ابراهيم عبد المجيد: الحاج مدبولي… المكتبة الوطن

0

من رأى الحاج مدبولي مرة لا يمكن أن ينساه. رجل بسيط المظهر يرتدي جلبابا نظيفا ويتحدث بصوت أشبه بالصمت، ويصل بالحديث إلى منتهاه بسرعة، فهو يعرف ما يريد الشخص الذي يقف أمامه، قبل أن يستطرد في الحديث.
من أين جاءته هذه الخبرة البشرية؟ إنها قصة الكفاح، فالحاج مدبولي منذ الخمسينيات من القرن الماضي كان على صلة باليساريين المصريين، ورأى فيهم أفقا حقيقيا لحل مشكلات المجتمع. وبينهم ومنهم كانت خبرته بالحياة الثقافية. خبرة المتفائل دائما الذي بدأ صغيرا في بيع الكتب، ثم صار أبرز البائعين والناشرين، وصارت مكتبته علامة على القاهرة. فهنا تجد الممنوع من الكتب والجديد المغامر، وإلى هنا كانت تأتي الكتب التي لا يوافق عليها نظام عبد الناصر ولا السادات في ما بعد.
أول مرة التقيت به فيها كانت ربما عام 1971 أو 1972، وكنت أتيت من الإسكندرية لأتقاضى مكأفاة قصة نشرتها في مجلة «الطليعة» المصرية. كانت أمنيتي أن أذهب إلى مكتبة الحاج مدبولي لأشتري الكتب الممنوعة في مصر وتصدر في بيروت. ذهبت إلى المكتبة مترددا. كانت هناك «فَرشَة» كتب ذلك الوقت على الرصيف أمام المكتبة التي تقع في ميدان طلعت حرب. ذهبت ووقفت أمام الفرشة، وكان هو ينظم بعض الكتب، ولما انتهى اقتربت منه وقلت له أنا من إسكندرية واسمي فلان وجئت القاهرة لأتقاضي مكافأتي من مجلة «الطليعة» وهناك كتب أريدها لا أراها هنا. ابتسم ابتسامته الصغيرة جدا ونادى أحد الباعة وقال له بصوته الهادئ أن يأخذني إلى المخزن خلف المحل. هناك وجدت ما أريد من كتب عن الماركسية وعن أصولها وعن المعتقلات المصرية. خرجت ومعي عدد من الكتب زاد سعرها عن العشرة جنيهات. وقفت أمامه وأخرجت من جيبي خمسة جنيهات وقلت له سأعيد بقية الكتب لكنه نادى العامل نفسه وقال له «إعمل له صفحة» وكانت هذه صفحة «الشكك» ولم يكترث إني من الإسكندرية وبالتاكيد سأتأخر في العودة إلى القاهرة. لقد كانت كلمة مجلة «الطليعة» هي مفتاح الثقة.
صارت زيارة المكتبة أحد عوامل الإسراع في زيارة القاهرة، حتى انتقلت إليها بشكل دائم، وصارت الصفحة موجودة تزيد وتنقص حتى صرت قادرا بعد عدة أعوام على الدفع الفوري. لم تعد لي مشكلة مع أي كتاب مطبوع خارج مصر ممنوعا، أو غير ممنوع. وتمر الأيام ونفاجأ بأن الحاج مدبولي في بداية التسعينيات حكمت عليه المحكمة بالسجن مع مؤلف رواية مصري هو علاء حامد مؤلف رواية «مسافة في عقل رجُل» وكانت قضايا كثيرة قد تم رفعها على الرجل من قبل، بسبب الكتب المحظورة لكن لم يتم الحكم عليه فيها.
كانت صدمة كبرى لنا، وكتبنا كلنا ضد ما حدث، وفي لقاء مع الرئيس حسني مبارك في معرض الكتاب عرض أحد الكتّاب المسألة على الرئيس، والحقيقة أن حسني مبارك لم يتأخر وألغى الحكم أو أوقفه عن الجميع، الكاتب والناشر.

