تجربة مختلفة من نوعها خاضتها الكاتبتان الكويتيتان استبرق أحمد وأفراح الهندال، مع الكاتبة السورية سوزان خواتمي لإنتاج كتاب مشترك بعنوان: “مرصد المتاهة”، وهو عنوان لافت بما يتضمنه من تناقض، وقد يثير الفضول أكثر مما يجيب عن سؤال المضمون.
قامت فكرة الكتابة المشتركة في هذا الكتاب، الصادر عن منشورات “تكوين” في الكويت، على اختيار الكاتبات الثلاث مانشيت لخبر مما تتداوله الصحافة في العالم، وبناء على تفاصيل الخبر راحت كل كاتبة تكتب نصاً مستلهماً منه. وقامت الفنانة إيناس عمارة بوضع تصور فني لشكل الخبر الصحافي الذي يسبق النصوص.
الأخبار العالقة في المشهد هي عناوين فرعية للكتاب، وجاءت ربما لتحاول توضيح الأساس الذي بنيت بناء عليه فكرة الكتاب. وعلى الرغم من أن هذا الشكل المتفق عليه قد يبدو نموذجاً لعالم كتابة يدور في فلك واحد، لكن النصوص في الحقيقة جاءت لتمنح إحساسين متباينين، الأول هو التناغم بين الكاتبات الثلاث في إيقاع النصوص، لكنّ التجارب في المقابل جاءت مختلفة، أسلوبياً وتقنياً. فبينما تختار الكاتبة استبرق أحمد مثلاً تقنية تجريبية حداثية لكتابة نص ما، يأتي نص سوزان خواتمي تفصيلياً وواقعياً وكاشفاً للقارئ ما يريد أن يعرفه بالتدريج، بينما يجيء نص أفراح الهندال مزيجاً بين التجريب واستخدام السخرية مثلاً.
القبض على امرأة
ولكي تبدو الصورة أكثر وضوحاً نأخذ مثالاً من بين نصوص الكتاب، فنجد خبراً في قصاصة يقول، “قبضت الشرطة على امرأة بتهمة إلقاء القمامة في مناسبات عدة من مسكنها في الطابق 21 في مدينة كوبة عاصمة هيوغو في اليابان. وأشار محققون أن ميهو شيمومورا العاطلة من العمل ألقت النفايات مرتين في ديسمبر بما في ذلك قوارير زجاجية”.
هذا الخبر كان المحرك والملهم لثلاث تجارب سردية لثلاث كاتبات، فكتبت استبرق أحمد نصا بعنوان “متاهة ليلى”، نرى فيه فتاة تجلس لتكتب محاولات مختلفة، ينصت إليها ذئب لا تعجبه أفكارها السوداوية ويطلب منها تعديل ما تكتبه، بينما تنصت لهما الجدة في موضع قريب منهما. وسرعان ما نتبين أن النص هو لعب على النص التراثي الشهير المعروف باسم “ليلى والذئب”، لكن الكاتبة تأخذه في سياق مختلف تجريبي، ويقدم أيضاً رؤية فنية لمضمون الخبر الاستهلالي.
أما أفراح الهندال فكتبت هنا نصاً بعنوان “نوبة ساحقة”، وبه تسرد سيرة امرأة غريبة الأطوار، تُستثنى لسبب غامض من بين كل الجيران في أن تلقي القمامة من شرفة منزلها. ويتواطأ الجيران كافة على جعل سبب تواطؤهم غامضاً، لأنهم في الأغلب يعرفون عنها ما يجدون في هذا التواطؤ لوناً من الشفقة أو التعاطف أو التفهم لماض ليس واضحاً تماماً. أما هي فتنتظر عربة القمامة حتى تصبح في أسفل الشرفة وعلى مرمى هدفها، وحينئذ تلقي عليها كيساً أسود وتراقبه حتى يرتطم في القاع، فتبدأ بالعويل والصراخ. ويستمر النص في تفسير هذا المشهد الغرائبي الدرامي.
