ابراهيم عبد المجيد: ماذا يمكن أن تكتب الآن يا إبراهيم

0

بعد ستين يوما في غرفة لا تغادر جدرانها إلا إلى معامل التحاليل أو معامل الأشعة، يراودك سؤال كيف تكون في زيوريخ لأول مرة ولا تراها. من النافذة على الناحية الأخرى مستشفى خاص بالعلاج النفسي، لكن حتى روادها، أو من هم قائمون فيها لا يظهرون من وراء نوافذها. يأخذني الخيال أنهم سيخرجون جميعا إلى الشوارع محتجين على حبسي كل هذا الوقت. هي مقهى قريبة كان يأخذني إليها ابني إياد الذي صحبني في الرحلة الصعبة وزوجتي. كانت زوجتي معي في الغرفة وهو يسكن في فندق قريب يأتينا كل يوم يقضي ساعات طويلة معنا.
مع الأيام نسيت أني أود أن أرى زيوريخ، كل ما كنت أود أن أراه أن ينتهي الألم الذي يأتي في العظام بعد انتهاء العمليات الجراحية، لم يضايقني أنهم بعد مرور يومين من العملية الجراحية الأولى التي استغرقت ثلاث عشرة ساعة لإزالة التكلس على الفقرة العاشرة من العمود الفقري، وعلى الضلع الواصل إليها من الصدر. لم يضايقني أنهم اكتشفوا كسرا جديدا في الفقرة الأسفل من الفقرة التي خلصوها من الورم والتكلس، كسر حدث بعد العملية ولم يكن طبعا موجودا من قبل. كان لا بد من عملية أخرى أقبلت عليها دون قلق.
كل ما فعلته هو أني رفعت وجهي للسماء طالبا من الله إذا كان يود أن يرفعني إليه فليكن أثناء العملية، وأنا رهن التخدير فلا أشعر بشيء. لكن الله أراد أن تمر العملية التي استغرقت ست ساعات بسلام. بعدها بيومين أو ثلاثة اكتشفوا كسرا في فقرة أخرى أسفل الفقرات السابقة، احترت وسألت ألم يكن يمكن وضع دعامات لكل الفقرات التي انكسرت قبل العملية؟ وكانت الإجابة أن كل الأشعة لم تُظهر ضعفا في الفقرات الأخرى ولا يمكن لطبيب أن يتعامل بالدعامات المعدنية مع فقرة غير مصابة. كانت المتابعة بعد ذلك جيدة لم تظهر كسورا أخرى، لكن الألم الذي كنت أشعر به ولا يزال وإن صار أقل، كان بشعا.
بدأت رحلة مع الحبوب والحقن المخدرة من المورفين وغيره بشكل يومي، لن أحكي شيئا مما أصابني من أمراض أخرى لم يكن ممكناً الانتظار لعلاجها هناك، خاصة آلام البروستاتا التي اشتعلت فجأة رغم الدواء الذي أحافظ عليه منذ سنوات. قدر الله وما شاء فعل ووجدت أن الافضل هو العودة بعد ستين يوما محبوسا في غرفة واحدة ومعي زوجتي تساعدني، رغم أن الممرضات هناك لم يتركنني احتاج إلى شيء، لكن وجود زوجتي معي كان مريحا لي جدا، رغم أنها أيضا لا تخلو من تعب صحي. كنت أبحث عن فرصة للحديث في ما حولنا، لكن الألم كان يمنعني معظم الوقت. كنت أشعر بالرغبة في العودة إلى الدنيا الثقافية لكن الألم يمنعني. فجأة صرت لا أعرف من أنا وأين أنا، ولولا زوجتي معي وابني إياد كنت نسيت والله من أكون وكيف ظهرت هنا في زيوريخ وهل من بلد ثانٍ سأعود إليه؟
حين وصلت إلى المستشفى توقفت عن التدخين دون أي أوامر. بعد أيام اكتشفت أن هناك غرفة للمدخنين في الطابق التالي للطابق الذي فيه غرفتي. تشجعت وصعدت إليها. الغرفة طبعا غير مسموح بالجلوس فيها لأكثر من ثلاثة أو أربعة أشخاص. صرت أصعد إليها تدفعني زوجتي أو ابني على العربة المخصصة للحركة كل ثلاث ساعات أو أربع ساعات في الأيام التي لا أكون فيها في غرف العناية المركزة. وهكذا صرت أدخن ست سجائر في اليوم أو سبع سجائر، انا الذي كنت أدخن علبتين وثلاث علب في اليوم وأسعدني ذلك. صاروا يعرفون في المستشفى أني أصعد أحيانا إلى غرفة التدخين، فصاروا إذا أرادوني لشيء ما، ولم يجدوني في الغرفة يصعدون إليّ أو يرسلون من يخبرني بضرورة النزول.