صرت كاتبا وصارت لي أعمال منشورة في دور النشر القومية أو الدور الخاصة. وذات مساء كان يقف أمام الفرشة وسألته عن روايتي «المسافات» المنشورة ذلك الوقت في دار المستقبل العربي، فنظر إليّ وقال بصوته الهامس الأليف «أنت كتبك مطلوبة والرواية مش موجودة إيه رأيك نطبع لك كل الكتب؟»، على الفور وافقت في فرح فقال لي أن أدخل إلى المحاسب يتعاقد معي. وهنا ظهر الكرم الهائل لبائع كتب يعرف قيمة من هو أمامه، لأنني طلبت من المحاسب أن يكتب في العقد بندا يسمح لي بطبع رواية كل عام في مكتبة الأسرة. تردد المحاسب ثم خرج إلى الحاج مدبولي وعاد مبتسما وقال إن الحاج وافق على طبع ما تريد في مكتبة الأسرة. كان ذلك تقريبا عام 1997. انتهيت من التعاقد وخرجت فإذا به يطلب مني الانتظار، ويقدم لي ألفي جنيه نقدا، وهو يقول كتبك بتبيع يا أستاذ غبراهيم . بعد عام طلبت مني دارالشروق أن تعيد طبع ما نشر لي في كتب مفردة. كانت طبعة مدبولي في مجلدين بعنوان «الأعمال غير الكاملة». المدهش أنني حين حدثت الحاج مدبولي بذلك وافق على الفور. كان الأمر مذهلا لي. وكان رده الذي لا أنساه» كتبك ماشية. مافيش مشكلة». أي نوع من الناس كان هذا الرجل الذي يعرف احتياج الكتاب فلا يغلق أمامهم أي طريق.. أي نوع من الكرم؟
٭ ٭ ٭
ليلة ما كانت من أسوأ ليالي العمر، كنت أجلس في مقهى في شارع فيصل وأمامي قناة «الجزيرة» تعرض لقاء مع الحاج مدبولي وتابعت اللقاء وفجأة قال له المذيع، إن هناك من يقولون إنك لا تعطي الناس حقوقهم ومنهم إبراهيم عبد المجيد. صرخت لزوجتي التي كانت تجلس معي من أين جاء مذيع الجزيرة بهذا الكلام الفارغ والمنحط. وأخذتها وعدت إلى البيت حزينا قرفان من كل شيء وأنتظرالصباح. المدهش أن تعليق الحاج مدبولي كان سؤالا «إبراهيم عبد المجيد قال كده؟» ولم يعلق أكثر من ذلك، فقط هز رأسه في استغراب. أسرعت في اليوم التالي إلى المكتبة ودخلت أشير إليه أن لا، وقلت له لا يمكن أن أقول ذلك أنا بالذات بعد كل ما فعلته معي، وسوف أرد على هذا الهراء. ذهبت إلى مكتب الجزيرة وفي نيتي أن أرفع قضية على البرنامج ومعده ومقدمه وأعطاني حسين عبد الغني مدير المكتب ذلك الوقت «سي دي» عليه البرنامح لأستخدمه إذا ما رفعت قضية. كنت وقتها أكتب مقالا أسبوعيا في جريدة «المصري اليوم» فكتبت مقالا بعنوان «يا قاعدين يكفيكم شر الجزيرة» كذَّبت فيه ما قيل. وبعد نشر المقال ذهبت به إليه فقال لي «يكفي هذا لا تشغل بالك» ووضع المقال بين الكتب المعروضة في الفاترينة عدة أيام ليراه أي شخص قد يفكر في الحديث معه في الأمر. رحمه الله كان لا يتحدث إلا في ما هو مفيد، ولا يقف عند سفاسف الأمور واستمرت علاقتنا طيبة، لكنني إلى اليوم لا أعرف من أين جاء معد البرنامج بهذا الكلام، وحين قابلته وسألته أن يقول لي مصدره صحيفة أو مجلة لم أصل إلى شيء.
٭ ٭ ٭
أنظر الآن إلى حال النشر في مصر، وأرى كيف كان الحاج مدبولي هو الأكثر شجاعة وكيف كان هو الرائد في نشر الأعمال التاريخية عن تاريخ مصر والأعمال الفلسفية لكبار الكتاب وكيف فتح الطريق لدور النشر الآن أن تحيي تراث أمتنا. في ذلك وقت كانت منشورات الدولة كلها في كفة، ومنشورات الحاج مدبولي في كفة أخرى. حتى انني أستطيع أن أجزم أن كل ما تقدمه دور النشر من ترجمات وإعادة نشر لما هو تقدمي وجديد الفكر من كتب كانت الفاتحة عند الحاج مدبولي. رحمه الله كان عَالَما وحده وكانت مكتبته بيتا أشبه بالوطن لنا جميعا، نحن الذين كنا نبحث عما هو جديد ومفارق لما حولنا من أعمال مصرية وعربية. حتى اليوم أراه أمامي كلمت عبرت من أمام المكتبة أو دخلتها قبل أن أرى الكتب.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here