أما سوزان خواتمي فتسمي نصها “436 رسالة”، ونتبين أن الراوية المقيمة في مأوى للاجئين في مدينة غريبة تعاني من جارتها ومن حياتها، وتكتب رسائل يومية بشكل تبدو معها مثل مجنونة كما تصفها إحدى الجارات، وتلقي بالرسائل لاحقاً، ثم نفهم أن الرسائل كلها لأمها، تحكي فيها ما تعانيه.
قدمت هذه التفاصيل فقط لكي يتمكن القارئ من فهم الآلية التي تشكل بها هذا الكتاب الذي أظنه قدم عدداً من المفاجآت السردية بالفعل في هذا الإطار.
اللافت أن القصص ال 18 في “مرصد المتاهة”، و لكل كاتبة ست قصص، لا تكاد تشير إلى البيئة المحلية للرواة أو لمواقع السرد، كما لو أن ثمة اتفاقاً ضمنياً بين الكاتبات أن يمنحن هذه النصوص سمتاً عولمياً، بما يشكل دلالة مهمة على تشابه الهم الإنساني في أرجاء واسعة من العالم، وأينما كان موقع الأبطال أو السكان.
بعد عالمي
الخبر الذي يقع في أية بقعة من العالم من الممكن أن يكون له صدى في أي بقعة أخرى، ولدى أشخاص قد يكون لهم ظروف أخرى. لكن سلوكياتهم قد تهديهم إلى أفعال متماثلة، أو على الأقل قد يبدو أن أزمة إنسانية لها طابع كوني يتصرف إزاءها كل شخص، وفق ظروف بيئته أو مكانه.
ثمة نوع من الانسجام التام في التجربة التي قد تجعل القارئ عقب القراءة الأولى لا يميز كثيراً بين أسماء الكاتبات، فالبراعة والابتكار واللغة من النضج بحيث لا يمكن أن تُميّز كاتبة عن الأخرى. لكن في الحقيقة من خلال قراءة ثانية قمت فيها بقراءة نصوص كل كاتبة من الكاتبات الثلاث بالتتابع، أمكنني تمييز خصائص سردية تميز كل كاتبة. فعلى سبيل المثال تبدو استبرق أحمد كاتبة تجريبية بامتياز، مولعة باختبار الواقع في مختبر الغرائبي أو الخيالي، تجرّب الحوار السردي مع الحكاية الشعبية أو مع نصوص أخرى مثل “1984” لجورج أورويل، وتنطق ما لا نألف استنطاقه، وكذلك تمتح من عوالم الخيال العلمي في إحدى القصص.
بينما تبدو أفراح الهندال بلغتها الناضجة البليغة ميالة للعب على كسر توقعات القارئ، باستخدام ضمير متكلم مذكر، أو بتوظيف السخرية والمفارقة المرحة من عمق المأساة البشرية، والبحث في عوالم المهمشين أو تسليط الضوء عليها في أكثر من نص، والاستعانة أيضاً بالحوار في دفع فكرة السرد.
أما سوزان خواتمي، وعلى الرغم من مجهولية هوية أبطال قصصها، لكن القارئ يمكن أن يلاحظ إذا قرأ قصصها متتابعة، ضغط هموم الشخصية السورية المعاصرة ومعاناتها، حتى لو ذكر النص هذا، اللجوء والحرب والهجرة. لكن تناول هذه الدراما لا يؤثر في تقنيات السرد التي تتسم بالرشاقة وجمال اللغة، وهي سمة عامة في هذه النصوص جميعاً.
وبهذا نجحت هذه التجربة المشتركة بالفعل في إنتاج عمل مشترك متناغم تماماً، من دون أن يفقد البصمة الشخصية لكل كاتبة، ومن دون أن تكون هذه البصمة نتوءاً في الشكل العام للنصوص والتجربة.
وجاء غلاف الفنان يوسف العبدالله لافتاً جداً في إيجاده معادلاً بصرياً بالغ الذكاء لفكرة الكتاب، وإيجاد وجه أنثوي لو دققنا النظر سنجده مرسوماً على خريطة كبيرة لمدينة تبدو فيها الشوارع والطرقات مثل متاهة لا تعرف أين تلتقي فيها مصائر البشر وأين تتنافر.
*اندبندنت