرقاتهم، وحيث لكل فتى وفتاة جني متربص ربما احتاج الأمر في إخراجه إلى طقوس معينة. وقد وقع حدث تاريخي في طفولة الكاتب كان له أعمق الأثر وأرخ به الناس هناك، وهو سقوط سقف المسجد أثناء لكزه فاستشهد ثلاثة أطفال منهم صديق الكاتب (حمو زايد) وكاد هو يهلك لولا تدخل الأم في الوقت المناسب. هذه الأم (الوازنة) كما تدعى التي عادت إلى بيت والدها مطلقة وفي أحشائها جنين في شهره السادس بمشيئة حماتها، وقد قدر للجنين أن يولد ولدا سمي محمد وتعهده جده وأمه وأخواله بالتربية والرعاية الخاصة، وقررت الأم عدم الزواج حتى يشتد عوده ويعود إلى بيت والده مؤدية ضريبة كبرى بالإخلاص والصبر والتضحية والصمت، ومن كلا الأسرتين لقي حفاوة ورعاية خاصة، لعله الشعور بالإشفاق على ولد يعيش بعيدا عن والده.
ولم يكن للتعليم أيام الحماية الفرنسية على المغرب غير سبيلين، فالتعليم التقليدي الذي يقتصر على الكتاتيب وقد التحق به الطفل وحفظ ما تيسر من سور القرآن، ثم التعليم العصري تحت إشراف السلطات الفرنسية وهو تعليم يسير وفق مناهج الاحتلال، بغرض تكوين نخبة بيروقراطية تعمل في الإدارة تحت إشراف المحتل عينه، وما تبقى من المتعلمين تحشي رؤوسهم بمعلومات مضللة تكرس هيمنة الأبيض ورسالة المستعمر في تحضير الشعوب البربرية وسيادة الحضارة الأوروبية، فترسخ في الأنفس عقدة الشعور بالدونية من قبل الشعوب المحتلة والشعور بالتفوق من قبل المحتل الغاصب، وكثير من الأولياء كانوا يرفضون تسجيل مواليدهم ويتهربون من التحاقهم مستقبلا بهذه المدارس – إلا تحت التهديد والوعيد – لأنهم يعتبرون ذلك خيانة لتقاليدهم وأصولهم، وقد انتسب الطفل محمد إلى هذه المدرسة قليلا (ليكول) ثم حدث حادث تاريخي كبير سوف يقدر له أن يغير مسار التعليم في المغرب، ويؤكد الروابط التاريخية بين الشعبين المغربي والجزائري، وتلاحم نشاط الحركة الوطنية، وكان الحاج محمد فرج هو بطل هذا التغيير في فجيج بافتتاحه ونخبة من وطني المغرب مدرسة النهضة المحمدية، وتعد تلك الجهود امتدادا لجهود الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وسلفية الحجاز، التي أرادت تخليص الدين من أوضار الشرك والوساطة والبدع والشعوذة والحملة ضد الحجاب وزيارة الأضرحة والتبرك بها، وكان لجماعة النهضة المحمدية علاقات بجمعية العلماء في الجزائر، وكان والد الجابري مدمنا على مطالعة جريدتي «العلم» المغربية و»البصائر» الجزائرية وهي لسان حال جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، بل إن مدارس التهذيب كانت منتشرة في الجزائر تحت إشراف جمعية العلماء، ورأس مدرسة «تهذيب وجدة» جزائري كان يتعاطف مع الحركة الوطنية المغربية.
وقد انتسب الجابري إلى مدرسة النهضة المحمدية، وتعلم العربية الفصحى بعد أن كان لسانه أمازيغيا، كما ألم بالفرنسية في المدرسة الفرنسية (ليكول) وتفوق حتى نال الشهادة الابتدائية مواصلا تعلمه في وجدة، فالدار البيضاء بفضل جهود الوطنيين من المغاربة، وعلى رأسهم جماعة النهضة المحمدية التي كان الحاج محمد فرج أحد قادتها. وفي الدار البيضاء واصل تعلمه ليقرر أخيرا الاشتغال في محل للخياطة لأحد أعمامه نهاران والتحضير للبكلوريا ليلا كمترشح حر، وفعلا نال الشهادة بجدارة عام 1957 وكان الشهيد المهدي بن بركة هو من تلا اسمه ضمن أسماء الناجحين.
قرار الاجتهاد بالانتظام في الدراسة منذ أيام الكتاب وليكول ومدرسة النهضة المحمدية وإعدادية وجدة والمرحلة الثانوية في الدار البيضاء والعصامية في التحضير للبكلوريا ونيلها بجدارة مع ظروف الشغل حتى إنه اضطر لممارسة التعليم لفترة، والصحافة في جريدة «العلم» المغربية بتوسط من المهدي بن بركة، ليقرر بعهدها السفر للدراسة في الشام على غير عادة الطلبة من الشمال الافريقي، فالغالبية يفضلون السوربون في فرنسا، أو كليات الأزهر والآداب في القاهرة، لكن الجابري اختار سوريا.