في غرفة التدخين رغم قلة المرات التي أصعد فيها إليها كل يوم، قلت سأجد فرصة للحكايات. نساء ورجال مكسورو الأقدام أو السيقان أو الأذرع أو المفاصل أو ما تشاء من العظام، فصرت أشعر مع كثرة من أراهم في غرفة التدخين، أو في الطريق بين الحجرات، بأنني في جزيرة المكسورين وذوي العاهات. عرفت كثيرا منهم خاصة من يستطيعون التحدث بالإنكليزية، فأنا لا أعرف الألمانية، وقابلت ثلاثة من المصريين وشاباً سعودياً وصديقيه معه، لكن الحديث مع الأجانب هو الذي توقعت فيه جديدا. هل سأكتب يوما قصة أو رواية عن جزيرة العاهات. لا أعرف. لا أكتب فنا عما أراه إلا بعد سنين حين يكاد يغيب عن الذاكرة ويبدو كحلم قديم. المقالات هي الطريق، لكن الألم كان يمنعني، ما معنى أن تكتب وأنت تصرخ؟ هل ستستطيع منع صوت صراخك أن يصل إلى الجريدة أو المجلة مع المقال. الأفضل أن تنتظر. وها أنذا أعود للكتابة دون صراخ مسموع، وأتمنى أن استمر فيها لا يعطلني مشوار العلاج المقبل. ظللت لوقت طويل لا أرد على المكالمات التي تأتيني من الدنيا. لم أشأ أن يسمع أحد صوتي مختنقا حزينا، وأن يرى دمعي أثناء الحديث. حدث ذلك مرة واحدة بكيت فيها وأنا أرد على مكالمة خليل النعيمي، تركته هو أيضا متأثرا يبكي وقررت، أن لا أرد إلا قليلا وعبر الرسائل. لم يكن البكاء مما أنا فيه لكن الرسائل الجميلة والمكالمات من الأصدقاء والكتابات التي انثالت على صفحات الميديا في محبتي، كانت تذكرني أن لي وطنا أكبر من بلدي. وطن هو الثقافة والإبداع فلماذا يحرمني الألم منهما؟ قررت أن أهرب إلى زمن آخر. في الغرفة شاشة تلفزيونية متصلة بقنوات كثيرة منها اليوتيوب. وجدت عليها خزينا ضخما من الأفلام المصرية القديمة. دخلتها أنا وزوجتي طول الوقت. هي لتستعين على الوقت وأنا مثلها واستعين على الألم. وجدت أن كل أبطالها فارقوا الحياة. قلت فلأذهب إليهم لأظل حيا. فريد شوقي وزكي رستم ومحمود المليجي ورشدي أباظة ومحمود ياسين ونور الشريف وعمر الشريف وأحمد رمزي وشكري سرحان ونجيب الريحاني وأنور وجدي وإسماعيل ياسين وعماد حمدي وكمال الشناوي وتوفيق الدقن ومحمود مرسي وعادل أدهم وتحية كاريوكا وهدى سلطان ونادية لطفي وفاتن حمامة ومديحة كامل وماجدة وشادية وزبيدة ثروت وماري منيب وغيرهم الكثير. رأيت أفلاما من ثلاثينيات القرن الماضي حتى السبعينيات 90% من أبطالها رحلوا. تعمدت أن أشاهد أفلام المغامرات والضرب والقتل وغيرها في الريف والمدن، وصارت تجعل الحياة حولي متحركة. صرت كلما أشارت زوجتي إلى فيلم رومانسي أقول لها ابحثي عن الضرب. إنهم لا يضربون بعضهم.. بل يضربون الوقت. صرنا نشاهد عشرة أفلام تقريبا كل يوم وأنا ممدد على السرير ولا نمل، حتى لو غلبنا النوم قبل منتصف الليل. لم أجد معنى لقنوات الأخبار، فقد أخذتني الأفلام عنها. لا جديد أعرفه منها.. صار الأموات من الفنانين هم طعم الحياة. تذكرت معهم كل السينمات التي شاهدت أفلامهم فيها، وكل أصحابي أيام الطفولة والصبا، الذين رحل أكثرهم وأخفت الدنيا الباقين عني.. أقمت بهم خيمة من الحياة. الحقيقة أن خيم الحياة التي أقامها الفن لا تضيع. تعطيك الأمل كما تعطيك خيم المحبة من الأصدقاء من الفنانين والقراء.

*القدس العربي