مرحلة دمشق
في هذه البواكير تميز الفتى محمد بالمثابرة مع الاستقامة والنزاهة والحظ السعيد، فقد نجا من الموت بالطاعون ومن القتل لما خرج أيام حضر التجوال في الدار البيضاء، فمرت الرصاصة قريبا من رأسه، كما دأب على الرغبة في العمل الجاد والعزوف عن الأضواء، وهي صفة تكرست في مسار حياته، فهو نفسه الذي سوف يرفض جوائز سخية في ما بعد كجائزة القذافي وصدام حسين والترشح لجائزة الملك الحسن الثاني، وغيرها في حين يتهافت غيره عليها تهافت الفراش على النور. عاش الجابري عاما دراسيا في دمشق 1957/1958 والشام رمز للعروبة، حيث دمشق تتدلى من شرفات منازلها عرائش الياسمين ودمشق الشعر والجمال، وشهد تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر، والمد القومي، واحتار في بقية المشوار المؤهل لدخول الجامعة، هل هو المسار العلمي بالاشتغال بالرياضيات والكيمياء والفيزياء؟ وقد آنس من نفسه القدرة على التجريد والبرهنة والتحليل؟ أم المسار الأدبي بالاشتغال بالنقد أو الشعر؟ أمر لم يحسمه إلا حين قرر العودة إلى المغرب بالانتساب إلى كلية الآداب في الرباط وحسم الأمر بالاشتغال في الفلسفة.
في سيرته الذاتية الموسومة «حفريات في الذاكرة من بعيد» التي كتبها مسلسلة عام 1996 ونشرها في «الشرق الأوسط» و»الاتحاد الاشتراكي» المغربية ثم جمعها في كتاب ونشره عام 1997 عن مركز دراسات الوحدة العربية في 247 صفحة، في مقدمة وسبعة فصول ونصوص البواكير الأولى وحوار أجراه معه حسن نجمي من جريدة «الاتحاد الاشتراكي» وعلي أنزولا من «مجلة المجلة» اللندنية حاول الوفاء للعنوان بالالتزام بمدلوله باعتباره عتبة يلج من خلالها القارئ إلى دهاليز النص ومساربه بالحفر في ذاكرته من بعيد، أي البعد الذي يفرضه التقدم في الزمن والبعد الذي يحاول فيه الكاتب تأمل هذه الحياة الأولى بشيء من الموضوعية، حيث يستحيل التخلي تماما عن الذاتية وهو ما تشعر به الإحالة على كلمة (صاحبنا) الواردة في السيرة والإحالة عليه كذلك بضمير الغائب (هو) التزاما بالمسافة ـ مسافة الأمان- اعترف في المقدمة بأنه احتار في تسمية ما يكتبه هل هو من قبيل السيرة الذاتية، أم المذكرات، أم الاعترافات؟ لكنه خلص إلى أنه التأمل في نهر الحياة من موقعه الحالي زمن الكتابة، مقتبسا عن فوكو مصطلحه الشهير الحفر الأركيولوجي فهو يحفر في الذاكرة مستبينا طبقاتها الفكرية والشعورية المترسبة على مدى العمر، متفاديا ذكر بعض الأسماء تفاديا للإحراج.
المحيط العربي والأمازيغي
بقدر ما مارس الجابري الحفر المعرفي في سني عمره الأولى، وفي تفاعله مع محيطه العربي والأمازيغي وبيئته الجنوبية، في علاقاتها بالجوار وبالصحراء الكبرى ومقاومتها للاستعمار ورفضها للانصهار في بوتقته شأن جميع المدن المغربية، ومدن الشمال الافريقي، وبعد أن مارس الكاتب الحفر في طرائق التعليم وتشريح مناهجها في النصف الأول من القرن العشرين وجهود الحركة الوطنية في البعث والإحياء ومقاومة المتزمتين والمحتلين معا، ولم يتكرس هذا الاستقلال إلا عبر نظام تربوي بث القيم الوطنية وبلور الشخصية الوطنية، تلك المهام التي اضطلعت بها جماعة النهضة المحمدية وسائر أطياف المغرب نخبا سياسية وثقافية ونقابية.
وبقدر ما مارس الكاتب كذلك عملية التطهر من الشعور بالذنب، إزاء الأم هذه القانتة الصابرة الصموت، كما وصفها التي ضحت بالكثير لأجله فقد رفضت الزواج حتى يكبر ثم تزوجت من فقيه الكتاب الذي تعلم عنده الفتى وتطلقت لتعيش عند أحد إخوتها في وجدة ثم تستسلم للمرض والموت عام 1957 .حينها لم يشعر الكاتب وقد كان شابا بالفداحة والخسران العظيم والألم الممض والشعور باليتم والوحدة، بل شيع جنازتها في الظهر ليحضر دروس المساء بقليل من التأثر، عاد في هذه السيرة ليخصص لها فصلا كاملا كتبه بدموعه وزفرات نفسه وشهقات روحه.
سيرة ذاتية للبئر الأولى وبواكير الشباب يتخللها الاعتراف والمذكرات بما حوته من صور ووثائق ونصوص لهذا المفكر، الذي شرح العقل العربي وقسمه إلى عقل بياني وبرهاني وعرفاني، وكان العقل البرهاني من نصيب أهل المغرب والأندلس والعقل الإشراقي والعرفاني لأهل المشرق، فاستعدى عليه طائفة من النقاد أشهرهم جورج طرابيشي، وكان بهذه الأطروحة مالئ الدنيا وشاغل الناس قارب في هذه السيرة التي يتخللها التواضع علاقته بالمرأة في صورة الجدة والأم والزميلة والحبيبة، كما قارب في هذه السيرة التي تساءل عن طبيعتها وتصنيفها عبر ممارسته الحفر المعرفي كذلك في جغرافيا التمدن بين حضارة البدو الخشنة ورقة الحضارة وحضارة العصر الحديث، مع شعور جارف بالأمانة والمسؤولية كونه يكتب التاريخ كذلك في علاقته بوطنه وتفاعله مع أحداثه بعيدا عن الزهو والإحساس بالامتلاء إلى حد النرجسية، وهي ليست من ميزات المفكر النقدي.
*القدس العربي